الفنان «أنس الآلوسي»: رحلة الخمسين بين الفرات والنيل

بالرغم من الحصار والمعاناة التي واجهها في العراق، إلا أنه أصر على استكمال موهبته وتطويرها، إذ ترك العراق بلده الأول وأتى إلى مصر منذ عشرين عاما وأسس بها أول مسبك للبرونز يقصده أغلب النحاتين والفنانين المصريين. حتى أصبح اسم الفنان أنس الآلوسي يتردد وسط الفن التشكيلي ليس لكونه صاحب أول مسبك ولكن لكونه فنان تشكيلي ونحات أيضا. «رحلة الخمسين» كان المعرض الأخير للآلوسي بالزمالك، والذي انتهت فعالياته منذ أيام .. «باب مصر» يتعرف على رحلة الآلوسي.

البدايات

ينتمي الفنان أنس الآلوسي لعائلة فنية، تضم العديد من الرسامين والنحاتين، وهو من مواليد 1971، بمدينة الأعظمية التي تقع شمال بغداد، حاصل على بكالوريوس الزراعة، ويعمل بالفن منذ 30 عامًا، أطلقت عليه الصحافة العراقية لقب “الباحث عن السعادة”، عندما سألوه لماذا تقوم بتلك المنحوتات فأجاب: “لأني أبحث عن السعادة وأحاول أن تصل للمتلقي”.

يتحدث الآلوسي عن الفراق وحنينه للعراق وأيضا تمسكه بالبقاء في مصر، فيقول: فتحت عيني منذ الصغر ووجدت أني وسط عائلة فنية، تهتم بالرسم والنحت، ورسمت أول بورتريه وعمري ثلاث سنوات، واحتفظ بحوار معي نشر بمجلة “المزمار العراقية” وأنا عمري أربعة سنوات حيث أطلقوا علي لقب الفنان الصغير، وفي المرحلة الابتدائية كنت فنان المدرسة الذي كان يزين الجداران، وفي المرحلة الإعدادية وأثناء الحرب الإيرانية مع العراق شاركت في مسابقة “ملصق سياسي” وكانت خاصة برسم الملصقات السياسية، وبدأت تستهويني الأعمال الفنية وتشدني إليها كثيرًا، كانت الظروف قاسية للغاية بالعراق، لذا كان الجميع يبحث عن أي عمل إضافي حتى نتغلب على تلك الظروف الصعبة، لذلك عمل والدي في مجال المعمار بالرغم من حصوله على الدكتوراه في اللغة العربية والإسلامية، لكن هذا ساعدني كثيرًا وأنا صغير، حيث جعلني أتعامل مع مختلف الخامات مثل الأخشاب والحديد والألمونيوم.

وتابع: وأنا في الجامعة وفي بداية التسعينات افتتح في العراق مسبك خاص بالبرونز، بعد أن كانت أغلب التماثيل والمنحوتات البرونزية تنفذ خارج العراق، لكن لظروف الحصار كان افتتاح هذا المسبك مهم للغاية، وقد لجئنا إلى تعليم أنفسنا ذاتيا، وجعلنا من التجريب طريقنا، ولأني كنت تخصص صناعات غذائية بكلية الزراعة، ولمعرفتي بالكيمياء بدأت أوظف معارفي في تصنيع ما نحتاجه من خامات تعيننا على تنفيذ المنحوتات من البرونز، ونجحنا في ذلك وأصبح لدينا العديد من التماثيل داخل القصور والميادين بالعراق.

مسبك آل الآلوسي

في عام 1997 تم غلق المسبك الذي كان يعمل به الفنان أنس، – وحسب قوله – كان قد احترف فن النحت وأصبح ملمًا بكافة تفاصيله، وتعلم كثيرًا كيفية عمل المسابك، ووسط الحصار أصر على تكملة مشواره الفني، وهو ما دعاه إلى التفكير في تأسيس مسبكه الخاص، وحول هذا التأسيس وبداية مشوار الآلوسي يقول: “بعد غلق المسبك الوحيد في العراق ووسط الحصار، فكرنا في تأسيس مسبك جديد، حتى لا نحتاج إلى أحد، وبمساعدة أخي قمنا بتأسيسه، وبالفعل نجحنا ومن خلاله قمنا بتشكيل أكبر تمثال في الشرق الأوسط للرئيس “صدام حسين” كانت مساحته السطحية 156 مترا، ونفذنا منه 4 نسخ، وإلى عام 2003 تخصصنا في صناعة التماثيل والنصب الكبيرة التي كان يصعب تنفيذها في الشرق الأوسط.

ويضيف، بجانب شغل المسبك ونحت وتشكيل التماثيل الضخمة، كانت لي معارضي الخاصة، وبالرغم من الحصار كنت أشارك في معارض خارجية جماعية وبيناليات قدر المستطاع، فقد كنت أسابق الزمن، وكنت أشعر أن الناس خارج الجدار العازل “الحصار” يجرون، فكنت اجري بكامل سرعتي وأنا خلف هذا الجدار حتى لا أكون متأخرًا عنهم بعد فك هذا الحصار، لذا عملت جاهدًا وبأقصى ما استطيع.

ويقول: في عام 2003 شعرت بأني جريت كثيرًا وأني سبقت من هم خارج الجدار، لكن مع الأسف تم تدمير بغداد، وشوهت العراق، وأصبح العمل بها في مجال الفن صعب للغاية، وكانت هناك أمامنا الكثير من الخيارات للمغادرة والإقامة في دولة أخرى، وبالفعل عرضت دول كثيرة استضافتنا وتوفير ما نحتاجه لتكملة مشوارنا الفني، ومن بين العروض كان عرض قدمه الشيخ زايد فقد كنت ضيفًا هناك حيث طلبنا لتنفيذ بعض الأعمال في الإمارات، وعرض آخر من إحدى الدول الأوروبية، وفي عام 2006 قررنا ترك العراق والذهاب إلى مكان آخر فكرنا بالطبع بالذهاب إلى سوريا، الأردن، الإمارات وغيرها، لكن أقترح والدي الذهاب إلى مصر، وهو الاقتراح الذي لاقى استحسان من كامل الأسرة، حيث كان الاختيار نابعًا من محبتنا للشعب المصري الذي تعاملنا مع شرائح عديدة منه في العراق، فكانوا الأقرب ولم نتردد في النزول إلى مصر واتخاذها موطنًا ثانيًا لنا بعد العراق.

الآلوسي في مصر

يتذكر الآلوسي عند وصوله مصر كيفيه اكتشافها والتعرف عليها أولا، فيقول: ذهبنا إلى النوبة والساحل الشمالي مرورا بالإسكندرية ومحافظات القنال، تعرفنا على العديد من المحافظات والمدن المصرية، وخلال رحلتنا في الاكتشاف كونا صداقات ومعارف، اكتشفنا عظمة الفن المصري وكيف أنه فن عملاق، كما اكتشفنا أننا لا نشعر بالغربة فنحن جميعا أولاد الشمس والحضارة فلا يوجد غربة.

وتابع: تعرفنا على الفنانين المصريين والنحاتين، لكننا اكتشفنا أن النحاتين المصريين لا يستخدمون خامة البرونز ولا يوجد بمصر مسبكًا لتلك الخامة، وأشد ما أحزنني أن أجد أعمال نحتية لفنانين عظماء داخل متحف الفن الحديث لكنها من الجبس، وهو الخامة الأقل بالطبع من البرونز، وفي عام 2008 تم دعوتي من قبل النحات العظيم آدم حنين لحضور معرضه الخاص، وعندما سألته عن خامة التماثيل التي سيعرضها قال لي الجبس، وهو ما جعلني استنكر ذلك في ردة فعل غير محسوبة وقلت له: “إيه أستاذ آدم فيه حد بقامة حضرتك يعمل معرض من الجبس”، وكان رد الفنان الكبير والذي أتذكره جيدًا: “شدو حيلكم ونحول المعرض إلى برونز”، فقد كتب في سجل المعرض رسالة موجهة لنا: “أتمنى تحويل كافة الأعمال الموجودة في المعرض بمسبكم إلى برونز”، وكانت تلك بمثابة إشارة البدء، وقد كان.

يكمل الآلوسي: في شهر فبراير عام 2008 كان تأسيس مسبك الآلوسي بالقاهرة، وأصبح المسبك متنفسًا ومكانًا يقصده أشهر النحاتين والفنانين في مصر، أمثال الفنان “ناجي فريد” الذي ساعدنا كثيرًا وكان أول من سبك أعماله في مسبك الآلوسي، وبالطبع أسعد كثيرًا أن كبار النحاتين بمصر والوطن العربي تعاملوا معي ومنهم الفنان الكبيرآدم حنين، والفنان بكر الفيومي، وغيرهم.

ذاكرة الخمسين

“ذاكرة الخمسين” هو المعرض الأخير الذي نظمه الآلوسي، فيقول عنه: المعرض يضم 26 عملا نحتيا من خامة البرونز، و30 لوحة من قشرة الخشب، فقد كان معرضي الأول بالقاهرة عام 2014، وتلاه معرضي الثاني 2015، ثم معرض خاص في دبي، وتم تكريمي ضمن أفضل سبعة فنانين عراقيين، لكنى دخلت في مرحلة سكون حتى تكتمل طاقتي لعمل إنتاج جديد، وفي 2020 وبسبب الضغوط التي حدثت لنا جميعا دون استثناء بسبب جائحة كورونا وتعرضي لظروف الخاصة، كان أفضل حل للابتعاد عن تلك الضغوطات هو النحت.

وتابع: “النحت بالنسبة لي مثل شيطان الشعر بالضبط”، وهو ما حدث أثناء الجائحة حيث عكفت على العمل وأنتجت 30 قطعة نحتية شعرت بعدها أن بداخلي لا يزال هناك مخزون أكبر من الفن، لكن لم أرغب في إخراجه في النحت، لذا بدأت في الرسم على قشرة الخشب والتي لا أصنفها رسم بل أطلق عليها “مشاعر على قشرة الخشب”، فأنا لست رسامًا استخدم تكنيكات الرسم المنضبطة والألوان المدروسة، بل أنا اخرج فقط ما بداخلي من مشاعر على تلك القطع الخشبية، ووصلت أعمالي في تلك لفترة إلى ثلاثون قطعة نحتية بجانب ثلاثون لوحة خشبية، ومن هنا جاءت فكرة أن أقوم بعرض تلك الأعمال في معرض خاص، ولأن الأعمال كانت كثيرة تم استبعاد 6 أعمال لكني وضعت صورهم في كتيب المعرض، حيث يضم الكتيب 30 عملا نحتيا و31  لوحة خشبية.

وعن سبب اختيار عنوان “ذاكرة الخمسين” ليكون اسم المعرض، يقول الآلوسي: يحمل هذا المعرض رمزية خاصة فأنا أكمل هذا الشهر عامي الخمسين، لذلك أحببت أن أوثق ما تعلمت طيلة السنوات الماضية، وما أنا عليه الآن في الخمسين من عمري، وإيصال رسالة للشباب أنك كلما تقدمت في السن زادت خبرتك ووضحت أعمالك، فكثير من التعليقات على سبيل المثال التي تشيد بالمعرض أن خطوطي أصبحت واضحة وأنا المعرض مذهل، وهو بالفعل ما أحاول إيصاله أنه عند هذا السن لابد أن تكون تعلمت الكثير وإلا فلا داعي للاستمرار، وأحاول أن أتذكر وأجمع  ما مر علي طيلة 30 عامًا من العمل بالفن وما وصلت إليه الآن من خبرات في الخمسين، لذا سيلاحظ الزائر للمعرض أن الأعمال الموجودة متنوعة ولا يجمعها شيئ أو خط أو أي صلة، فهناك الطيور والحيوانات والعلاقات الرومانسية والمشاعر الخاصة، جميعها عبارة عن تراكمات بداخلي أتذكرها الآن في الخمسين، وبجانب توثيق ما بداخلي وما مر على من ذكريات طيلة هذه السنوات خمسون عامًا، فأن أوثق أيضًا لخبرتي ومستوى إنتاجي، كما أنى وضعت بعض الرموز الخاصة بكي كي أتذكرها فيما بعد مثل وضع شباك حديدي كنت قد صممته لمنزلنا الخاص الذي تم هدمه، فأحببت توثيقه.

لست رمزًا حسابيًا

“إذا أردت أن تنفيني ضعني داخل نظام.. إنني لست رمزًا حسابيًا إنني أنا”، تلك هي المقولة التي يفضلها الآلوسي ويكتبها في كراساته منذ الطفولة، وعنها يقول: لا أحب أن أوضع داخل ما يكبل خيالي، فأنا اختار الموضوعات والعناوين الخاصة بمعارضي بشكل مطلق حتى لا أسجن داخل فكرة محددة يقوم عليها معرضي مثل ما يفعل أغلب الفنانين في معارضهم، وأنا لست ضدهم، لكن أنا اختار عنوان به بعض الشمولية التي تصلح لوضع العديد من الأفكار، فأنا أعمل لمزاجي الخاص، لذا أضع عنوان واسم المعرض بعد أن أنهي أعمالي وليس قبلها، كما أن لدي فلسفة خاصة في بعدي عن النمطية داخل معارضي، لأن التنوع ينقل المشاهد من منطقة إلى أخرى ومن فكرة إلى أخرى ومن لون إلى آخر، وعندما يكون لدي معرضًا أحب أن اسأل الزائرين أو المقربين من الأصدقاء عن أفضل قطعة أعجبتهم، وبالطبع يسعدني اختلافهم في أهم القطع الموجودة، لأنهم لو اتفقوا على عمل واحد بذلك تكون باقي الأعمال دون المستوى وهو العمل الوحيد الناجح.

“أتذكر عندما سألتني إحدى الصحفيات اللبنانيات وأنا أقف بجوار النحات المصري بكر الفيومي عند مشاركتنا بأحد المعارض في لبنان، كم عمرك الفني؟، أجبت وأنا أحضن الفيومي أنا وهذا الرجل عمرنا الفني 7 آلاف سنة، وعندما استغربت الإجابة قلت لها نحن امتداد لحضارتينا، فلم نبدأ من الصفر، ولا يصح أن أقول أن عمري الفني 25 سنة على سبيل المثال”، هكذا اختتم الآلوسي حديثه مشيرًا إلى أهمية الحفاظ على الحضارة، وأن الفن عبارة عن شجرة لها جذور ضاربة في الأرض وعمق التاريخ.

اقرأ أيضا

الفنان التشكيلي «علاء عوض»: الأقصر من أكثر المدن إلهاما في العالم

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر