أكشاك الموسيقى.. هل تعود؟

تمنح الموسيقى الروح للعالم، بل تمنح الحياة لكل شيئ كما يقول أفلاطون. ومن هنا عرفت العديد من المدن العالمية الحضارية ظاهرة مهمة هي إقامة أكشاك الموسيقى في الحدائق العامة والميادين الشهيرة، يمكن للجمهور في الشارع أن يستمتع بعزفها، ويطرب بما تمنحه من بهجة روحية، وقد بدأت فكرة إنشاء أكشاك للموسيقى في عهد أسرة محمد علي، وانتشرت تلك الأكشاك في العديد من الحدائق الشهيرة في مدينة القاهرة والمحافظات.

حديقة الأزبكية

تعتبر حديقة الأزبكية من أقدم الحدائق التي ظهرت بها أكشاك لتقديم الموسيقى، وكان الكشك عبارة عن برجولة في مكان مرتفع في الحديقة تعزف فيه إحدى الفرق الموسيقية أمام المواطنين، وقد غنى في حديقة الأزبكية التي أنشأت عام 1864، التي تعد أعرق حديقة نباتية في مصر، المطربة أو المغنية “ساكنة هانم” أقدم مغنيات مصر في العصر الحديث.

وشهدت أكشاك الموسيقى العديد من الاحتفالات الرسمية والشعبية للمصريين والأجانب والمصريين، مثل عيد الجلوس السلطاني، واحتفال الجالية الإنجليزية في مصر بعيد الملكة فيكتوريا وغنى في تلك الأكشاك كبار المطربين، مثل: عبده الحامولي ومحمد عثمان وأم كلثوم، كما كانت الجمعيات الخيرية تقيم فيها احتفالاتها، وبجانب حديقة الأزبكية شهدت حدائق الأورمان وحديقة الميرلاند وحديقة الحيوان بالجيزة، العديد من الأكشاك التي كانت مقامة على ربوات عالية تعزف فيها الفرق الموسيقية أجمل الألحان والمقطوعات الموسيقية لمدة تتجاوز الساعة.

وتزامنًا مع هذا الاتجاه انتشر ظهور الأكشاك التي تقدم فيها الفرق الموسيقية العديد من الحفلات المجانية المفتوحة لزوار الحدائق في يوم الجمعة، بالعديد من الحدائق العامة في مختلف المحافظات المصرية حتى باتت تلك الأكشاك معلم من معالم الحدائق العامة في مصر في فترة من تاريخها الحديث، وتدريجيًا اختفت أكشاك الموسيقى.

أكشاك الفيوم الموسيقية

“كنت أنتظر يوم الجمعة من كل أسبوع وأنا طفل صغير على أحر من الجمر، تساعدني والدتي في إرتداء ملابسي التي تتكون من الشورت والقميص والجزمة السوداء، وأقف في انتظار العرض الموسيقي لموسيقى المطافي، ثم أسير وراء طابور العرض الذي كان يسير بمحاذاة بحر يوسف وتعود حتى تستقر في كشك الموسيقى بميدان قارون – ميدان السواقي حاليا-“، هكذا وصف الدكتور نبيل حنظل، الخبير السياحي، ذكرياته، وهو طفل صغير مع موسيقى المطافئ التي كانت تجوب صباح السبت من كل أسبوع في الثامنة صباحًا بمدينة الفيوم في الخمسينات.

يقول حنظل: أتذكر المشهد جيدا، فقد كان أبناء مدينة الفيوم يصطفون على جانبي الطريق أثناء عرض فرقة المطافئ الموسيقية، كانت تعزف الأغاني الوطنية والعاطفية لكبار النجوم مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، ويتجمع الجمهور في الحديقة لسماع الموسيقى، وكان أصحاب المحال على جانبي الطريق يضعون الزهور أمام المحال عند مرور العرض، وكانت البلدية تستعد من قبلها بتنظيف وكنس ورش الشوارع، لقد كانت البهجة تظهر في كل شيء ويشعر بها الجميع.

ويكمل حنظل، أيضًا كان يوجد في منتزه فاروق – نادي المحافظة حاليا-، أحد الأكشاك الموسيقية التي كانت مخصصة للفرق الموسيقية، التي انقسمت إلى فرقتين أساسيتين (فرقة المطافئ العسكرية الموسيقية – وموسيقى البلدية)، وكانت حفلاتها تتم بشكل أسبوعي وفي الأعياد والمناسبات العامة، وتتسم موسيقى البلدية بالطابع الشرقي والآلات الموسيقية الشرقية “التخت الشرقي” من عازفين على العود والكمان والقانون وغيرها من آلات موسيقية شرقية، أما فرقة المطافئ العسكرية “موسيقى البوليس” فكانت تستخدم الآلات النحاسية المعروفة.

إحياء واختفاء

ظلت فرقة موسيقى المطافئ تعزف بشكل أسبوعي وفي الأعياد في كشك الموسيقى، لكنها توقفت في عام 1968، وفي محاولة لإحياء تلك الظاهرة الجميلة وعودة كشك الموسيقى، قام الدكتور نبيل حنظل، بعد حرب أكتوبر 1973 باستئناف هذا النشاط، حيث كان وقتها مؤسس ومدير قسم السياحة في ديوان عام المحافظة، وكان أول ما فكر فيه هو عودة الحياة لأكشاك الموسيقى كما كان يراها سابقا.

يقول حنظل: عملت على عودة نشاط الموسيقى في السبعينات بعد انتصار أكتوبر، حيث كان يوجد وقتها في ميدان السواقي ثلاثة أكشاك للموسيقى، وقمنا في المحافظة وتحت إشرافي بعودة فرقة موسيقى المطافئ “فرقة البوليس” كما كان يطلق عليها، وقد وفر ديوان عام المحافظة بالتعاون مع مديرية أمن الفيوم، الزى الخاص لأعضاء الفرقة، وتم تخصيص برنامج موسيقي على مدار الأسبوع يبدأ من يوم الجمعة، حيث تعزف الفرقة بكشك الموسيقى بميدان السواقي طوال اليوم، ويوم السبت يخرج طابور العرض الموسيقى ليجوب شوارع مدينة الفيوم.

ويضيف حنظل، لم نكتف بأكشاك موسيقى الفيوم، بل نظمنا حفلات أخرى في الحدائق العامة بمنطقة السيليين الشهيرة، يوم الخميس من كل أسبوع، و حفلة أخرى يوم الأحد في حديقة أوبرج الفيوم، وقمنا بتنظيم رحلات لأهالي الفيوم تخرج من ميدان السواقي إلى منطقتي عين السليين وبحيرة قارون وكان سعر التذكرة 25 قرشا شاملة المشروبات، وبالطبع كانوا يستمتعون بعزف الفرقة الموسيقية.

اختفت الأكشاك الموسيقية في الفيوم منذ مطلع الثمانينات، وتغير شكل ميدان السواقي أكثر من مرة وأزيلت الأكشاك الموسيقية ولم تعد موجودة، وحل محلها مكبرات الصوت والـ”دي جي” وأصوات كلاكسات السيارات والضوضاء التي تملئ المكان، واختفت معها أيضًا فرقة المطافئ العسكرية.

محاولات أخيرة

بذلت بعض الجمعيات الأهلية محاولات لعودة إحياء أكشاك الموسيقى، فقررت الجمعية المصرية للثقافة والفن والإبداع التي كان يرأس مجلس إدارتها الفنان هاني مهني، في شهر يوليو2002 إقامة مجموعة من الأكشاك الموسيقية في القاهرة ومحافظات مصر لتقديم الموسيقى والأغاني للجمهور مجانًا، بهدف نشر الحس الموسيقى والارتقاء بالذائقة الفنية لدى الجمهور، لكن المحاولة جاءت على استحياء ولم تر النور بشكل تام.

وفي أغسطس من عام 2017 قال الدكتور أحمد مجاهد، حينما كان يعمل مستشارًا لوزير التنمية المحلية لشؤون الثقافة، إنه ضمن خطة وزارة التنمية المحلية للمشروعات الثقافية، إنشاء أكشاك للموسيقى في مختلف المحافظات المصرية، ومن المثير للسخرية أن الدكتور مجاهد كان يبشر بتفعيل الفكرة بدون أكشاك في محطات مترو الأنفاق، لكنها لم تظهر وظهر بدلاً منها في نفس العام أكشاك تقدم الفتوى الدينية.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر