الجبانات.. ثقافة الاحتفاء المصري بـالموت تنتظر التوثيق

ربما لا توجد ثقافة احتفت بـ”الموت” والخلود في الحياة الأخرى مثلما فعلت الثقافة المصرية، على الرغم من التحولات والانقطاعات التاريخية التي مرت بها مصر على مدار تاريخها الطويل. لكن الاهتمام بالموت والحياة الأخرى أو البحث عن الخلود بمفهوم رائد علم الاجتماع المصري سيد عويس، ظل ركنا أساسيا في تلافيف العقل الجمعي للمصريين. فتولدت ثقافة الاحتفاء بالموت والمزاوجة بينه وبين الحياة في سبيكة واحدة كأية الليل والنهار.

تجلى ذلك بوضوح في عمارة جنائزية تنتشر في طول البلاد وعرضها. ترتبط في ما بينها بحبل سري، يجبر من يشاهد الجبانات المصرية الممتدة على طول الزمان والمكان، على التأمل في فلسفة المصريين ونظرتهم للموت. ومدى اهتمامهم الشديد بالحياة الأخرى وبوابتها المتمثلة في المقابر، بصورة مدهشة في تماثلها رغم اختلاف الزمن والمكان. وهي ظاهرة لم تبحث بشكل جماعي وشامل يقوم على الرصد الواسع للجبانات المنتشرة في المحافظات المختلفة.

***

يرصد سيد عويس في كتابه (الخلود في التراث الثقافي المصري) علاقة المصريين الوثيقة بالموت. فيقول: “لم تكن الحياة في بلد من البلدان، غير مصر، أكثر جاذبية، أو أكثر اشتهاء. ومع ذلك فلا يوجد، أيضا، بلد من البلدان، غير مصر، أميط اللثام عن الموت فيه بمثل هذا الوضوح”. هذه المقولة تترجم واقع معاش وحقيقة نراها رأي العين، فمن يتجول في المحافظات المصرية يرى تجسيدا حيا لهذه الثقافة الممتدة والمتعلقة بالموت وتبجيله في مظاهر احتفالية. بما يكشف عن خصيصة ثقافية توارثتها الأجيال وعبرت عن نفسها في أشكال مختلفة من الجبانات التي تواصلت على مدار قرون طويلة. ولم تنقطع رغم تغير دين المصريين ولغتهم أكثر من مرة.

ننسى في أحيان كثيرة أن الكثير من الآثار المصرية القديمة التي وصلت إلينا كانت في الأساس مقابر أو آثار ذات طابع جنائزي. فالأهرامات بناء جنائزي بامتياز، ومقابر وادي الملوك في الأقصر شاهدة على تفاعل مع فكرة الموت والخلود بأشكال مختلفة. فالمصري القديم اهتم بالموت بصورة واضحة كما هو واضح في الجبانات التي تركها خلفه. ليس للبشر فقط بل للحيوانات أيضا، أمر امتد على مدار التاريخ المصري. حيث نجد الاهتمام المستمر بالجبانات والحفاظ عليها سمة أساسية من سمات المصريين، الذين نظروا إلى موت بشكل فيه بعض الحميمية. إذ اعتقدوا دوما أن الحياة الأخرى هي المقر والدار النهائية، لذا شعروا أن الجبانة ما هي إلا بوابة عبور، يجلس على الطرف الآخر منها الأهل الذين سبقوا بالرحيل.

هذا الميراث تلاحظه في أي جولة في محافظات المحروسة. فهناك جبانات منتشرة في المدن والقرى لم تدرس بعد بالشكل الكافي، وتحتاج إلى دراسات موسعة وعمليات توثيق تراثي محكمة. من أجل توفير مادة معلوماتية مجمعة عن الطرز المستخدمة في بناء المقابر المختلفة التي رغم تباعدها المكاني إلا أنها حافظت على صلة ما، ووحدة بنائية لا تخطئها العين.

***

الناظر إلى مقابر جبانات القاهرة سيرى بسهولة القباب المنتشرة فيها. فالكثير من الأضرحة يتواجد بها قبة ضريحية يدفن تحتها صاحب المقبرة وأفراد أسرته، لكن المدهش أن هذا الأمر لا يقتصر على أبناء القاهرة ولا العصر الحديث. بل أن الأمر أقدم من ذلك بكثير، ففي الصعيد نجد الكثير من الجبانات التي تحتفي بالقبة الضريحية وتجعلها المكون الأبرز في المقبرة. ففي أسوان نجد القباب الفاطمية، وهي تعود إلى العصر الفاطمي أي قبل ألف عام من الآن. وهي قباب ذات طابع فريد يعبر عن هذا الاهتمام المصري ببناء القباب، الذي يستمر في مقابر مدينة أسيوط بقبابها المهيبة والمنتشرة على مساحة واسعة.

نفس المشهد نجده بصورة أوضح وأكثر جلاء في مقابر قرية البرشا جنوبي محافظة المنيا. هناك نجد المقابر ذات القباب المميزة، والمبنية بالطوب اللبن، والتي تشبه في تكوينها الهرم الصغير.

وهو ما نجده بشكل أكبر وأكثر مهابة في مقابر زاوية سلطان (زاوية الأموات) غربي المنيا. هنا نجد مساحة ضخمة من قباب الدفن المتراصة بجوار بعضها البعض، في حضن الجبل الشرقي. وهذه الجبانة قديمة جدا فبالقرب منها بقايا هرم حبنو، ولدينا دليل أثري مهم على قدم هذه الجبانة يعود إلى ضريح الإمام القرطبي مفسر القرآن المشهور، والذي جاء من الأندلس واختار أن يعيش في المنيا. حيث دفن في مقبرتها، بعد وفاته سنة 671 هجريا/ 1273 ميلاديا. أي أنه دفن في هذه الجبانة قبل نحو 700 عام، ووجود قبر القرطبي في هذه الجبانة دليل مادي قوي على أنها كانت مستخدمة قبل ذلك التاريخ، اللطيف أن قبة قبره مميزة باللون الأخضر، ولأهل المنطقة اعتقاد فيه حتى يومنا هذا.

***

إذا اتجهنا شمالا سنجد مقابر البهنسا المعروفة باسم البقيع الثاني. والتي تقول الأسطورة الشعبية إن عشرات الصحابة قتلوا ودفنوا في هذا المكان. ورغم الطابع الأسطوري للحكاية، وثبوت وفاة الكثير من الصحابة الذين يرد ذكرهم في مقابر البهنسا في أماكن أخرى خارج مصر. إلا أن هذه الأسطورة لها ظل من الحقيقة، إذ وقعت معركة بين جيش الفتح العربي والقوات البيزنطية في هذه المنطقة. وسقط العديد من رجال الجيش العربي قتلى ودفنوا في هذا المكان، الذي تحول إلى نقطة جذب روحاني. واستمرت فيه عمليات الدفن التي تميزت بقبابها الرشيقة مختلفة الأشكال والأحجام.

هذا التراث متواصل في القاهرة وجبانتها. إذ نشاهد العديد من قباب الدفن التي تكشف عن تواصل حضاري يحمل جينات سرية تحتاج إلى مزيد بحث وتحليل. لكي نفهم وبعمق ثقافة الموت والدفن والبحث عن الخلود عند المصريين. والتي تواصلت وتجلت في صورة معمارية عكست ثقافة واضحة المعالم، تزاوج بين الموت والحياة. فكل مقبرة ملحق بها حوش لاستقبال الأحياء الذين يجلسون في حضرة الميت لجلب الونس، في ظاهرة متواصلة وواضحة المعالم في مختلف الجبانات المصرية. الأمر الذي يستدعي تشكيل مركز بحثية تتعامل مع هذا التراث الضخم من الجبانات كوحدة واحدة عبر الرصد والتسجيل والحفاظ عليها. ثم العمل على دراستها بشكل علمي للخروج بالنتائج التي بالتأكيد ستأخذ بأيدينا لفهم أعمق لتلك الظاهرة المصرية الفريدة في الاحتفاء بالموت.

اقرا أيضا:

متحف القاهرة.. حلم يكشف غياب الرؤية

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر