هالة جلال تكتب: رحلة بهاء طاهر

مكتبة أبي الكبيرة، تلامس سقف الغرفة وأنا قامتي لا تسمح إلا ببلوغ الرفوف الثلاثة الواطئة المخصصة للأدب والشعر العربي. هناك عرفت بهاء طاهر، في عمر مبكر، قرأت (قالت ضحي) لأول مرة قبل أن أعرف شيئا عن القراءة أو اللغة أو الادب. كانت الصور تقفز أمام عيوني كلما قرأت رواياته، تخيلتها أفلاما قبل أن أدرس السينما أو أقرر العمل فيها أسمع شريط كاسيت في بيتنا فيقول أبي:

– “ده بهاء”

– “ودي بنته”

كان صوته الرخيم يسال ابنته عايزة ايه يا حبيبتي؟ والطفلة ترد تاتا سيت… يضحك أبي ويفسر كانت تريد شوكلاته وبسكويت. كانت هذة الشرائط التي يسجلها أبي وأصدقائه تتضمن غناء لمحمد حمام في مجلس خاص، قصائد شعرية، نكت وكانت مليئة بالبهجة والحميمية كان أبي يسمع هذه الشرائط كلما أفتقد أصدقائه.

هذة السنوات التي لم نر فيها بهاء طاهر، كنت اسمعهم يقولون إنه مضطر أن يكون خارج البلاد. لم أكن أفهم تماما لماذا، وإنما أعرف بحكم الخبرة الصغيرة مع العائلة أنه لابد أغضب السلطة.

تابعت “قطعة أرض شرق النخيل” عندما نشرت حلقات في صباح الخير وأعطاها لويس جريس الذي كان رئيس التحرير اسم هو جملة في الرواية “لو نموت معا”.

في اليوم الذي قررت فيه أن أنشئ مكتبتي الخاصة لاستقل عن مكتبة أبي. بدأت بشراء روايات بهاء طاهر وأعدت قراءته وكان أبي يدعوني لاستخدام نسخ مكتبته بالحاح ليوفر أموالي الضئيلة ولكني كنت أرفض.

كان معيار هام بالنسبة لي لتصنيف البشر أن كانوا يعرفون بهاء طاهر أم لا، ويحبون رواياته أم لا؟

نعم كنت متعسفة في هذا العمر ولا أساوم على أي شيء وخاصة روايات بهاء طاهر.

عندما عرفت أنه عاد إلى القاهرة رتبت مواعيد له مستخدمة علاقة أبي به ليقابل كل اصدقائي المحبين لرواياته. وكان من بينهم سينمائيون يحلمون بتحويل رواياته لأفلام. وبعضهم كان بالفعل استخدم رواية له وكتبها كسيناريو لمشروع تخرجه من معهد السنيما، مشاريع كلها لم تتحقق كأفلام وإنما حققت التعارف عليه وعلى العالم من عيونه.

***

في حدث جلل تعشي في بيتنا في رأس السنة.. قضينا الليلة كلها أبي وأمي وخالي إبراهيم وأنا ومها وهدي وبهاء طاهر نتراهن أن كانت أمريكا ستضرب العراق أم لا. سنوات مرت علي هذا العشاء الذي جعلني أقرر أن أصنع فيلما عنه بسبب ما حكاه في تلك الليلة. حصلت علي هذة المنحة من المؤسسة الثقافية السويسرية وذهبت لجنيف وزيوخ واستعرت كاميرا واشتريت شرائط وحملتها علي كتفي أدور في المدن والزوايا التي استوحي منها وفيها قصصه التي شكلت خيالي في الصبا. كان يعرض دائما أن يحمل معي الكاميرا وأنا أداعبه قائلة هل رأيت أحمد رمزي يحمل كاميرا يوما لمساعد فريق العمل؟

أنا فريق العمل كله، عرفني على أصدقائه وفتح بيته وكان كريما في أخلاقه وطباعه وكل شيء عرفت جميل عطية إبراهيم معه وقضينا أياما مرحة شاقة بسبب وزن الكاميرا. أيام لا تنسى من فرط الدفء والمحبة، عدت للقاهرة لانتهي من الفيلم الذي حضر بهاء طاهر عرضه وعرض في التلفزيون المصري الفيلم بعنوان “رحلة”.

كان شعورا عجيبا كأني رأيت حلما يتحقق أو كأني في يقظتي زرت حلما أحبه. لقد أخذني لكل ركن كتب عنه الحديقة الحجرية في الحب في المنفي، محطة الأتوبيس في “بالأمس حلمت بك”، الحديقة غير العادية في “أنا الملك جئت”. كنت كلما رأيت بهاء طاهر أخجل ولا أعرف ماذا أقول له، أنا مديونة له (بين آخرين) بتشكيل وعي الأدبي والوجداني في سنوات مبكرة جدا من عمري.

مخرجة سينمائية مصرية أنجزت فيلمها «الرحلة» عن سيرة بهاء طاهر
اقرأ أيضا:

يوسف إدريس عن بهاء طاهر: «وكأنه كلما لمس شيئا تحول إلى ذهب»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر