ألغاز القرافة.. حساب الجُمّل فن منسي

جبانات القاهرة عالم مليء بالأسرار. لا يبوح بكل ما لديه مرة واحدة. قصر مسحور ما أن تفتح أحد أبوابه حتى تكتشف عوالم مدهشة خلفه. ما بين شواهد تنضح بالجمال، وأضرحة تتزين بفنون المعمار، ومرورا بفنون الخط العربي وليس انتهاء بالثروة التاريخية التي تحتويها الجبانات بين جنباتها. لذا نفتح باب القرافة المسحور هذه المرة على ملمح تاريخي مهم ومتفرد يخص حساب الجُمّل، وهو من ألغاز الجبانات البديعة التي قد تمر أمامها فلا تلفت نظرك ولا تفهم حقيقتها إلا بعد طول تدبر وفهم لأجزاء هذه الأحجية التي تجمع بين علوم الحساب واللغة. حيث تتحول الحروف في هذه الألغاز لمفاتيح الإجابة عن أعجايب الأرقام.
***

حساب الجُمّل، من الأمور القديمة في حضارة المسلمين، وهو أقدم من هذه الحضارة بلا شك إذ يعود إلى عهود قديمة. إذا استخدمت الكثير من الحضارات الحروف في عمليات حسابية ربما يكون فيثاغورث ومدرسته الأشهر في هذا الصدد. وهو ما نجد صداه في العربية إذ يصبح لكل حرف في الأبجدية بحسب ترتيبه في “أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ” معادل رقمي، فالألف هنا يحصل على رقم (1)، والباء على رقم (2)، هكذا حتى نصل إلى الياء والذي يحصل على رقم (10)، وبعدها تبدأ مضاعفة الحروف في خانة العشرات، فنرى الكاف يحصل على معادل رقم (20)، كما هو موضح في الجدول التالي:

ا 1 ي 10 ق 100 غ 1000
ب 2 ك 20 ر 200 بغ 2000
ج 3 ل 30 ش 300 جغ 3000
د 4 م 40 ت 400 دغ 4000
هـ 5 ن 50 ث 500 هغ 5000
و 6 س 60 خ 600 وغ 6000
ز 7 ع 70 ذ 700 زغ 7000
ح 8 ف 80 ض 800 حغ 8000
ط 9 ص 90 ظ 900 طغ 9000

 

استخدم بعض الأفراد من المنجمين وأمثالهم هذا الحساب لتفسير غلبة شخص على شخص آخر. وعادة ما استخدم في تبرير انتصار حاكم على منافسيه، وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. وكما فعل قاضي الحنفية بدر الدين العيني في الترويج للسلطان المملوكي المؤيد شيخ، وذلك في كتابه الدعائي (السيف المهند في سيرة الملك المؤيد)، وقد حاول  العيني أن يجمع أحرف اسم السلطان المملوكي وفقا لحساب الجمل ليبرر انتصاراته. ولكنه وقع أسيرا لعملية تبرير ساذجة وتعسف من أجل ارضاء خاطر السلطان. بينما استخدمه البعض في تفسير السحر وبعض الأفكار الصوفية.

***

لكن هذا لم يمنع من استخدام طريف كما ينقل الدكتور مصطفى بركات في بحثه المعنون بـ (التأريخ بحساب الجمل في ضوء النقوش الكتابية بعمائر القاهرة الإسلامية)، إذ ينقل واقعة تتعلق بسؤال أحد أهالي القاهرة عن تاريخ موت السلطان الظاهر برقوق، فقال: في المشمش، أي في سنة 801هـ لأنه جمع حروف عبارة في المشمش فكان المجموع بحساب الجمل هو 801، وهي سنة وفاة السلطان المملوكي، فضلا عن ما في تلك الجملة من طرافة، إذ يتلاعب صاحبها بين اسم السلطان برقوق وهو أحد أنواع الفاكهة وبين المشمش.

وبدأت طريقة التأريخ بحساب الجمل على المنشآت الأثرية في إيران على الأرجح. إذ يعود لها أقدم شاهد قبر مكتوب عليه بحساب الجمل وهو قبر الشاعر حافظ الشيرازي المتوفي سنة 791 هجريا. ثم انتقلت هذه الطريقة من إيران إلى الدولة العثمانية ومن الأخيرة إلى مصر. ومن أقدم النصوص المحفوظة بحساب الجمل، النص التأسيسي لمسجد  سليمان باشا بقلعة الجبل والمعروف باسم “سارية الجبل”. إذ ذكرت جملة “فاركعوا لله مع الراكعين”، وهي بحساب الجمل:

378+ 65+ 110+ 382= 935 وهو تاريخ إنشاء المسجد. وانتشرت هذه الطريقة الملغزة في تأريخ سنة إنشاء العمائر في القاهرة العثمانية بسرعة فوجدنا هذا الأمر على الكثير من مداخل الجوامع والأسبلة.  وربما يكون النموذج الأشهر هو باب المزينين بجامع الأزهر، وهو من إنشاء عبد الرحمن كتخدا، إذ نجد بأعلى الباب بديع التفاصيل كتابة منها: باب علوم وفخار به يجاب الدعاء، والتي تصبح بحساب الجمل:

5+ 146+ 887+ 7+ 16+ 106= 1167 وهو تاريخ بناء الباب الشهير للأزهر بحسب التقويم الهجري.

***

أما أهل جبانات القاهرة فاستخدموا حساب الجمل بشكل أكثر نضجا وجمالا وفنا. إذ جرت العادة منذ الحقبة العثمانية في مصر، أن يتم كتابة كلمات رثاء في نهاية شواهد القبور بصورة فيها بعض العزاء لأهل المتوفي.  ولكن عند تحويلها إلى أرقام وفقا لقواعد حساب الجمل نحصل على تاريخ وفاة صاحب القبر. طريقة مبتكرة في ترك لغز صغير لكل من يقرأ أي من هذه الشواهد، عليه أن يقف أمام الشاهد للحظات ليتأمل المكتوب ويفك طلاسمه حتى يعرف متى توفى صاحب القبر.

الإبداع تمثل في أن الجملة التي يتم نحتها يجب أن يكون مجموع حروفها معبرا عن تاريخ وفاة الشخص المتوفي. انظر إلى هذه الجملة على أحد الشواهد البديعة: “خير النعيم محل محمود سعيد”، هذه الجملة قد تقف أمامها وتقرأ الفاتحة لصاحب القبر ثم تمضي في طريقك، لكن اللغز الذي لا يكشف عن نفسه إلا لمن يمتلك مفاتيحه سيجبرك على تغيير رأيك في الكلمات المكتوبة بطريقة فنية. فكلمة خير مكونة من حروف الخاء والياء والراء، أي بحساب الجمل 600+ 10 + 200= 810

وكلمة النعيم بحساب الجمل تصبح: 1+ 30+ 50+ 70+ 10+ 40= 201

أما كلمة محل فحسابها: 40+ 8+ 30= 78

وحساب كلمة “محمود”: 40+8+ 40+ 6+4= 98

وكلمة “سعيد” تصبح: 60+ 70+ 10+4= 144

وعندما نجمع حصيلة جمع حروف هذه الكلمات معا نحصل على رقم 1331 وهو الموافق لسنة 1331 هجريا المقابلة لسنة 1912 – 1913 ميلاديا، وهو تاريخ وفاة صاحب شاهد القبر.

***

أن الفنان المصري هنا استخدم حساب الجمل لإبراز النواحي الفنية لعمله في شواهد القبور. لقد خلص حساب الجمل من أي ميراث شعوذي، واستخدمه في مجال فني صرف، وهنا نلتقي بأحد تجليات الإبداع الفني التي جعلت حساب الجمل ينتقل من الكتابة على أبواب الجوامع والأسبلة ليزين شواهد القبور في صورة تبين لنا كيف تفاعل الفنان مع واقعه وأنتج نماذج متعددة الألوان تزين شواهد القبور، لكي تطيل المكوث أمام الشاهد تتدبر فيه وتحل لغزه بتحويل الكلمات فيه إلى أرقام حسابية تصل من خلالها إلى تاريخ وفاة صاحب الشاهد، كي تطلب له الرحمة والمغفرة وتشعر ببعض الألفة معه بعدما كشف أحد أسراره.

***

ويلاحظ أن الكثير من شواهد القبور اتبعت عدة قواعد عامة في استخدام حساب الجمل. إذ جرت العادة استخدام كلمة “ارخ” و”ارخوا” و”ارخت” و”مؤرخا” قبل الجملة التي سيستخدم فيها حساب الجمل.  كما نجد في الكثير من الشواهد أسفل كل كلمة مرادفها الرقمي، والجمع في نهاية السطر  التالي مباشرة هو الذي يمثل تاريخ وفاة صاحب الشاهد. كما نجد في شاهد قبر ناظلي ابنة ولي العهد توفيق بن إسماعيل إذ نجد السطر الأخير على طريقة حساب الجمل:

جنان نعمك  يا ناظلي

104  190   1003

ثم نجد في سطر مستقل مجموع هذه الأرقام وهو 1296 هجريا. وهذه هي الطريقة المعتادة في كتابة حساب الجمل على شواهد القبور في جبانات القاهرة خصوصا في ترب الإمام الشافعي وترب الغفير.

 

***

نماذج الأضرحة التي تتضمن حساب الجُمّل كثيرة. ولم يتم حصرها بعد. بل هي منتشرة مبثوثة في أرجاء جبانات القاهرة. فإذا كانت الكثير من نماذج حساب الجمل على عمائر القاهرة من جوامع وأسبلة قد درست بشكل جيد. فإن نماذج حساب الجمل في جبانات القاهرة تظل كنزا بكرا لكل باحث ومؤرخ مهتم بتفاصيل هذا البلد الاستثنائية. فلولا جهود مجموعة من محبي القرافة الذين يتقدمهم الدكتور مصطفى الصادق، لما تم الكشف عن هذه الكنوز المخفية ولا تم التنويه بذكرها. توجد في القرافة إذن ما يتوقع أن يكون أكبر مجموعة لفن حساب الجُمّل في مصر كلها، وهي مجموعة تنتظر الإحصاء والحفظ والدراسة لا الهدم والتبديد والفقد.

اقرا أيضا:

بساتين القرافة.. ثروة خضراء مهددة

جبانات القاهرة.. متحف مفتوح للعمارة المصرية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر