عرض لرواية| «حياتي».. مكسيم جوركي

كتب – مارك أمجد

مكسيم جوركي هو واحد من أهم الآباء الروحيين للأدب الروسي، كما أجمع كافة النقاد على أنه لا يستطيع أحد أن يعرف النفس الروسية بشكل صحيح دون أن يعرج على كتابات جوركي التي اتسمت بالبساطة والشمولية في وقت واحد. فرواية حياتي على سبيل المثال لا تعكس فقط حياة الأديب بل حياة كل الروسيين الفلاحين والإقطاعيين والفقراء والبحارة والارستقراطيين والمعدمين، الشبان والفتيات والأرامل والجدود والجدات. فهي وغيرها من مؤلفات جوركي بمثابة كتالوج تتعرف من خلاله على ثغرات المجتمع الروسي وانطلاقاته، وكيف شكّلت الطبيعة هناك والكنيسة وأساليب التربية والتقويم أبناء هذا المجتمع وعجنتهم بتعاليم الإنجيل وتقاليد الآباء.
الرواية بكل فصولها مروية على لسان بطلها صغير السن الشقي الذي يصنع المقالب في القساوسة فيسرق كتبهم، ويضع الفلفل لأستاذه في الدرج حتى تهيجه الرائحة ويروح في نوبة سعال لا تتوقف، ويحب قراءة الكتب المبتذلة ويرفض أدب نيقولاي جوجول، ويتهكم بلسانه السليط من خالاته وعماته كأنه رجل يفوقهم عمرا، ويزجر جده لما يراه يضرب جدته، ولا ينال بعد كل موقف من هذه المواقف إلا الحبس في غرفته والضرب على يد والدته، التي رغم تعنيفها له تعجب بقوة شخصيته رغم صغر سنه وتعتبره رجلها. وذلك الطفل يشبه إلى حد كبير شخصية “أوسكار” في رواية الطبل الصفيح للكاتب الألماني “جونتر جراس”، بيد أن طفل مكسيم جوركي مبالغ في شيطانيته، ومن خلاله يعرّي الكاتب كل مكنونات مجتمعه الذي كعادة كل المجتمعات مليء بالتناقضات والفجوات؛ فنجد الجِد المتدين الذي يسجّل على تقويم يحمل صور القديسين التاريخ الذي أنقذه فيه الرب من قيود الشرطة بعدما افتضح أمر اختلاسه لبعض الأموال، ونجد الأم المزواجة التي لا تكترث لشأن ابنها الذي يحبها ويرعى حالها، مقابل أن يستقر بالها وحالها وتركن لرجل يهتم بها، ونجد أناسا لا تكف أرجلهم عن زيارة الكنيسة ومع ذلك لا يتورعون عن الظلم والجور وسرقة جيوب الآخرين.
أيضا من العناصر الموحية في رواية حياتي لمكسيم جوركي هو عنصر الأم، وفي هذه الرواية نجد الجدة تقوم بدور الأم، بل وتكون أكثر حنوا على الابن من أمه. ولعل هذا يرجعنا لأيقونة جوركي رواية الأم التي تم تصنيفها في وقتنا الحالي على أنها الرمز الأعلى للرواية الروسية في القرن العشرين. وهي باختصار تدور حول مجموعة من الشباب الثوريين تراعهم الأم في بيتها وتقدم كثير من التضحيات في سبيل ألا تموت ثورتهم، حتى لو وصلت هذه التضحية لبذل نفسها عنهم، ولعل جوركي من خلال هذه الرواية شرّح مجتمعه كما يليق به، مستخدما تلك المرة نموذج الأم بدلا من نموذج الطفل الصغير.

مقاطع من الرواية

“فانهمرت الدموع من عيني جدتي، وانثنى الفلاحان وهالا الدفعة الأولى من الوحل في الحفرة، فتناثر رذاذ الماء، واندفعت الضفدعتان تقفزان على جوانب القبر طلبا للنجاة. فتصدهما من جديد دفعات التراب إلى أعماق الحفرة. ثم بقيت جدتي ساكنة في مكانها مدة طويلة حانية الرأس، وقد لبثت مكانها ولن تتحرك قيد أنملة، حتى بعد أن مهد الفلاحان سطح الأرض بمعوليهما، وهبت الرياح حاملة معها الغيث بعيدا. فأمسكت جدتي بيدي وقادتني إلى كنيسة قريبة تقوم بين غابة من الصلبان السود”.
***
“لقد أثقل عليّ فشلي، فارتميت منتحبا فوق الأمتعة، وحاولت أن أنام. وما أن استيقظت حتى رأيت جدتي قابعة إلى جانبي تسرح شعرها تدمدم بينها وبين نفسها بأشياء عدة. كانت تملك شعرا غزيرا تمتزج فيه الزرقة بالسواد، ينساب بغزارة فوق كتفيها، حتى يصل إلى الأرض. وكان فمها يفغر ألما. وقد بدا وجهها صغيرا جميلا وسط تلك الغزارة من الشعر الكثيف، وعيناها السوداوان تلمعان من خلاله غضبا”.
وكعادة معظم الأدباء الكبار، نجد مكسيم جوركي مثل جابرييل جارثيا ماركيز يحيل قدرته على السرد والحكي إلى جدته وحكاياتها كل يوم قبل النوم التي لم تكن تنضب أبدا ولا تتشابه نهاياتها مطلقا، فيسند الفضل إليها هي وكل الجدات الروسيات في تكوين مخيلة أحفادهم الذين تحولوا بدورهم لأدباء عالميين يروون حكاياتهم وينصت لهم العالم أجمع.
ولد جوركي عام 1868 وكان من مؤيدي الثورة البلشفية وترأس اتحاد الكتاب السوفييت. توفي والده بالكوليرا التي قضت على كثيرين من أبناء الشعب الروسي وتزوجت أمه من بعد وفاة أبيه فتولى جدّاه تربيته، وهو ما نلحظه بقوة في رواية حياتي. واسم جوركي في حد ذاته يعني الحسرة، وكان يوقع به قصصه التي بدأ نشرها عام 1892. وبخلاف انتاجه الأدبي أجرى بعض الدراسات عن كتابات تولستوي وتشيخوف. وبسبب اهتمامه بالسياسة والماركسية نُفي مرتين إلى إيطاليا. وأخيرا توفي عام 1936 وهناك شائعات تقول أن ستاليت وقف وراء موته، وجدير بالذكر أن رماد جوركي محفوظ في جدار الكرملن.  
الرواية صادرة باللغة العربية في 310 صفحة من القطع الكبير عن دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت-لبنان من ترجمة خليل حسني، كما يتضمن الكتاب صورا تجمع مكسيم جوركي بلينين وستالين، وصورا لجوركي مع أسرته الصغيرة.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر