في محبة ميلان كونديرا.. خفة الفن التي لا تحتمل!

لم يحصل الأديب التشيكي ميلان كونديرا (1929- 2023) على جائزة نوبل رغم أنه عمر طويلا بما يتيح لأكاديمية نوبل أن تتجاهله مرة ومرات. ولكنها في النهاية نسيته تماما، مثلما نسيت أسماء غيره، أمام موجات التحديث والتصحيح والبحث عن فائزين أكثر شبابا وتنوعا لونيا وعرقيا وجنسيا.

كونديرا، الذي رحل الأسبوع الماضي عن 94 عاما، قد يكون آخر واحد في جيل الأدباء والفنانين الذين صاغوا القرن العشرين بأصواتهم ورؤاهم ونضالهم. وقتما كان يمكن سماع صوت الأدباء والمفكرين، ويمكن مشاهدة رؤى المبدعين، وقتما كان النضال بالفن والأدب يحرك بلادا وجيوش!

يساري ضد اليسار!

لن أكرر هنا ما كتب عن حياة وإنجاز ونضال ميلان كونديرا، ما يشغل مئات الآلاف من الصفحات بكل لغات العالم، وللقارئ العزيز الذي لم يعرفه بعد. فكثير من كتبه متاحة بالعربية، والإنترنت يعج بالمعلومات عنه، واسمه بالتأكيد ليس في حاجة إلى مقال تعريفي آخر، ولكن من لا يعرفونه هم الذين يحتاجون إليه.

عرفنا ميلان كونديرا بفضل الترجمات المتنوعة لأعماله خلال تسعينيات القرن الماضي. اعتقد بعد أن أصبح صوته مسموعا أكثر عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا (السابقة) وصعود أصوات المنشقين والمنفيين عن الكتلة الشرقية. وكان كونديرا ممنوعا في بلده ثم منفيا ومحروما من الجنسية منذ نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من القرن الجديد.

نضال ميلان كونديرا السياسي كان في اتجاه مختلف، بل معاكس، لنضال المفكرين والفنانين اليساريين في البلاد الرأسمالية. وبعيدا عن الجدل الأيديولوجي بين اليمين واليسار، والانحيازات التي كانت تحكم المعسكرين. إلا أن ما يبقى هو جوهر هذه النضالات بغض النظر عن المعسكر القادمة منه: وهو التطلع الإنساني الأبدي نحو حرية التعبير، وحرية أن يقول المرء ما يفكر فيه، دون أن يتعرض للأذى أو المنع.

كان كونديرا مصنفا كعدو لليسار. ولكن الحقيقة، التي كثيرا ما تتكشف بعد فوات الأوان، هي أن كونديرا لم يكن يعادي اليسار، بقدر ما كان يعادي ممارساته الديكتاتورية الخاطئة. هذه الممارسات التي أودت في النهاية بالمعسكر الاشتراكي كله!

ومثل كونديرا كان المفكرون والفنانون “اليساريون” يناضلون ضد حرب فيتنام والعبودية وظلم الرأسمالية على الطرف الآخر من الأطلنطي. وجوهر نضالهم لم يكن كراهية أمريكا أو الرغبة في هدمها، بل كان بدافع كراهية ممارساتها الخاطئة، والرغبة في الإصلاح.

سياسي أم ثقافي؟

ومن عجائب الأمور أنه مع مرور السنين والعقود، فإن كثيرا من هؤلاء المعارضين، بغض النظر عن المعسكر الذي يعارضونه، يلتقون في وحدة الهدف: وهو الحرية. كما أنه من عجائب الأمور أن كثيرا منهم، بغض النظر عن المعسكر الذي ينتمون إليه، يلتقون في وحدة هدف آخر، وهو الحصول على السلطة. ثم القضاء على حرية الآخرين.

أهم ما في حياة وأعمال كونديرا، والدرس المستخلص منها، هو أن المسألة ليست صراعا سياسيا. بقدر ما هي صراع ثقافي بين عقليتين: عقل على اليمين لا يقبل الحرية إلا إذا كانت على مقاسه. وعقل على اليسار يدافع عن الحرية مهما كان انتماء صاحبها.

عندما نفهم ذلك، من خلال قراءة كونديرا ورفاقه، فسوف نفهم ما يعنيه القول بأن الفنان والمبدع الحقيقي هو “يساري” بالضرورة. حتى لو كان يهاجم اليسار، وأن الفنان والمبدع “الموظف” (الذي يعمل لدى سيد آخر غير الحرية) هو بالضرورة “يميني” حتى لو كان رئيس أكبر حزب لليسار!

التغيير من أجل عدم التغيير!

يروي كونديرا في كتابه “الوصايا المغدورة” (المشروع القومي للترجمة) عن الصديقة التي راحت تتهلل مرحا عندما سمعت أن مدينة لينينجراد عادت إلى اسمها القديم بطرسبورج عقب انتهاء النظام الشيوعي. كونديرا الذي عانى أشد المعاناة تحت هذا النظام لم يفرح بتغيير أسماء المدن والشوارع. بالنسبة له فهي ممارسة “إمحاء” لا تختلف عما فعله النظام الشيوعي. وفوق ذلك فقد تذكر أن هذه الصديقة نفسها كانت “شيوعية” متطرفة في يوم ما. إلى حد أنها غضبت جدا من نكتة قالتها زوجة كونديرا حول الاتحاد السوفيتي!

مشهد من فيلم «خفة الكائن التي لا تحتمل»
مشهد من فيلم «خفة الكائن التي لا تحتمل»

يضع كونديرا الحكاية تحت عنوان “تغيير الرأي بوصفه تكيفا مع روح العصر”. ولكن بجانب هذا الوجه المتغير، حسب الموجة، للصديقة، فإن هذا الوجه يكشف أيضا عن العقلية الأحادية المستبدة التي تملكها. هذه العقلية التي لا تتقبل نكتة ظريفة إذا مست شيئا نعتبره “مقدسا”. وهي عقلية يمكنها أن تلعن هذا المقدس بضراوة عندما تغير بوصلتها.

لا يلوم كونديرا الصديقة لأنها غيرت آرائها ومواقفها، ولكنه ينزعج لإن هذا التغيير “ليس من إبداعها”. لأن هؤلاء يتغيرون لا من أجل الاقتراب من جوهر ما، ولكن من أجل الذوبان مع الآخرين، ومسايرة التغيير، وبالتالي فهذا التغير يسمح لهم أن يبقوا بلا تغيير!

بين خفة الفيلم وثقل الرواية

“خفة الكون (أو الكينونة، أو الوجود) التي لا تحتمل” هي العمل الأشهر، والأجمل، لميلان كونديرا. وقد زادها شهرة الفيلم المقتبس عنها، الذي أخرجه فيليب كاوفمان، 1988، ولعب بطولته دانييل داي لويس وجوليت بينوش ولينا أولين.

رغم جمال الفيلم، خاصة أبطاله، لكنه لا يفي بالرواية ولا يغني عنها على الاطلاق. ويعود ذلك إلى “خفة” الفيلم نفسه، لكنه يعود بالأساس إلى “ثقل” أعمال كونديرا، التي تمزج بين الدراما والحكي والتأمل والفلسفة. بإسلوب فريد يقوم على بناء سردي شديد الروعة والبراعة، ولكن شديد الهشاشة إذا حاولت نسخه أو تقليده.

اقرأ فقط المقدمة الفلسفية التي تبدأ بها “خفة الكون..” حول نظرية “العود الأبدي” التي قال بها نيتشة. متأثرا بالفلسفات الشرقية القديمة حول تناسخ الأرواح، ووجهة نظر كونديرا الثاقبة فيما تعنيه تلك النظرية من ثقل ومسؤولية وأخلاق. وما يعنيه كونها خرافة من خفة، وتفاهة التاريخ، والفراغ (إن سحب الغروب الملونة بلون البرتقال تنير كل شئ بسحر الحنين، حتى المقصلة.). ثم اقرأ المشهد الأول من حكاية توماش، واقفا في نافذته يتأمل الفراغ، متحيرا: هل يدعو تيريزا للإقامة معه، بما يعنيه ذلك من التزام؟ أم يواصل العيش وحيدا، خفيفا، متحررا؟ ثم انظر كيف يتجسد كل ذلك سياسيا، بعد قليل من الصفحات!

هذا الشعر، وهذا الفن، يصعب نقله إلى السينما، مثلما يصعب أن ننقل شعر وفن الأفلام العظيمة إلى اللغة. هذه تجارب تعاش ولكن لا توصف، يقف أمامها النقد والتحليل عاجزا.

الشعر في زمن التيكتوك!

هذه الشعر الفلسفي، أوالفلسفة الشعرية، التي نجدها في “خفة الكون..” أو في حكاية كونديرا عن صديقته المتحولة، تملأ كتاباته الأدبية والنقدية، وربما لا يوجد مواز لها سوى لدى جابريل جارثيا ماركيز، الذي كان يناضل ضد الأنظمة الديكتاتورية على الطرف الآخر من العالم، في أمريكا اللاتينية.

ولكن كل من ماركيز وكونديرا ينتميان لزمن فات. عندما كان للكتابة قيمة جمالية ونضالية، قبل زمن “البيست سيلر” وهيمنة “الميديوكر”، و”ميديوكر الميديوكر”، وفوضى الميديا والسوشيال ميديا وويكيبيديا وفنانين “التيكتوك” و”السناب شات”!

ميلان كونديرا مات، ولكن كتاباته تنبض بالحياة، مليئة بالحكايات الممتعة والتأملات البديعة عن البشر والثقافة باعتبارها أخلاقا، والأخلاق باعتبارها ثقافة.. عن الثقافة باعتبارها سياسة، والسياسة باعتبارها ثقافة.

هو لن يخسر شيئا إذا نسيناه، ولكن الأجيال الجديدة هي التي ستخسر إذا لم تقرأه!

اقرا أيضا:

في السينما المصرية والعالمية (4): بين ليالي نجيب محفوظ وماستر كلاس أحمد مراد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر