«المنيا».. الطريق نحو تل العمارنة

الحديث عن المنيا لا يُختصر في مقالة أو مقالتين، بل يمكن أن تتسلل الكلمات لتخلق في النهاية كتابا كاملا عنها. فهي منطقة عريقة يمتد تاريخها إلى أبعد مما يتصور الإنسان، فضلا عن حاضر ثري وغني متباين، وتناقضات صارخة، بين القرية والقرية، والمدينة والمدينة، بل والشارع والشارع. ولا يدرك هذا إلا مقيم أو زائر مدقق، يعكس هذا كله بطبيعة الحال مساحتها الضخمة، التي تمتد من مركز مغاغة المتاخم لمحافظة بني سويف، وصولا إلى مركز دير مواس الذي يلتقي مع ديروط في أسيوط على طول امتداد مجرى نهر النيل، أما بشكل عرضي فهي تأخذ من الصحراوتين جانبا عميقا فيهما فضلا عن التكونات الزراعية التي تشكلت على جانبي النيل.

خلق هذا الامتداد الجغرافي تنوعا ثقافيا مبهرا. لذا فالحكم على المنيا لا يتكون إلا من خلال نظرات متتالية ومتتابعة على أنماط المعيشة والحياة في كل ركن فيها حتى تكون النظرة أكثر دقة وشمولا منها في مدينة واحدة أو قرية معينة. لذا سأخصص للمنيا وحدها خمس مقالات لا مقالة واحدة. وآثرت أن أبدأ تلك المقالات بأشهر ما في تاريخها “مدينة تل العمارنة” كتمهيد للحديث عن المحافظة. تل العمارنة عاصمة أخناتون التي رسم لها أن تكون عاصمة الخلود لعبادة الإله آتون إلا أنها لم تكن سوى لحظة عابرة في التاريخ.

الطريق نحو تل العمارنة

الطريق إلى تل العمارنة آخاذ، نقاء النيل مع نضارة خضرة المساحات الزراعية يجعل المشهد ساحرا إلى حد لا يوصف. يمكن الوصول إليها عن طريق المرسى النهري “المعدية” بتل بني عمران التي تنقلك من البر الغربي من ناحية دير مواس إلى الشرقي ناحية المدينة التاريخية. أو عن طريق المرور عبر القرى في البر الغربي من قرى البرشا عن طريق مدينة ملوي، وهو الطريق الذي سلكتُه. حيث انتقلتُ من مدينة ملوي إلى قرية البرشا، ومن البرشا عبر طريق ضيق على النيل يحفه من الجانب الشرقي لون الرمال الصفراء اللامع. ومن الجانب الغربي لون الخضرة مع زرقة النيل التي تنعكس عليها أشعة الشمس المتواصلة صيفًا وشتاءً. وهو ما جعل التعرف على مدينة تل العمارنة يبدأ من الخلف عكس مسار الزيارة السياحي الآن، بداية من قصر أخناتون الشمالي وصولا إلى المقابر الشمالية نهاية بالمتحف القائم على ضفاف النيل من ناحية طريق المرسى.

تبدو مدينة تل العمارنة الآن أطلالا ومبان مندثرة، لا تكاد ترسم لها صورة عمرانية معينة في ذهنك. فالأمر في غاية الصعوبة، لكثرة ما طالها من الخراب والانهيار، لكن الشيء الذي يبدو لافتا للانتباه بشكل جلي، هو مساحتها الشاسعة بشكل لا يستطيع المرء أن يتجول فيها على قدميه. حيث تصل حدود المدينة إلى خارج نطاق محافظة المنيا بشكلها الحديث. لكن أخناتون أقام أربعة عشر لوحة على حدود المدينة من أجل تحديد معالمها واتجاهاتها، نُقشت تلك اللوح على الصخر وهي تشتمل على مناظر خاصة بأخناتون وزوجته نفرتيتي وبناته بشكل خاص، مع الإله آتون في مشهد تعبدي.

كيف بدأت تل العمارنة؟

تبدأ قصة تلك العاصمة المثيرة للجدل منذ وفاة الملك أمنحتب الثالث. الملك القوي في طيبة والذي خلف في السلطة ابنه الصبي أمنحتب الرابع الذي لم يبلغ من العمر سوى ستة عشر عاما. وصل أمنحتب الرابع إلى السلطة بواسطة والدته الملكة تي. وبالرغم من أن الصبي ذي الستة عشر ربيعا بدأ ممارسة طبيعة السلطة في العاصمة طيبة. من خلال تقديم القرابين والولاء للإله آمون. حتى أنه اتخذ الألقاب التقليدية على نهج أسلافه. وتزوج ابنة الضابط “آي” الجميلة نفرتيتي، إلا أنه لم يغتر بتلك السلطة التي بدا يتقاسمها مع كهنة آمون. فبدأ التفكير يلاحقه نحو شيء آخر، يجعل من مسألة الاستقلالية بالسلطة عنصرا ضروريا في أساس ملكه.

كانت البداية بطبيعة الحال دينية، حيث ابتدع أخناتون دعوتين. الأولى أنه أقام ديانة جديدة دعى فيها إلى إله واحد يتجسد في قرص الشمس. تمت تسميته “آتون”، بدت الصورة النمطية عن عبادة الشمس أنه أحد الظواهر المختلفة في الديانة المصرية القديمة وليست ديانة بدعية. وهو ما جعل الكهنة حينها يسمحون له ببناء معبد للإله آتون في الكرنك. إلا أن طبيعة العبادة الجديدة لم تكن كما كان يتصور الكهنة من أنه صورة أخرى لإله مدينة عين شمس القديم “رع”. ومنذ تلك اللحظة بدا الخلاف جليا بين كلا العبادتين، خاصة مع الظواهر التي صاحبت هذا الأمر. حيث بدأ أخناتون يتخذ لنفسه ألقابا مختلفة مثل “الخادم الأول للإله آتون”، وتحول الاسم من أمنحتب الرابع الذي يعني “الإله آمون راض” إلى “أخناتون” والذي يعني “المخلص للإله آتون”. كانت تلك هي الإرهاصات الأولى نحو إقامة عاصمة جديدة مختلفة تماما عن طيبة. جاء اسم المدينة الجديدة بـ”أفق آتون” وقام بنقل عائلته وحاشيته إليها.

**

في المدينة أقام أخناتون قصرا ضخما في السوط، فيما أقام معبداً كذلك لمعبوده الرئيسي آتون، فضلا عن إنشاء مقابر ملكية جماعية له ولأفراد عائلته. وأقام النبلاء والأشراف مقابر على أطراف المدينة. مقابر النبلاء في تل العمارنة، تبرز نوعا آخر من الفنون لم يكن مألوفا منذ تلك اللحظة، وهي وثيقة مهمة كذلك في رسم صورة البلاط الملكي في دولة أخناتون، ففي مقبرة مري رع الكاهن في الجانب الشمالي توجد لوحة تمثل مري رع أثناء تنصيبه كاهنا أعظم للإله آتون بحضور الملك أخناتون وزوجته الملكة نفرتيتي وابنته كذلك الأميرة مريت آتون. مشهد مثل هذا متفرد لا تكاد تراه في أي موضع آخر غير هذا.

ليست تل العمارنة وحدها

تاريخ المنيا زاخر، لا يقوم على تل العمارنة فحسب، بل يمتد كذلك إلى فترات تاريخية أخرى مختلفة. ففي الناحية الغربية من النيل تقع مدينة الأشمونين بالقرب من ملوي. وبغض النظر عن بقايا الأعمدة المترامية فيها، فلقد كانت إحدى الحواضر الهامة والرئيسية في مصر القديمة. تم تخصيص مقابر تونة الجبل. التي تقع في الظهير الصحراوي لمدينة الأشمونين كمقابر رئيسية لحاكمها ونبلائها أيضا، ولا زالت الشواهد باقية تبرز هذا الاتصال التاريخي. أما اللافت للانتباه فهو اتصال الأهالي في المنيا بتلك المنطقة التاريخية. فالزيارات تتوالى إليها في كل مناسبة خاصة في شم النسيم، يفترشون الأرض ويتبادلون الحديث والطعام دون تحفظ مما يجعل تلك الظاهرة تلقائية متميزة. والمكان على ما فيه من كثرة الرمال ومنظر الصحراء، يتردد فيه الهواء بشكل استثنائي متفرد ليخلق حالة من الأنس والانعزال في آن واحد.

كان لطه حسين عميد الأدب العربي وابن محافظة المنيا مقر هنا هو الآخر. لا زال باقيا حتى يومنا هذا بالرغم من حالته التي يرثى لها من إهمال وتقصير. فعلى مدخل منطقة المقابر توجد استراحة عرفت باسم سامي جبرة عالم الآثار المصري. وهي عبارة عن منزل من طابقين يغلب على تكويناته المعمارية عنصر الخشب. يلتف حوله سور غير مرتفع، يتزين من الداخل والخارج بالنباتات والأشجار.

يتبادر إلى الذهن عند ذكر أي مقابر للنبلاء “مقابر بني حسن” فهي أحد أشهر المقابر المخصصة للنبلاء في مصر القديمة، وهي قائمة هنا بالقرب من أبو قرقاص. أما الوصول إليها فهو مثير جدا. حيث تصل أولا إلى مدينة أبو قرقاص، ثم تستأجر أي مواصلة تنقلك نحو قرية “الزرابي” التي تقع محاذاة النيل. والنيل في تلك المنطقة تحديدا يتمثل على هيئة جزر زراعية متعددة تختلف مساحاتها. فيما يخلق حالة يندر وجودها على خط النيل كله. ثم من قرية الزرابي نحو معدية بني حسن، التي تنقلك عبر النيل إلى قرية بني حسن، القرية التي يخيم عليها هدوء دائم بشكل لافت للانتباه.

***

بالتأكيد يمكن الوصول إلى بني حسن بطريق أيسر من هذا. إذا توفرت لديك سيارة خاصة، عن طريق كوبري المنيا أسيوط من مدينة المنيا نفسها، ثم بواسطة الطريق جنوبا من المنيا وصولا إلى مقابر بني حسن. لكن التجول في الصعيد على القدم والاعتماد على المواصلات العامة فيه بيت القصيد. حيث تحتك بشكل أكثر عمقا بمكونات المدن والقرى، مما يجعل مسألة التعرف عليها أقرب للحقيقة منها إلى التمثلات.

لا يستغرق الوقت من القرية إلى المقابر التي تظهر من الأسفل كأنها عيون في الجبل وقتا طويلا فالمسافة بينهما لا تتجاوز ثلاثة كيلو متر. لكنها تستحق الزيارة بالتأكيد، فبالرغم من أن المقابر تتخذ نمطا تقليديا. فهي عبارة عن صالة منحوتة في الجبل تحملها أعمدة حتى لا يختل توازنها. إلا أن النقوش فيها منفردة، خاصة تلك التي رسمت على مقبرة باقت الثالث الحاكم الكبير لإقليم الغزال. حيث ضمت 220 زوج من الرجال يمارسون رياضة المصارعة.

ما لفت انتباهي خلال تلك الزيارة في بني حسن، هو وجود قرية مهجورة بأبنية طينية. يعود تاريخها وفقا لما رأيت إلى 200-300 سنة تقريبا القرية تتاخم المقابر على نفس الجبل. لكنها أقل منها درجة في مستوى الارتفاع. وهي عبارة عن مبان طينية شبه متهدمة، لا يعرف أهل القرية عنها أي شيء. سوى قصة لم تتوفر المصادر لديّ للتأكد من صحتها. وهي أنها كانت قرية قديمة هدمها محمد علي بالمدافع لأنها كانت تهدد حركة السفن في النيل. وموقعها بالفعل استراتيجي إلى حد كبير. فهي ترى النيل كله بمنظور واسع، وفرصة زيارتها كذلك رائعة لرؤية هذا المشهد الاستثنائي.

اقرأ أيضا:

«بني سويف».. اقتراب وابتعاد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر