عدسة أزهرية لرصد ليالي الأزبكية

ظلت الأزبكية لفترة طويلة نقطة التقاطع بين عالمين، منذ نشأتها كحي سكني في نهاية القرن الخامس الهجري، وهي تفصل بين قاهرتين، من ضمن قاهرات كثيرة. ففيها عاشت النخبة المملوكية والعثمانية بعيدا عن قاهرة العامة حيث الأحياء المكتظة. وفي القرن التاسع عشر أصبحت فاصلة بين القاهرة القديمة والمدينة الحديثة التي بناها الخديو إسماعيل، وشكلت الأزبكية نقطة الارتكاز فيها، بما عرفته من مسارح، لتصبح المنطقة مرتعا للملذات، الأمر الذي استوقف أحد الأزهريين ليلقي نظرة اجتماعية ناقدة في نهاية القرن التاسع عشر.

***

انفعل الشيخ أحمد عاشور وهو خريج الأزهر الشريف بما رآه من انحراف اجتماعي في الأزبكية، فخرجت أزجاله الشعرية لترصد وتحلل وتنتقد ما تراه. فجاء نص بديع ومختلف بعنوان (التحفة الزكية في سياحتي مصر والأزبكية)، والذي أصدره في طبعة محققة الدكتور عمرو منير، المتخصص في تحقيق السير الشعبية، وصدرت عن دار العين مؤخرا.

الكتاب في بنيته الأصلية التي صدرت طبعته الأولى عام 1895، عبارة عن مجموعة من الأزجال. وهو الفن الذي برع فيه أحمد عاشور الأزهري، الزجل الأول فيها مخصص لواقع منطقة الأزبكية الاجتماعي. ويكشف فيه عن بعض الأصوات الرافضة لأمراض التحديث الجارية في القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فأحمد عاشور الأزهري يركز نقده على التهتك والخلاعة التي ضربت أطنابها في ربوع حديقة الأزبكية والشوارع المحيطة بها، والتي كانت بلا شك محل رفض رجل مصري بخلفية أزهرية. ولا يعني هذا أن أحمد عاشور كان متزمتا أو منغلقا على الذات، بل نعرف من خلال سيرته أنه كان منفتحا على التيارات الحديثة. ويكتب الأزجال الساخرة الناقدة، لكن لا يأتي هذا على حساب تصوره الأخلاقي الرافض لمظاهر الخلاعة الظاهرة للعيان بصورة فجة بالنسبة له وللقطاع الأكبر من المصريين وقتذاك.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يقول صاحب التحفة الزكية:

كان يوم نزلت الأزبكية اتفرج وانظر عجايب الدهر وابقى استخرج

أشعار لطيفه للفطين يدرج يقرا ويفرح والحزين يتحير

***

يمكن النظر إلى أزجال أحمد عاشور باعتبارها أحد تجليات الصراع بين الأصالة والحداثة في مصر. بحسب عمرو منير محقق النص، أو ربما تعكس اختلاف التصورات عن مستقبل مصر يومئذ، فالرجل من خلال سيرة حياته وحجم معارفه الواسع، يبين عن تقبل كامل للحداثة لكن بشرط أن يتم تمصيرها وإخضاعها لمنظومة الأخلاق المحلية ذات الأصول الدينية والعرفية معا، والتي ترفض بعض الجوانب السلبية للحداثة الغربية في ما يتعلق بالأخلاقيات. كما يمكن النظر إلى نص أحمد عاشور باعتباره تعبير عن دهشة شخص يرى عالمه الذي عاش فيه يتحول إلى عالم قديم تطوى تفاصيله أمام عالم جديد يكتسح كل شيء ويبدو أكثر ارتباطا بقيم وافدة.

يقول أحمد عاشور الأزهري:

قابلني واحد قال: تعال يا تايب خش الجنينه تلقى جوا عجايب

جوا الجنينه شفت جاريه بترقص سوده شبه الفحم لما يبرص

وقف معاها في السعة دي مرقص واحد خواجه بس وشه مجدر

***

يقدم الشاعر الزاجل مشاهد اجتماعية شديدة الندرة لما كان يجري في الأزبكية وما حولها. وهي مادة تاريخية مهمة جدا للباحثين في مجال التاريخ والاجتماع، بل وفي الأدب فاللغة العامية التي يكتب بها عاشور نصوصه وثيقة في حد ذاتها على تطور العامية المصرية. وكيفية تطويعها لكي تكون معبرة عن الأزجال التي يكتبها عدد من شعراء ذلك الزمن القريب البعيد بما فيه من موضوعات حديثة، فهو يتناول موضوعات تتعلق براقصات المنطقة وبنات الخطايا، وظاهرة تناول الحشيش والخمور وخصوصا البوظة، المشروب المسكر الأول للطبقات الشعبية حينذاك.

يقول:

قلت القبايح يعملوها تجاره يا رب تستر دي الرجال وتحرز

مشيت شويه شفت ناس جيين يجروا المعاصي في السكك ماشيين

حدثت نفسي هموا دول نايمين نسيوا الشريعة والكتب والمحشر

***

العيب الوحيد في نص أحمد عاشور، غياب الاهتمام بالجانب الطبوغرافي لمنطقة الأزبكية. وهو أمر مفهوم كونه غير معني بهذا الجانب من الأساس، فلا تحضر عنده بعض أسماء الأماكن القريبة إلا عرضا. فالاهتمام الأساسي عنده هو النقد الاجتماعي ورصد ما يصفه بالمعاصي الاجتماعية. وهو ما يمكن اعتباره غطاء لنقد للاحتلال البريطاني وما زرعه من أمراض اجتماعية في مصر. وهي جوانب شديدة الأهمية، لكن نقص نص عاشور عوضه المحقق عمرو منير. الذي يعطينا مقدمة حافلة هي في الحقيقة دراسة عن حي الأزبكية وهنا تظهر أهمية الطبعة الجديدة من (التحفة الزكية في سياحتي مصر والأزبكية).

يعمل عمرو منير على موضعة نص أحمد عاشور في سياقه التاريخي والاجتماعي. ما يلقي بمزيد من الضوء على جوانب متعددة من تاريخ القاهرة في فترات مختلفة. فهو يقدم ترجمة مهمة لمؤلف الأزجال أحمد عاشور، لنعلم أن الأخير تعلم في الأزهر. وتوجه للعمل بالصحافة الساخرة، في جريدتي (الأرنب) و(الباباغلو). وشارك في المنتديات الثقافية التي انتشرت في القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. قبل أن يتفرغ لكتابة الأزجال الشعبية والأغاني الوطنية. ليترك خلفه عدة مؤلفات منها: (القول المفيد في بدع مصر الجديد)، و(رياضة البدن في نوادر الوطن)، و(الاختراعات الهزلية في الحكايات والنوادر والأزجال الهلسية).

ثم ينتقل عمرو منير لتقديم دراسة تاريخية عن نشأة حي الأزبكية على يد الأمير المملوكي أزبك من ططخ. ثم تطورها في العصر العثماني لتكون مركز تجمع النخبة ومركز احتفالاتها. وصولا إلى عصر التحولات على مدار القرن التاسع عشر. عندما كانت الأزبكية الساحة التي التقى فيها وعليها المماليك والفرنسيون ومحمد علي باشا والخديو إسماعيل. وشهدت دائما أولى مراحل التحديث، فكانت المختبر الأولي الذي يجرب فيه حكام البلاد ما يعن لهم من أفكار وصولا إلى لحظة ميلاد القاهرة الخديوية. حيث كان تنظيم منطقة الأزبكية هو منطلق عمليات بناء الأقسام الحديثة من المدينة في عصر الخديوية.

***

نحن أمام كتاب مختلف، في لغته وموضوعه، يقدمه لنا المحقق عمرو منير في حلة جديدة وأكثر دقة وتعبيرا عن روح النص. فأزجال أحمد عاشور التي تضم فضلا عن نص الأزبكية مجموعة من الأزجال الاجتماعية المختلفة. نص شديد الأهمية في فهم ذهنية بعض عناصر النخبة القاهرية في فترة ثرية بالتحولات الاجتماعية بما أفرزته من تناقضات كان لها أحمد عاشور بالمرصاد. فترك لنا أزجاله التي تحولت إلى وثيقة تاريخية عن عصر بأكمله.

اقرأ أيضا:

«الصادق» يحفظ ذاكرة مقابر القاهرة رغم خطر المحو

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر