في السينما المصرية والعالمية (4): بين ليالي نجيب محفوظ وماستر كلاس أحمد مراد

للمرة الثالثة، هفَتني نفسي لإعادة قراءة “ليالي ألف ليلة” لنجيب محفوظ، بعد مرور عشرين عاما تقريبا على آخر مرة قرأت فيها الرواية. لسبب غامض لم يكن مفهوما بالنسبة لي، عندما رحت أبحث عنها وسط أعمال الأستاذ، وأبدأ في قراءتها، رغم انشغالي بالفعل بقراءات وكتابات أخرى.

كنت أفكر قبلها في أسباب “خيبة الأمل.. الراكبة جمل”، التي أحاقت بالسينما المصرية مؤخرا. وتعيقها عن المنافسة عالميا في فضاء أصبح مفتوحا يمتلئ بالفرص والأعمال المتميزة من الغرب والشرق والشمال والجنوب، ومن بلاد لم يكن لها وجود على خارطة السينما في العالم حتى سنوات قليلة مضت.

الإبداع للمبتدئين

وكنت قد شاهدت بعض حلقات من برنامج على منصة “شاهد” اسمه “ماستر كلاس أحمد مراد”. يتحدث فيه السيناريست والروائي الشهير الناجح عن كيفية كتابة السيناريو. وقد أعجبت في الحقيقة بجرأة أحمد مراد، كما أعجب بجرأة الكثيرين من شباب هذه الأيام، الذين يتصدون لأي عمل بثقة بالغة. ودون أدنى قدر من الشك أو التردد، وفي كثير من الأحيان دون علم أو خبرة.

أحمد مراد لديه بعض العلم والخبرة بالتأكيد، وكما يظهر من التعاليم والنصائح التي يوجهها لمشاهديه من الكتاب الشبان. فهي تعاليم ونصائح تقنية للمبتدئين، بعضها مفيد بالقطع، ولكنها لا تتطرق لجوهر العملية الابداعية، بل ربما تساهم في تسطيح الابداع واعتباره مجرد تنفيذ لبعض التقنيات والقواعد التي تحفظ دون فهم لما وراءها. وهذا موضوع آخر يطول شرحه..لكن المهم أنني فكرت وقتها وأنا أشاهد بعض فقرات “الماستر كلاس” في بعض تصريحات أحمد مراد عن الفارق بين القصة والرواية. فالقصة مشتقة من قص الأثر، أي يجب أن تكون حقيقية، بينما الرواية من مروية، أي تعتمد على الكذب (!!)، أو مثل تصريحه عن نجيب محفوظ وأعماله بأنها جيدة ولكنها لا تصلح للسينما لأن الزمن تجاوزها!

جوهر الخيال

ربما كان العقل الباطن هو الذي دفعني بعدها للبحث عن رواية “ليالي ألف ليلة” وإعادة قراءتها. مستمتعا ومبهورا بقدرة هذا الروائي والقاص والمبدع الفذ على التحليق بخياله وأفكاره ولغته إلى أي هضبة أو جبل يريد الوصول إليه. (مع الاعتذار للهضاب والجبال والـ”نمبر وان” التي يمتلئ بها الوسط الفني والسوشيال ميديا هذه الأيام!). وكنت أردد لنفسي مع كل صفحة تقريبا: كيف توجد مثل هذه الرواية في بلد به صناعة سينما عريقة ولم يتم تحويلها بعد إلى فيلم أو مسلسل. نضاهي به الخيال الهوليوودي والأوروبي والهندي والكوري وبلاد الواق واق؟!

ورحت أعدد في ذاكرتي بعض الأعمال فائقة الخيال التي كان ينبغي أن تتحول إلى أفلام من زمن طويل مثل “فساد الأمكنة” لصبري موسى. و”أولاد حارتنا” لمحفوظ، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح وغيرها من عشرات الأعمال القديمة والحديثة. ولا أحب أن يتصور القارئ هنا أنني من المنادين بلجوء السينما إلى الأدب، باعتباره فنا أرقى مقاما. ولا من المعتقدين بأن النص الأدبي الجيد ينتج فيلما سينمائيا جيد بالضرورة. فكم من أعمال لنجيب محفوظ تحولت إلى أفلام متواضعة، وعلى رأسها كل الأعمال المأخوذة عن “الحرافيش”!

ما أعنيه هو الجوهر الإبداعي الموجود في هذه الأعمال الأدبية. هذا الجوهر الغائب في أغلب ما يصنع اليوم من أفلام ومسلسلات.

خيال الواقعية

وإذا كانت الفكرة غير واضحة، فربما يكون العقل الباطن و”التزامن الباراسيكولوجي” الذي تحدث عنه كارل يونج، هو ما دفعني للعبث بالريموت كونترول بحثا عن فضائية لا أشاهدها عادة. وهي “ART” أفلام لأجد نفسي أمام فيلم “بداية ونهاية” لصلاح أبو سيف، المأخوذ عن واحدة من بدايات نجيب محفوظ “الواقعية”.

هنا أيضا، وللمرة العاشرة ربما، جلست أمام الفيلم محدقا، مبهورا، غير قادر حتى على الذهاب لاحضار الشاي الذي بدأ يبرد في المطبخ. بالرغم من أنني أعرف الفيلم عن ظهر قلب.. ورحت أفكر:

المسألة ليست فانتازيا وواقعية. الجوهر الإبداعي يكمن في الصدق والجدية والهم الذي يشعر به المبدع تجاه الموضوع الذي يعالجه. هذا فيلم يستحيل أن يصنع مثله الآن في صناعة السينما المصرية السائدة. لا إنتاجيا ولا رقابيا ولا بنجومنا الموجودين الآن ولا حتى بجمهور “المولات” الحديث، رهيف القلب، الخفيف.

صدق الفن وقسوته

هذا فيلم صادق، لا تصدق أبدا أنه تمثيل، وقاس، كما ينبغي للفن أن يكون، وحقيقي، كما ينبغي للانسانية أن تكون. وفوق ذلك كله خيالي بقدرة مؤلف الرواية وصانع الفيلم على إعادة تشكيل “الواقع” وخلقه كما لو أنه واقع مواز جديد. المسألة ليست في كون “ليالي ألف ليلة” عملا خياليا أو كون “بداية ونهاية” و”الثلاثية” أعمالا واقعية: في الحالتين الخيال جامح ومطلق السراح وجرئ لا يتوقف أمام رقابة رسمية أو إجتماعية أو ذاتية. وفوق ذلك خيال جاد وأصيل، لا علاقة له من قريب أو بعيد بدروس التنمية البشرية في كتابة القصة والمسرحية. ولا بدروس “الماستر كلاس” في كتابة الفيلم والمسلسل. ذلك أنه إذا غاب الجوهر: الحرية والجدية، فلا تنتظر فنا أو إبداع.

اقرا أيضا:

السينما المصرية والعالمية (3): معادلة الإنتاج السائد.. وفقا لـ«بيت الروبي»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر