هوجة «أصحاب ولا أعز» : الواقع في مجتمع واقع!

هوجة متوقعة، بما أن الهوجات أصبحت الشئ الوحيد الذي يشعرنا بالحركة والحياة، ونحن لا نتحرك، ولا نكاد نحيا. هوجة من الجدل حول فيلم أو أغنية أو فستان أو كلمتين قالهما شخص ما على “تويتر” تستغرق عدة أيام وتخبو، قبل أن تظهر هوجة جديدة على السوشيال ميديا، أو مواقع ووسائل الاعلام التي باتت هي أيضا رهينة الهوجات المتقطعة المتتالية، بما أنه لا يوجد قضية ولا موضوع ولا فكرة ذات معنى تشغلها سوى الجري وراء الهوجات أو افتعالها.

الهوجة هذه المرة تتعلق بفيلم “أصحاب ولا أعز” الذي أنتجته منصة “نتفليكس” وأخرجه وسام سميرة وشارك في بطولته سبعة من نجوم التمثيل في العالم العربي منهم منى زكي وإياد نصار ونادين لبكي. الهوجة كالعادة تدور حول “جرأة” الفيلم باحتواءه على ألفاظ “خارجة” ومثلية جنسية وعلاقات جنسية غير شرعية وتشويه لسمعتنا وتقاليدنا وأخلاقنا.. إلى آخر هذا اللغو الذي نصحو وننام فيه كلما ظهر فيلم أو مسلسل أو كتاب أو مقال أو صورة على الصفحات الخاصة على مواقع التواصل.

لغو حين تتأمل في منبعه ومنتهاه تكتشف أنه مجرد طاقة سلبية عدوانية تنفس عن نفسها من خلال مهاجمة الآخرين واتهامهم بصفات غالبا ما يكون هؤلاء المهاجمين أكثر من يعاني منها..لغو لا علاقة له بالمنطق ولا الواقع ولا محتوى الشئ الذي ننتقده، ولكن معركة في الفراغ ربما يهدف منها صاحبها كسب بعض الرضا من جهة أعلى، أو اثبات أنه متفوق أخلاقيا على الآخرين، أو لقلق وعدم استقرار مزمن يعاني منه وينتهز فرصة الخروج على أهون سبب على طريقة نكتة المشط ( سوف أرويها لمن لا يعرفها لاحقا).

**

هل يستحق “أصحاب ولا أعز” هذا الصخب؟

بعد أن يهدأ فوران الهوجة عادة ما يكتشف صناعها والمشاركون فيها أنها أصغر بكثير مما كانت تبدو عليه وقت اندلاع الهوجة ( يمكنك أن تتذكر بعض هذه الهوجات مثل مسلسل “سابع جار أو فيلم “ريش”) ذلك أن المسألة لا تتعلق غالبا بالعمل الذي يثار حوله الجدل، بقدر ما يتعلق بصراعات ومخاوف وأحيانا ظنون وهلاوس يعاني منها العقل الجمعي لمجتمع فاقد للتوازن والبوصلة.

لننظر إلى “أصحاب ولا أعز” في سياق أكبر من الضجة لنضعه في مكانه وحجمه الفعلي:

الفيلم من انتاج “نتفليكس”، وهي منصة عالمية ليست لأعمالها جنسية محددة. وما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أن أعمالها لا تخضع للرقابات والسلطات المحلية، وأن “أصحاب ولا أعز” فيلم أجنبي لكن ليس تابع لدولة بعينها، دور مصر فيه هو مجرد مشاركة ممثلة مصرية في بطولته، ورغم أن مخرجه وبعض أبطاله الآخرين لبنانيين لكنه أيضا ليس فيلما لبنانيا (كما ذكر د. خالد عبد الجليل مدير الرقابة على المصنفات الفنية في مداخلة تليفزيونية).

من مشاهد الفيلم
من مشاهد الفيلم

وبالرغم من أن شخصيات الفيلم عربية الأسماء واللغة، وهناك ذكر لبعض أسماء الأطعمة العربية، إلا أنه باستثناء ذلك  أن الفيلم لا يذكر أين تقع أحداثه ولا جنسية شخصياته، فقد يكونون عربا أمريكيين أو إيطاليين أو صينيين، وبالتالي أي كلام عن مدى مطابقته أو مخالفته للواقع والتقاليد هو مجرد افتراض وظن، وهو يكشف، ربما أكثر من أي عمل آخر أثار الجدل في تاريخنا، أن معظم حديثنا عن ضرورة مطابقة الفن للواقع هو مجرد لغو!

**

حكاية “أصحاب ولا أعز” “عالمية”، فهو لا يتناول واقعا عربيا بالتحديد، وقصته تدور داخل شقة مغلقة يمكن أن تكون في أي مكان. وهو مقتبس عن فيلم إيطالي بعنوان Perfect strangers صدر 2016، وحقق نجاحا كبيرا وفاز بعدد من الجوائز العالمية معظمها للسيناريو، ولإن فكرته وقصته وتفاصيله تتجاوز أي واقع محلي بعينه، لذلك أعيد انتاجه في أكثر من بلد، وقد ذكر الفيلم في موسوعة “جينيس” للأرقام القياسية باعتباره أكثر فيلم تم انتاج نسخ منه وصلت وقتها إلى 18 نسخة، وقد وصل العدد الآن بالفيلم العربي وفيلم نرويجي يتم انتاجه حاليا إلى 22 “إعادة صنع” remake!

الفيلم أنتج باللغات الايطالية والانجليزية والألمانية والكورية واليابانية والفيتنامية والهولندية والعبرية والتشيكية والرومانية والروسية والأرمنية والبولندية ولغات أخرى، بنفس السيناريو والعنوان تقريبا. ما يعني أن العالم كله لا يعتقد أن أحداثه أو شخصياته غريبة أو أنه يدعو إلى شئ غير أخلاقي إلى آخر هذا الهراء المتساقط على وسائل الاعلام ومواقع التواصل. على النقيض من هذه الظنون البائسة، المثيرون رأوا في الفيلم إدانة للكذب والخداع والنفاق والعيش بوجهين، كما رأوا فيه إدانة لاعتمادنا الطاغي على الهواتف ووسائل التواصل لدرجة أننا استبدلنا الحياة الواقعية والعائلية بالحياة الافتراضية، والكثيرون رأوا في الفيلم إعادة حديثة ذكية لفكرة طالما تناولتها الدراما منذ آلاف السنين وهي أن معظم الناس، بل كلهم تقريبا، لديهم أسرار وأفكار ورغبات لا يستطيعون اطلاع الآخرين عليها، حتى أقرب الأقرباء وأحب الأحباء.

**

كثيرون أيضا لاحظوا أن الفيلم ( مثل نسخه العدة السابقة) ينتهي بأن كل ما رأيناه ربما يكون خيالا، أو واقعا مسكوت عنه، فالشخصيات تعود لممارسة حياتها كأن شيئا لم يحدث على الاطلاق، أو كأنهم نسوا، أو تناسوا، ما حدث، أو أنهم، مثل بعض الأفراد والشعوب التي نعرفها جيدا، تنكر الواقع الذي تعيش فيه وتطلب من الفن أن يكون مرآة لأكاذيبهم عن هذا الواقع!

عندما تشاهد “أصحاب ولا أعز” أمامك اختياران: إما أن تصدق أن هذه الشخصيات يمكن أن توجد في مدينتك أو قريتك أو شارعك أو بيتك، وبالتالي فهي واقعية (نظريا على الأقل)، وإما أن لا تصدق أنها يمكن أن توجد فعليا في الواقع العربي. وأن أهل بلدك ومعارفك ومواطني بلدك وأمتك جميعا لا يمكن أن يشبهوا هذه الشخصيات، وعندئذ يمكن أن تريح بالك وتتعامل مع الفيلم على أنه يقع في بلد بعيد لشخصيات من أصول عربية يقيمون في بلد بعيد.

الاختيار الثالث هو أن تنسى الواقع وأنت تشاهد الأفلام، وأن تتعامل مع “واقع” الفيلم فقط، مثلما تفعل عندما تشاهد “سبايدرمان” و”جيمس بوند” و”علي بابا والمصباح السحري”، فالملايين من أجدادك الذين قرأوا “ألف ليلة وليلة” على مدار أجيال وعصور، لم يتوقفوا يوما ليسألوا عن ضرورة مطابقة الفن والحكايات  للواقع.

اقرأ أيضا:

“سيبرج”: كيف دفعت المباحث الفيدرالية نجمة السينما العالمية إلى الانتحار

 

 

 

 

 

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر