جبانات القاهرة.. متحف مفتوح للعمارة المصرية

عندما تأخذك الخطوات في جولة بين جبانات القاهرة وخصوصا القرافة الصغرى، سيشد نظرك تلك القباب المنصوبة، لا تعرف حقيقتها، هل هي من عصور المماليك؟ أم يا ترى بنيبت في عصور أحدث؟ لكن شعور ما بالتناغم يسكنك. تأخذك الدهشة أحيانا عندما تعلم أن هذه الروائع المعمارية بنيت قبل عقود قد لا تبلغ القرن، فهنا في الجبانات ثورة من فنون المعمار لم تكتشف ولم تسجل بعد. متحف مفتوح يسجل مباراة بين كبار المعماريين المصريين والإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، لكنه إرث مهدد بالضياع.

سجل هؤلاء المعماريون الكثير من الأهداف الإبداعية التي جعلت القرافة وبحق كنزا معماريا يحكي الكثير عن قصة المعمار في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، بصورة ربما تتفوق على النماذج الموجودة في مدينة القاهرة ذاتها، هذا التراث المعماري الذي يستحق عناية فائقة تصل لحد المناداة بفكرة المتحف المفتوح، مهدد بمعاول هدم لا تعرف قيمة هذه الحجارة المعجونة بفنون مركبة، الطرز المعمارية أحد معالمها الأكثر ثراء ولفتا للأنظار.

تجربة المصريين مع الموت معجونة بتفاصيل حضارية وثقافية خاصة، تقدس الموت لكنها تعاشره، لذا تحولت أماكن الدفن إلى أماكن للقاء الأحياء، أحد مكونات حياتهم، فكما يسكن المرء في قصر أو بيت فاخر، عليه أن يهتم بمدفنه بشكل لائق ولا يقل بذخا، لذا انتشرت القباب الفخمة في القرافة منذ عصور قديمة، وفي عصر أسرة محمد علي اهتمت الأسرة الخديوية والطبقة العليا بالدفن في ترب الشافعي ثم ترب الغفير، كتعبير عن وضع هذه الطبقة الجديدة واستغلالها لفوائض القيمة لديها بصورة تؤكد هيمنتها على بقية المجتمع، فكان المعيار أن تكون المدافن معبرة عن أحوال هذه الطبقة الثرية، فانطلقت حمى بناء الأضرحة بفنون تمزج بين احترام المحيط العمراني المشبع بقباب إسلامية، وبين فنون العمارة الحديثة، فتحولت القرافة في غضون عقود قليلة إلى متحف عمارة مفتوح.

***

ويرصد الدكتور خالد عزب، أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية، في حديثه لـ “باب مصر”، التحولات المعمارية في القرافة عبر 150 عاما قائلا: “البداية كانت مع حوش الباشا الذي دفنت فيه جثامين أسرة محمد علي باشا، ومنذ هذه اللحظة بدأت تتكون طبقة وسطى في مصر وطبقة من الأثرياء المصريين والأتراك عملت على وضع تقاليد خاصة لإنشاء مدافن بصورة جديدة، في فترة زمنية بداية من 1820 تقريبا حتى 1952، وصاحب ذلك وجود مجموعة من المهندسين المعماريين الإيطاليين والفرنسيين والمصريين الذين بدأوا في تقديم إبداعات مختلفة لتصميم الأضرحة، ستجد مثلا حوش في السيدة نفيسة مستوحى من الطراز الفرعوني، ثم تجد كتابات تركية تغلب على كتابة شواهد القبور حتى الربع الثالث من القرن التاسع عشر، بينما اختفت هذه الكتابات بداية من الربع الأخير من هذا القرن، لتصبح الغلبة للشواهد المكتوبة باللغة العربية”.

***

ويلفت خالد عزب النظر إلى أن هناك تأثيرات تعود لمؤثرات أوروبية مستوحاة من فن الروكوكو والباروك استمرت في مباني القرافة حتى بدايات الاحتلال البريطاني لمصر العام 1882، بعد ذلك غلبت عمارة الأضرحة المستوحاة من العمارة الإسلامية الحديثة، وهنا نجد أن المصريين تمسكوا بالهوية الإسلامية في مواجهة الاحتلال، أي أن عمارة الأضرحة تعكس نوعا من أنواع التمسك بالذات والمقاومة بالعمارة والبحث عن الهوية باستخدام العمارة، ثم نصل إلى نموذج ضريح الأميرة شويكار الذي بني على شكل سرير، وهو من إبداع مهندس إيطالي”.

ويعبر عزب عن إعجابه الشديد بالتنوع المعماري الذي تحتويه القرافة. يقول “إن الخيال أطلق له العنان في مصر، بحيث وجدنا أنماط مختلفة من عمارة الأضرحة، وطفرة سريعة كل عشر سنوات، وهذه مسألة غير مسبوقة في تاريخ العمارة الإسلامية، لأن المعتاد أن تحدث هذه الطفرة كل قرن أو أكثر، لنجد تنوعات في القباب والمحاريب والمداخل ومناطق الاستقبال في حوش الدفن، حتى أن صالون الاستقبال كان في منتهى الرقي، ولم يهتم أحد بدراسة هذه الصالونات، ولا كيفية استخدامها في غرف الاستقبال بالأضرحة، مع أنها تعبر عن ثقافة مصرية خالصة”.

***

هذه الحركة الفنية لم تكن قاصرة على الطبقة الحاكمة في عصر أسرة محمد علي، بل شاركت فيها طبقات مختلفة من المصريين في الإقبال على بناء هذه الأضرحة لها ولعائلاتها، كما لم تكن حركة البناء قاصرة على المعماريين الأجانب، بل شارك فيها مصريون، مثل مصطفى باشا فهمي الذي له قبة ضريحية بالسيدة نفيسة، كما نجد أن ضريح أحمد باشا حسنين مصممه هو المعماري حسن فتحي، لكن يسجل خالد عزب هنا حقيقة أن الكثير من الأضرحة لا يعلم من بناها من المعماريين، إلا أنه يرى أن الغلبة كانت للمعماريين الإيطاليين والفرنسيين والمصريين.

ويلخص خالد عزب رأيه في ضرورة الحفاظ على النسيج المعماري لجبانات القاهرة المختلفة، بقوله: “نحن نمتلك بالفعل متحفا مفتوحا للعمارة فيه كم كبير من التنوع والتطور السريع غير مسبوق في تاريخ العمارة الإسلامية، ويجب الحفاظ عليها ليس فقط لأنها تراثنا بل أن بعض النماذج الموجودة في القرافة تؤكد أنها لمعماريين من فرنسا وإيطاليا دمرت أعمالهم في أوروبا خلال فترة الحرب العالمية، ولا توجد لهم أعمال إلا في القرافة، وهو ما يستدعي أولا الحفاظ على هذا التراث كله، ثم العمل على دراسة هذا السجل الضخم من الأعمال لمعرفة من بنى هذه الأضرحة والأحواش فائقة الجمال، كما أنه لم يتم دراسة هذه الأنماط المتنوعة بشكل واضح بعد”.

هذا التراث المعماري الضخم غير الموثق وغير المدروس بشكل واضح بعد، يعاني من تحركات الحكومة المصرية الرامية لإنشاء شبكة طرق بعد إزالة العديد من الأضرحة رفيعة المستوى الفني، والتي لم يتم تسجيل معظمها على قوائم الآثار أو التراث المصري، ما يطلق يد الحكومة التي تتجاهل إعلان اليونسكو للقاهرة مدينة على قوائم التراث العالمي، في العبث بهذه التحف المعمارية التي تعكس تنوعا هائلا لمختلف فنون العمارة بصورة قد لا نجدها في الكثير من الأماكن، خصوصا أن الجبانات تحتوي على مكون لا نجده كثيرا وهو التناغم بين مكونات الجبانة من معالم أثرية ومعالم حديثة حرص أصحابها على أن تكون متجانسة مع ما سبقها من عمائر.

***

من جهته، لفت كريم بدر، المتخصص في التراث الثقافي، في حديثه لـ “باب مصر”، إلى أن محمد علي باشا ابتدع “واقعا جديدا في القرافة في صورة طقس مصري صميم جدا، تمثل في بناء مدافن أسرته بجوار الإمام الشافعي، فحقق بذلك مبدأ المجاورة للإمام، وبالتالي اندفع أبناء الأسرة وكبار رجال الدولة في بناء مدافن في هذه المنطقة، وهذا ولد لدينا واقع جديد عندنا”.

وتابع بدر: “في حين أن معظم بيوت القاهرة القديمة لم تصل إلينا، ولم يتبق منها الكثير، وحلت محلها الكثير من المباني الحديثة بأشكال مختلفة في نسيج عمراني حالي يغلب عليه الارتباك، وهو ما لا نجده في القرافة التي يغلب عليها الانسجام بين عمائرة فترة حكم أسرة محمد علي والعمائر السابقة من العصر المملوكي، ونستطيع تتبع التأثيرات الأوروبية والطرز المعمارية المختلفة التي ظهرت في تلك الفترة والتي استوحت من العمارة المملوكية، مثل ضريح محمود سامي البارودي وضريح مصطفى رياض باشا وضريح أمينة يكن هانم، نجد فيها تشابه بطرز المباني السكنية التي بنيت في نفس الفترة داخل القاهرة”.

***

“الحفاظ على مكونات القرافة كتراث إنساني مهم جدا ومهم أن يبقى للأجيال المقبلة”، هكذا يقول كريم بدر، الذي يرى أن القرافة هي منطقة أثرية و موقع تراثي مهم جدا ،  يمكن تشبيهها ب “المتحف المفتوح” لأضرحة رائعة الجمال لمعماريين من مختلف الجنسيات، مثل المعماري الإيطالي ارنستو فيروتشي ، والذي تولى منصب كبير مهندسي القصور الخديوية، وإرنستو فيروتشي بك مهندس القصور الملكية، الذي صمم مدفن صبري باشا أبو علم، ومحمد علوي باشا، اللذان تشاركا في المدفن لأن هناك صلة نسب بينهما، وهو أحد أهم المدافن في القرافة ومبني على الطراز المملوكي المحدث (نيو مملوكي)، وإن كان مبني بثقافة العصر الذي بني فيه، وهو فترة الربع الأول من القرن العشرين، كذلك المهندس المصري الذي بنى ضريح محمد باشا راتب سردار الجيش المصري، والمعماري مصطفى فهمي باشا له عدة منشآت منها حوش أسرته في ترب السيدة نفيسة.

***

وشدد كريم الذي يقوم بتوثيق القاهرة من خلال التصوير الفوتوغرافي ، على ضرورة التوثيق الفعلي لكل الأضرحة في القرافة، ولفت النظر إلى أن أهمية هذه المباني معترف بها ضمنيا في ضوء تسجيل القاهرة بأكملها على قائمة التراث العالمي، وكذلك تخضع لوثيقة نارا للأصالة 1994، وهي وثيقة التزام دولي للتعامل مع المنشآت التاريخية، وهي تحدد مجموعة من القيم، من ضمنها القيمة التاريخية التي تقول إن المبنى قد لا يكون مميزا معماريا لكن يجب الحفاظ عليه، بسبب الشخصية التاريخية التي عاشت أو دفنت فيه، مثل هو حال مدفن الدكتور طه حسين، وهي قيمة تنضم للقيم المعمارية والرمزية والروحية للمكان وهي ما تعطيه قيمته وتدفع بضرورة الحفاظ عليه، وكل هذه القيم موجودة ومتوفرة في القرافة بجميع منشآتها.

***

ويرى بدر أن جبانات القاهرة نسيج عمراني متكامل ينقصه بعض الأشياء مثل: التصدي لأعمال التعدي على بعض الأحواش. وأعطى بعض الأمل في المستقبل بالقول إن هناك عدة طرق علمية معروفة للخبراء في هذا المجال للحفاظ على هذا النسيج العمراني الفريد، وإعادة تأهيل للموقع كله، وفقا لما هو معروف عندهم من أساليب إذا توفرت الإرادة، عبر إجراء حوار مجتمعي مع من يعيش في المنطقة وأصحاب الأحواش والجهات المعنية والمهتمة سواء حكومية أو مجتمع مدني، من أجل الحفاظ على هذا التراث للناس في المقام الأول وكقيمة ثقافية وهذا لن يتم دون إشراكهم في اقتراح الحلول.

ما يقوله عزب وبدر يلخص ما يقوله عشرات من المهتمين بجبانات القاهرة، والذين يعملون على توثيق ما تصل إليه أيديهم من أحواش وأضرحة وشواهد تكشف مع الوقت مدى الثروة غير المستغلة في الجبانات والتي تستحق تضافر الجهود لإنقاذها والحفاظ عليها، والعمل على استثمارها كمقاصد سياحية تحقق الكثير من الأهداف، أولها حماية هذا النسيج العمراني الحاوي لبدائع معمارية من أي عبث حالي أو مستقبلي، ثم استغلال هذه المساحة في بناء مجتمع سياحي يعتمد إعادة التأهيل والتوظيف السليم لكل ما تحتويه الجبانات في مثل هكذا مشروع إذ كان هناك من يفكر ويريد أن ينفذ.

اقرا أيضا:

قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة

«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب

هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

الخطوط الذهبية.. روائع القرافة المنسية

الباب السحري.. القرافة مفتاح كتابة تاريخ مصر

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر