معركة صلاح جاهين مع أصحاب العباءات السوداء

على مدار مشواره الفني  الكبير والثري رسم الفنان الراحل صلاح جاهين مئات الرسومات الكاريكاتورية التي تحمل روح الدعابة والفكاهة لمعظم الوظائف والحرف في العالم وتقريبا لم يترك مهنة أو صنعة لم يلقي عليها بخفة ظله في رسوماته في روزاليوسف، ثم صباح الخير، وأخيرا جريدة الأهرام، وفي الخمسينات من القرن الماضي كانت مجلة صباح الخير تفرد لريشته صفحتين بعنوان “صباح الخير يا…..”، ثم يكتب بعد “يا” ما تجود به قريحته من نقد مرح لبعض المهن أو الفئات العمرية أو العادات.

صلاح جاهين

من أوائل المهن التي رسم عنها جاهين كانت الصحافة، وهي مهنته الأساسية وكذلك رسم نقدا لاذعا للسينما وصناعها وهو أيضا كان ينتمي إليهم، ولم يتعرض جاهين لسوء فهم من رسوماته إلا في حالات قليلة سنذكر منها هنا معركته مع المحامين أو كما كان يلقبهم هو “أبطال الملاحم ذوو العباءات السوداء الفضفاضة”.

وتبدأ أحداث هذه المعركة المثيرة في شهر مارس 1983 ووقتها سافر صلاح جاهين إلى إنجلترا و أمريكا بتاريخ 6 مارس، وعاد يوم 18 إبريل وقبل سفره قام برسم عدة رسومات لتنشر في أثناء فترة غيابه عن مصر وكتب على كل رسم رقم لترتيب نشرها تباعا، وكانت تلك الرسومات تتناول شتى المواضيع والشخصيات والمهن من المدرسين ورجال الشرطة إلى الأطباء.

ذوو العباءات السوداء

ولأول مرة في جريدة الأهرام، تناول صلاح جاهين مهنة المحاماة بنفس البراءة والقلب الأبيض على حد تعبيره أيضا، فاكتشف صلاح جاهين بعد فوات الأوان أنه دخل بقدمه إلى “منحل” وهشّ بيديه في أشد الخلايا بأسا وأوجعها لسعا، كان جاهين قد رسم أربعة رسومات يمزح فيها بروح مرحة مع المحامين ويتناول أيضا قضايا كانت تشغل الرأي العام وقتها وهى أزمة السجائر وأزمة الزواج بين الشباب وغيرها، وقد نشرت تلك الرسومات الأربعة تباعا في أيام 28 و 29 و30 و31 مارس 1983.

في الرسم الأول تناول جاهين أزمة السجائر، فرسم زبون يريد أن يشتري علبة سجائر سوبر وبلغ من اليأس والتعب في الحصول عليها لدرجة أنه لجأ إلى محاميه ليترافع أمام بائع السجائر ليحصل له على حقه، الذي لم يعد يقدر على الوصول إليه منفردا، وكانت أزمة السجائر في ذلك الوقت تمثل قضية انشغل بها الرأي العام في مصر لمدة أربع سنوات.

وفي الرسم الثاني مزج جاهين بين مهنتي الطب والمحاماة، فرسم مريضا في زيارة لطبيب والطبيب يقول للمريض : “المحامي بيقعد في قضيتك سنين وعايزني أعالجك في أسبوع؟، يا خي دهده!!”، أما الرسم الثالث فناقش جاهين مشكلة الزواج بين الشباب، فرسم شاب وفتاة في كازينو في أقصى حالات الهيام يقولان لبعضهما “يالله بقى محاميا ومحاميكي يقعدوا مع بعض ونتجوز”، أراد جاهين هنا أن يلقي الضوء على التعقيدات التي تحدث في مجتمعنا لإتمام الزواج، وفي الرسم الرابع والأخير رسم محامي يترافع أمام قاضي ويقول للقاضي “أنا اسمي سامي… عاشت الأسامي وباشتغل محامي”.

رد الأهرام

وبعد أن انتهت جريدة الأهرام من نشر الكاريكاتيرات الخاصة بمهنة المحاماة بدأت في نشر سلسلة أخرى تتناول المدرسين والتدريس والمدارس، ولم يدر بخلد أحد من مجلس إدارة الأهرام أن ما رسمه جاهين عن المحامين سيثير زوبعة لدى أصحاب هذه المهنة ويرفع بعضهم دعاوي قضائية ضد الأهرام وضد صلاح جاهين، وكل ذلك وصلاح جاهين في أمريكا لا يتوقع أبدا أن أصحاب المهنة التي كان والده يريده أن يصبح واحدا منهم سيرفعون عليه دعاوي قضائية بسبب زعمهم أنه سخر من هذه المهنة الجليلة، وقبل أن يتدخل صلاح جاهين ويكتب مقاله التاريخي على صفحة كاملة في الأهرام، وربما كانت المرة الأولى التي تفرد فيها صحيفة الأهرام صفحة كاملة لصلاح جاهين ليكتب فيها مقالا، قبل كل هذا كانت إدارة الأهرام سباقة في الرد وتوضيح وجهة نظرها من الأزمة، فنشرت الأهرام كلمة بعنوان “كلمة الأهرام… عن المحامين والكاريكاتير” جاء فيها:

“ضاق بعض الإخوة المحامين بالرسوم الكاريكاتيرية التي رسمها صلاح جاهين قبل عشرة أيام وأظهر فيها بالتعليق شخصية محام.. وليس هناك خلاف في أن المحاماة مهنة من أشرف المهن وأجدرها بالاحترام وبالتوقير، الأمر الذي ينفي مجرد الظن في أن صلاح جاهين فكر من خلال رسومه في التطاول عليها أو التقليل من مهابة وجلال الاحترام الذي يحيط بها، خصوصا وأن هذه الرسوم هي رسوم قديمة تركها صلاح جاهين قبل شهر عندما أخطر للقيام برحلة إلى إنجلترا وأمريكا، وإذا كان الاتفاق لا خلاف عليه حول شرف المحاماة كمهنة، فلا نظن إلا أن الاتفاق أيضا لا خلاف عليه حول أن الأرض التي تقف عليها تلك المهنة وتمتد فيها جذورها هي أرض الحريات، حرية الفكر والرأي والتعبير وكل الحريات التي تحرص المهنة الشريفة على الدفاع عنها.. ولهذا يبدو متناقضا أن مهنة الحريات والدفاع عنها يضيق بعض أفرادها بعمل يدخل في نطاق حرية التفكير، ولقد كان التصور حتى وإن ظن البعض أن ما رسمه صلاح جاهين يمس مهنة المحاماة وهو في بالتأكيد غير وارد أو مقصود أن يكون أقصى ما يفعله هؤلاء هو كلمة عتاب لزميل ينتمي إلى نفس المنابع التي تنهل منها مهنة المحاماة، أما أن يصل الأمر إلى حد إقامة دعاوي قضائية على الأهرام وعلى صلاح جاهين فهذا أبعد بكثير مما يجب أن يتجه إليه التفكير”.

واختتمت صحيفة الأهرام كلمتها بالآتي: “إذا كان صحيحا أن بعض المحامين الذين أقاموا دعاوي قضائية ضد الأهرام وضد صلاح جاهين سوف يصرون على هذه الدعاوي، فمن يتصورون سيدافع عن الأهرام وعن صلاح جاهين في ساحة المحكمة؟، أليس محامون آخرون ينتمون لهذه المهنة الشريفة مهنة الدفاع عن الحريات كل الحريات؟”.

دعاوى قضائية

تخطت الدعاوي القضائية التي رفعت ضد صلاح جاهين والأهرام خمسة عشر دعوى في مختلف المحافظات المصرية، حتى أن صلاح جاهين بعد عودته إلى مصر قرر كتابة وجهة نظره في الجريدة وأفردت له الأهرام صفحة كاملة، فكتب مقالا بعنوان: “تأملات كاريكاتورية في المسألة المحامية” بتاريخ 22 مايو 1983، وتضمن المقال بعض الرسومات التي رسمها جاهين سابقا عن بعض المهن الأخرى، كما تضمن أيضا رسومات تتناول مهنة المحامي من بعض الرسامين الآخرين، ثم  بدأ جاهين مقاله المطول قائلا: “أبطال الملاحم ذوو العباءات السوداء الفضفاضة، التي تنطوي على أقوى الحجج وأنصع البراهين، أولئك الذين سأظل ما حييت أغبطهم على نجاحهم في ليسانس الحقوق.. فقد كنت أحاول قبل اشتغالي بالفن والصحافة أن أطلع محاميا زي ما قال باباه.. تلك الموسوعات الحية التي تعرف شيئا عن كل شيء وتعرف كل شيء عن القوانين وموادها وروحها، وهذا هو الأهم وأعني بذلك المحامين الذين أخشى أن أكون مضطرا لأن أقول لبعضهم أن معلوماتكم عن فن الكاريكاتير ليست أحسن بكثير من معلوماتي عن قانون الإجراءات الجنائية؟، لماذا؟، لأنهم أولاد بلد مدردحون يعيشون في قلب الحياة المصرية، فكيف يمكن أن يقفوا أما كلمة ضاحكة أو رسم كاريكاتوري دون أن يفطنوا لما فيها من روح الفكاهة…. أنا أرفض أن أصدق أن المحامين المصريين لم يفطنوا إلى ما في الرسوم الكاريكاتورية التي ظهرت لي في نهاية مارس الماضي من فكاهة خفيفة لا تضر”.

شرح الرسالة

ثم بدأ جاهين في شرح رسالة كل رسمة، وأنه كان يلقي الضوء على أزمات في المجتمع فمن الذي يحق له أن يغضب من كاريكاتير السجائر؟، المحامي أم مجلس إدارة الشركة التي تصنع السجائر؟، لأن الكاريكاتير يقول ببساطة أن شركة السجائر جعلت الحصول عليها أمرا شاقا.

وتابع جاهين سرده عن مشواره مع المحاكم في هذه الأزمة قائلا: “وتسابق بعض الأساتذة المحامين في إرسال عرائض الدعوى ضد الأهرام ممثلا في رئيس مجلس إدارته ورئيس تحريره وشخصي الضعيف، وتناثرت على خريطة الوجه البحري والقاهرة أسماء البلاد التي يجب علينا أن نقف أمام محاكمها لسماع الحكم علينا فكانوا خمسة عشر وكدت أرشق الدبابيس الملونة في الأماكن التي تهل علينا منها الدعاوي كالمحمودية والدلنجات ودمنهور وكوم حمادة وبولاق ودسوق إلى آخره، وكأننا في حرب وعدت وقلت لنفسي بدلا من الطواف بالأقاليم لماذا لا تكتب في الأهرام شارحا موقفك مصداقا لقول الشاعر “وداوني بالتي كانت هي الداء” و”ترضية للنفوس وتنقية للجو بيننا وبين جيراننا في النقابة”.

بخفة دم متناهية تقمص صلاح جاهين دور المحامي عن نفسه، وبدأ يتذكر “طشاش” ما كان يدرسه في كلية الحقوق، فكتب مازحا مع المحامين: “فمما قد يفيد في عملية المصالحة أن هذه الرسوم لم تقصد شخصا معينا من المحامين ومما ينفي تماما عنصر الجريمة وجودي طول الوقت خارج البلاد، فكيف بالله اشترك في الحياة العامة للوطن وبيني وبينه عشر ساعات من فروق التوقيت، ومن شروط التعويض على ما أظن ثلاث كلمات “خطأ – سبب- ضرر” وأنا لم أرتكب خطأ ولم أكن سببا في ضرر أحد”.

واختتم صلاح جاهين مقاله الطويل بعبارات تنطوي على مرارة في حلقه محاولا أن يداريها بأسلوب فكاهي: “أتمنى بعد كل هذا التفسير أن نطوي صفحة الخصومة ونعود أحبابا كما كنا وكما سنظل، وأما إذا رفض البعض وأصروا على إطلاق النار من كل مكان كما في الأفلام فإنهم لن يشوشوا علينا بالخمس عشرة محكمة التي تطالبونا بالمثول أمامها، فمحامو الأهرام يقولون لا يجوز محاسبة الشخص عن الفعل الواحد أكثر من مرة، ونحن لا نخاف إلا الله وعندنا الشجاعة الأدبية ما يكفي لأن نقف أمام محكمة العدل الدولية نفسها إذا كانت لا تزال موجودة”.

كانت هذه إحدى معارك صلاح جاهين أثناء مسيرة عمله الكبيرة مع أصحاب مهنة المحاماة، التي ربما كان صلاح جاهين واحدا منهم لو أطاع والده ولكنه لم يستطع الاستمرار في دراسة لا يخفق لها قلبه وخرج من كلية الحقوق ولم يعد، مما دعا فنان كبير مثل بيكار لأن يتساءل: ترى أين كان يمكن أن يكون موقع صلاح جاهين على خريطة النجومية لو استمر في دراسة القانون؟

اقرأ أيضا

الذهب..قصة صلاح جاهين المجهولة

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر