باريس المصرية

ظلت باريس حلم القوافل المصرية الثقافية والفنية.. في الثلاثينيات والأربعينيات حيث هبطها آنذاك عديد من المفكرين والمثقفين والفنانين من أرجاء العالم. وسافر إليها العديد من عشاقها من المفكرين المصريين لتشملهم لذة الانبهار بمدينة النور. مأخوذين بالحالة الباريسية حيث كان دافعهم الغالب “الصنعة” التي عرفوها عن باريس، وباعثهم الجوهري، الدراسة الأكاديمية. فضلا عن اللهو الخفي في باريس.

***

كان هذا هو حال البعض الكثير الذي حط بالمدينة محتشدا بالفضول، شغوفا بوميض المدينة.. بسحرها، يعنيهم المركز أكثر من الهامش والمحيط.. والظاهر أكثر من الباطن. هكذا كان رفاعة الطهطاوي في رحلته الباريسية في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).. وفعل طه حسين ومنصور فهمي في تسجيل مشاهدات وصور الحي اللاتيني كان المشهد الباريسي لديهم مشهدا عابرا. ويكتب حبيب المصري “صور باريسية” وأحمد ضيف “باريس في حلة بيضاء” وباريس الحب والحرب وشغل ولي الدين يكن بحنين الشاعر وبوداع باريس كأنها العذراء. وشغل زكي مبارك بذكريات حي الشباب وكنوز الذكريات وقبلات قارعة الطريق مثلما فعل هيكل في جولاته وتأملاته.

وظلت باريس في وجدان طه حسين مدينة الجد والهزل. فكيف يغادرها.. كما عرفها طلعت حرب مدينة للهو ومدينة للجد. وتمثلت لديهم مدينة الحكم العدل وروح البلدان ويراها توفيق الحكيم الفنان “مونمارتر” و”مونبار ناس” وهي “فيضان السين” لدى شوقي الشاعر وقبر نابليون أيضا. ظلت باريس في وجدان الكتاب والمفكرين والفنانين مدينة للسلوى كما في ظن أنطون الجميل، ورآها حسين صبحي ملكة الجمال المصرية في اللوفر، وعرفوا أعياد باريس، الانتخابات، الباستيل، شم النسيم، جان دارك، عيد الحرية.

***

وعندما سافر مختار إلى باريس مثلت لديه مرقص الفنون الأربعة ونضال بين الروح والجمال وبرز نزوعه لتقمص نماذج الفنانين في باريس. ظلت باريس لدى القافلة المصرية واحة التعساء ليل باريس.. باعة الكتب، المقاهي البارات المرأة كما رآها محمد تيمور وعرفتها مي زيادة كذكرى كمحجوب ثابت التي كانت لديه ذكريات الصبا.

أما محمود عزمي فقد عرف.. مظاهرات الطلبة في باريس وعرف حافظ رمضان بلاغة الآثار في باريس. كما عرفها عديد من المثقفين مركزا للدراسات الإسلامية واللغة العربية وعرفوا مقهى جامع باريس. وتمثل سليم حسن بيت الأمة في باريس.. وعرفها مصطفى عبدالرازق مدينة ساحرة، دافئة.. وجنة للخلود.

باختصار كانت باريس لديهم مجرد مشاهدات وتأملات وتجارب عابرة، مبتسرة تنقصها العمق.. والثراء الفكري إلا فيما ندر، فلم يدركوا التناقضات الحادة آنذاك.. ويعبروا عنها. ولم يروا أبعادا أخرى تمثل خبيئة في مدينة السحر الآسر – لأن افتتانهم بالمدينة أدار رؤوسهم وصرفهم عن سبر واستكناه أشياء أخرى – فكان كل البذل والجهد هو النقل وليس العقل.. والانبهار كل الانبهار.. ودهشة شملتهم في مدينة خلابة. ربما لم تكن المدينة قد استفحلت وتعقدت كما حدث الآن وهذا أجدى لأن يغفر الله لهم ما تقدم وما تأخر.

اقرأ أيضا:

من أجل كيان موسيقي للفرق الخاصة: عمارة الروح

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر