«كيهك».. شهر النور والتسبيح بين الكنيسة والحقول
مع بداية شهر «كيهك» تتزين الكنائس القبطية في الصعيد بألحان التسابيح وروائح البخور، معلنة عن فترة مميزة من الصلوات والتمجيد. ليس مجرد شهر عادي، بل هو شهر تتلاقى فيه الصلوات بالزراعة، فيتبارك نمو الزرع والمحاصيل استعدادا لموسم الحصاد. في ليالي الآحاد، تصدح أصوات المصلين بالمديح للسيدة مريم العذراء، ليكون «كيهك» رحلة روحية تجمع بين التراث الديني والطبيعة الحياة اليومية للفلاح المصري.
الشهر المريمي
يقول القمص بيجول، أسقف كنيسة جراجوس بمركز قوص، جنوب قنا: “شهر كيهك من الشهور المميزة ونطلق عليه الشهر المريمي. لأن في نهايته ميلاد سيدنا المسيح. نصلي ونمدح ونسبح فيه للسيدة العذراء”. ويضيف: “تختلف الصلاة والتسبيح من كنيسة لأخرى، فبعض الكنائس تصلي كل يوم من الساعة العاشرة ليلا وحتى الصباح. وأخرى ثلاثة أيام فقط في الأسبوع لمدة محددة تستمر ساعتين”.
وتابع: نصلي في هذا الشهر لنبارك نمو الزرع والثمار في أرض مصر، ونقول: «تفضل يارب الزروع والعشب ونبات الحقل في هذه السنة». نسبح بهذه الكلمات في كل قداس يُقام في أوقات معينة لنبارك نمو الزرع والنبات. ونسبح تسابيح كثيرة للسيدة مريم العذراء قبل ميلاد السيد المسيح حتى نحصل على البركة منها، ونلمس روح وجمال السيدة مريم الطيبة الطاهرة. ونصلي أيضًا لمياه النيل بدعوات وتسابيح مباركة حتى يفيض النيل ونسقي الزرع وتنمو الأرض”.
تمجيد وصلوات
يشير القمص بيشوي بسيط، وكيل مطرانية قوص، إلى أن فضل شهر كيهك، وهو رابع شهور السنة القبطية وينتهي بميلاد سيدنا المسيح، يجعل الكنيسة تستمر في الصلوات الخاصة والتسبيح يوميا. تتضمن هذه الصلوات تمجيد ومديح للسيدة مريم. وتسمى “تسبيحة كيهك 7 و4″، وتعني أربعة هوس وسبعة تيؤطوكوس، أي تمجيد السيدة مريم.
الشهور القبطية والزراعة
يتابع القمص: “من شهر هاتور ثم كيهك نصلي ونسبح من أجل الزرع والعشب ونبات الحقل حتى ينمو ويكبر ونستطيع حصاده. كما نصلي أيضًا في أوقات أخرى من أجل النيل ووفرة المياه، ووقت الحصاد نصلي من أجل هوية السماء وثمار الأرض”.
الزراعة قديما
تحكي الجدة زينب علي، 80 عاما: “شهدت أيام الزراعة والحصاد قديمًا، كنا نزرع وفق الشهور القبطية المرتبطة بالزراعة من قديم الأزل وحتى الآن، وهذا ما علمناه للأولاد والأحفاد”.
وتضيف: “قبل إنشاء السد العالي كان النيل يفيض على أراضينا، ولكن في شهر كيهك كنا نطلق الحيوانات في الأراضي المزروعة بالجلبان لتأكل. ونترك بعض الزروع تنمو في الأرض مثل نبات الفول الذي يبدأ ثماره في الإنتاج. يبدأ محصول الحلبة في النضج ونستعد لحصاده. ونزرع الملوخية السباقي، وينمو محصول القطن ونستعد لحصاده”.
وتتابع: “نبدأ بذر بذور القمح وغرسه في التربة في بعض المناطق القريبة جدًا من النيل ذات الأراضي الخصبة، ويتم حصاد الخضراوات. في تلك الأيام نزرع العدس ونحصد الفاصوليا والشمار، وتنمو أيضًا محاصيل الذرة الرفيعة والشامية، والبصل والثوم، حتى نستعد للحصاد بعد شهرين”.
وتشير إلى الأدوات القديمة: “كنا نستخدم أدوات قديمة لحرث الأرض أو الحصاد. مثل المنجل الخشبي القديم، والمحراث اليدوي التقليدي، والنورج أثناء حصاد كمية كبيرة من الأرض المزروعة بالغلال. وبعضها كان يحصد يدويًا مثل القطن والعدس والجلبان والحلبة”.
وتنوه إلى أن هذه الزراعات كانت تتم بأدوات قديمة ولكن الآن يزرع محصول القصب في معظم الأراضي يليه القمح والذرة الشامية والرفيعة والخضراوات. مع استمرار التوقيت القبطي المستخدم في الزراعة والحصاد حتى اليوم.
كيهك.. شهر التسابيح والصلوات
شهر كيهك شهر تسبيح ومديح وصلوات، منها صلوات سهرات الآحاد الكيهكية، صلوات البداية العشيات، ومزامير التاسعة، والغروب، والنوم. ولحن “تي أنثوس تيرو، الهوس الرابع”، وأبصاليات واطس خاصة للشهر، وغيرها من الصلوات الكثيرة.
وتهدف هذه الصلوات إلى تمجيد العذراء مريم وإعداد الكنيسة لاستقبال السيد المسيح. وتُعرف بـ”سهرات السبعة وأربعة” لأنها تجمع السبع تذاكيات والأربعة هوسات، وتتخللها ألحان ومقالات أرثوذكسية غنية بالروحانيات. وتُعد فترة استعداد روحي عميق.
يعتبر التسبيح أعمق أنواع الصلاة، لأنه يشمل بين كلماته كل أنواع الصلاة من الشكر والمديح والتوبة والطلب والتعليم، لذلك توليه الكنيسة اهتماما كبيرا طوال السنة.

تسابيح خاصة وروحانية عميقة
يحمل شهر كيهك طابعا خاصا في التسبيح عن باقي التسابيح السنوية. إذ تهيئ الكنيسة أولادها لاستقبال الميلاد المبارك، وتتيح لهم فرصة رائعة لتذكر مراحم الله، من خلال التسبيح والسهر طوال الشهر المبارك. حيث تبدأ التسبيحة بعد صلاة العشية أو منتصف الليل. وتستمر لمدد قد تصل إلى تسع ساعات، وتختم بالقداس الإلهي الذي ينتهي عند شروق شمس اليوم الجديد.
التقويم القبطي امتداد للحضارة الفرعونية
يعد التقويم القبطي أقدم التقاويم حاليا، فهو يعتمد على نظام التقويم المصري القديم، والذي اعتمده المصري القديم لدقته المتناهية في معرفة الأيام والمواسم. التي كان يعتمد عليها الفلاح المصري القديم في زراعة الأرض، وحتى وقتنا هذا. فما زالت الزراعة في مصر قائمة على هذا التقويم، الذي تنقسم فصوله إلى مواسم الفيضان والزرع والحصاد.
كما أن هناك علاقة وثيقة وممتدة بين التقويم القبطي والفلاح المصري. فهو امتداد للتقويم الفرعوني القديم الذي يعتمد عليه الفلاح لتحديد مواسم الزراعة والحصاد والفيضان.
ويرتبط كل شهر قبطي بأمثال شعبية تعكس حال الزراعة والمناخ، مثل “توت ري ولا تفوت”، و”هاتور أبو الدهب المنثور”، و”بشنس يكنس الغيط كنس”. مما يجعله دليلا حيويا لحياة الفلاح اليومية والزراعية، إلى جانب الجانب الديني.
كما يرتبط التقويم القبطي بالحياة الزراعية. حيث يحدد بدقة مواسم الزراعة (البذر، الري، الحصاد) ومواعيد الفيضان، وما زال الفلاح المصري يعتمد عليه. وأن كل شهر قبطي مرتبط بأمثال شعبية تلخص خبرة الأجيال في الزراعة، وتعكس الظروف المناخية والأنشطة الزراعية لهذا الشهر.
ويعتبر التقويم القبطي استمرارا للتقويم الفرعوني القديم، وامتدادا للحضارة المصرية القديمة، ويعرف بـ”تقويم نيروز”. حيث حافظت الكنيسة القبطية على أسماء الشهور الفرعونية وربطتها بالطقس والمناخ المصري.
وعلى الرغم من التقاويم الحديثة، يظل التقويم القبطي جزءًا من التراث الشعبي المصري، خاصة في المناطق الريفية. حيث يُنظر إليه كمرجع موثوق به لحياة الفلاح ومرتبط بالوجدان الشعبي. كما تعتمد عليه الكنيسة لتحديد أعيادها وصيامها.
اقرأ أيضا:
في انتظار 29 كيهك: سهرات صوم الميلاد في كنائس الصعيد
في دورته الأولى.. ماذا قدم مهرجان الحرف والفنون التراثية بقنا؟





