من النكسة إلى العبور.. قصة أول فيلم سينمائي يجسد حرب أكتوبر

قدمت السينما المصرية عدة أفلام لتخليد ذكرى حرب أكتوبر عام 1973، والتي تم تنفيذها عقب انتهاء الحرب كدليل على مشاركة السينما في الأحداث التي تعرض في الذكرى السنوية الأولى للحرب. جاءت الأفلام لإشباع الرغبة في رؤية مشاهد من النصر الذي لم يتمكن البعض من رؤيته.

«الرصاصة لا تزال في جيبي» كان أول أفلام السينما المصرية عن حرب أكتوبر. حيث تم تصويره بعد عدة شهور ليعرض لأول مرة في أكتوبر 1974. الفيلم عن قصة إحسان عبدالقدوس “رصاصة واحدة في جيبي”، ويتناول سيرة طالب جامعي تمزقت روحه على جبهتين: جبهة الداخل حين نال رجل سياسي فاسد من شرف حبيبته. وجبهة الحرب بعد هزيمة عام 67. وتناول الفيلم الحرب كطوق نجاة لهذا الشاب الذي يفر إلى المعارك على أمل العودة ليثأر لشرفه الذي لوثه رئيس الجمعية الزراعية عباس بيه “يوسف شعبان”.

الفيلم من إخراج حسام الدين مصطفى، وإنتاج رمسيس نجيب، وبلغت تكلفة إنتاجه نصف مليون جنيه وهو رقم ضخم في حينه. وقد سخرت القوات المسلحة كافة الإمكانيات لإنتاج الفيلم. واشترك فيه سلاح المدفعية والمهندسين بكامل وحداتهم.

**

تنطلق أحداث الفيلم مع محمد سليمان المغاوري “محمود يس” من الكونتيلا. والكونتيلا نقطة عسكرية هامة في شرق سيناء على حدودنا مع فلسطين، وارتفعت أهمية الكونتيلا وقت الحرب العالمية الأولى. بهدف اجتزائها من مصر الواقعة تحت الحماية البريطانية وتعطيل الحركة في قناة السويس. وبعد يوليو 1952 ظلت الكونتيلا مخفرا عسكريا بين مصر وإسرائيل.

أفرجت الوثائق العسكرية الإسرائيلية عن بيانات باسم عملية الكونتيلا تلك التي سطع فيها نجم إريل شارون في أكتوبر عام 1956 متزعم قوة عسكرية إسرائيلية اقتحمت الكونتيلا وقتلت الجنود المصريين وأسرت من بقي منهم أحياء. وهو ما مهد الطريق لنجاح غزو إسرائيل لسيناء خلال العدوان الثلاثي في 1956 إثر تأميم جمال عبدالناصر قناة السويس.

لم يخبرنا الفيلم شيئا مما ضمته وقائع تلك المنطقة. فيبدأ فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” من تاريخ 5 يونيو 1967 التي اجتاحت فيه القوات الجوية الإسرائيلية نقطة الكونتيلا وقتلت جميع جنودنا. ولم يتبق منهم سوى محمد المغاوري “محمود يس” الذي تبدأ ملحمته من الكونتيلا.

يبدأ مغاوري رحلته زحفا ولهثا في رمال سيناء في أجواء النكسة والانسحاب مصارعا الموت قبل أن ينتشله من الهلاك شيخ من بدو سيناء ويرسله إلى غزة.

مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم
**

تستغرق أحداث الكونتيلا نحو 15 دقيقة من مدة ساعتين مدة الفيلم. ولكنها فترة كافية لتكون الوقود الذي يدفع البطل في بقية الأحداث لاسترداد شرفه على الجبهتين. كما استغرقت مشاهد العبور تقريبا النصف الثاني من زمن الفيلم. فقيل إن الجيش المصري حارب من جديد لإعادة تمثيل مشاهد العبور حتى جاءت الحرب على الشاشة صورة حية من الحرب الأصلية.

كان الحكم الأول في تقديم الفيلم أن يكون فيلما مصريا كبيرا يسجل النصر، ويقدمه في شكل أقرب للسينما التسجيلية والتوثيقية. فقد كان لدواعي السرية والمفاجأة الإستراتيجية، أنه لم توثق ساعات العبور الأولى. ولذلك فقد كان على صناع الفيلم كهدف من أهم أهداف إنتاجه أن يستكمل هذا القصور الذي حدث في توثيق حدث مصري وعربي وعالمي. وأن يقوم الفيلم عوضا بفعل ذلك. وقد نجح الفيلم في تحقيق ذلك إلى حد كبير. فمشاهد العبور بالفيلم كانت وستظل وثيقة بصرية لما تم بالفعل على الجبهة.

ولكن من جانب آخر، وربما للمدى الزمني المحدود، فإن القصة والإخراج مروا سريعا على محطات رئيسية كانت هي المنطلق لتحقيق هذا النصر. ومن المؤكد أن فيلما واحدا لن يشمل كل الأحداث.

**

ويرى الكثير من النقاد والجماهير أن الفيلم من أفضل الأفلام التي أرخت لحرب أكتوبر وما قبلها. بينما يرى آخرون أن شخوصه فقدت وجودها في أحيان كثيرة لما كان بها من رمزية على نحو صريح. وجاءت آراء النقد للفيلم أشبه بما يكون كمحاكمة للأعمال السينمائية سياسيا.

بعد عرض الفيلم بشهور، وكانت روح أكتوبر لازالت حاضرة بأجواء الوطن العربي كله. عُقدت فعاليات الدورة الخامسة من أيام قرطاچ السينمائية، وكان من ضمن المسابقة الرسمية أفلام مصرية مثلت مصر في المهرجان منها: فيلم “العصفور” للمخرج يوسف شاهين، والذي كانت أحداثه تدور في فترة ما قبل حرب العبور وتحقيق النصر. وفيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”  إذ كانت الندوة الخاصة به معبرة عن حالة الزخم السياسي والثقافي الذي حدث في حينها. ولما فيها من ربط شديد بين السينما والمحتوى الثقافي والمجتمعي والسياسي ببلدان الوطن العربي عموما ومصر على وجه التحديد لما لها من خصوصية. خصوصية تكوينها وتاريخها وخصوصية الحدث الأهم الراهن والطاغي على ما عداه.. نصر أكتوبر.

من أحداث الفيلم
من أحداث الفيلم
**

وباعتبار أن السينما عنصرا مؤثرا، وأصبح بالإمكان الاعتماد عليها عند كتابة التاريخ أو عند توثيق الوقائع التاريخية خاصة المعاصر منه. حيث يتسنى للمؤرخ أن يتعامل مع الفيلم السينمائي سواء كان روائيا أو وثائقيا بوصفه “وثيقة” يمكن الاستناد إليها عند كتابة تاريخ فترة ما.

وفي حالة غياب الوثائق والمستندات الرسمية وبعثرة غير الرسمية وصعوبة الحصول على كافة المعلومات لصعوبة إتاحتها. يصبح أمر التدقيق والتحقيق والتوثيق للحفاظ على مادة مصورة تصلح لاستخدامها كوثيقة أو كمرجع يعتد به للحدث التاريخي، أمرا بالغ الصعوبة. خاصة أن حرب أكتوبر يعد حدثا مصريا فذًا بجميع المقاييس وانتصارا عسكريا وسياسيا مشهودا له. ولكن وقفت السينما المصرية موقف العاجز. وبدت أفلامها عن حرب أكتوبر ضئيلة القيمة، رديئة المستوى في السنوات الأولى وقليلة العدد في السنوات التالية. ومتفاوتة في تناولها الذي غلب عليه المبالغة والمباشرة إلا استثناءات قليلة.

ونتيجة تعدد الأسباب وراء ذلك التفاوت في مستوى أفلام حرب أكتوبر، وعدم اهتمام السينما بما حملته الحرب من دراما حقيقية اهتماما كافيا. ظل انتصار أكتوبر بعيدا عن التناول اللائق على شريط السينما المصرية.

اقرأ أيضا:

«أبطال من مصر» لأحمد راشد: كيف تصنع فيلما عن نصر أكتوبر؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر