القباب الفاطمية.. سحر الحكايات في أسوان

في أسوان، تلك المدينة التي تمتلك نصف وداعة الدنيا، تقبع جبانة قديمة تبهرك بحسنها، بروعة معمار قبابها، تلك هي الجبانة الفاطمية في أسوان، التي تضم طبقات من التاريخ والتراث والحضور الشعبي، كنقطة جذب سياحي لا تتوقف عند حكاية الأثر بل تنقل تجربة مجتمع كامل في التعامل مع هذا الأثر، لتنتج لنا هذه الوحدة المعبرة عن روح المدينة والمكان، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة لتأمل كل هذا الجمال الذي ينساب من المكان الفسيح المرصع بقباب ضريحية لا تجد لها مثيل في أي مكان آخر في العالم.

**

الجبانة الفاطمية تعد واحدة من أقدم وأشهر الجبانات الإسلامية في مصر، وتتميز بقبابها التي تعود إلى العصر الفاطمي (358- 567هـ/ 969- 1171م). وهي تعكس حقيقة تاريخية بخصوص تواجد كتلة شيعية وبعض آل البيت في المدينة منذ زمن طويل في المدينة. كما أثبت الأدفوي في كتابه (الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء الصعيد)، وكانت أسوان في تلك الفترة ثغر مصر الجنوبي، ومدخل البلاد الجنوبي فكانت مدينة على قدر كبير من الأهمية والخطر الاستراتيجي والثقل التجاري بالنسبة للفاطميين. كما رصد الدكتور محمد الحويري في كتابه (أسوان في العصور الوسطى).

إزاء ذلك النشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الذي عاشته مدينة أسوان، كان طبيعيا أن تشهد حركة تعمير واضحة للجبانة التاريخية في المدينة، والتي تبدو أقدم من العصر الفاطمي، لكن البصمة الفاطمية تمثلت أساسا في القباب ذات الجمال الاستثنائي التي لا نجد لها مثيل. إلا ربما في القبة الفاطمية الملحقة بالجامع العمري في قلب مدينة قوص، وهي أيضا من أكبر المراكز التجارية في مصر خلال العصر الفاطمي.

**

أهمية الجبانة الفاطمية لا تقف عند طبيعتها الأثرية والمعمارية الفريدة إذ تعد من أكبر الجبانات الإسلامية التاريخية في مصر كلها، بل تكتسب أهمية أخرى كونها موقعا للتراث الحي. إذ رغم طابعها الأثري فهي لا تزال مستخدمة من الأهالي ليس على مستوى دفن الموتى فقط، بل على مستوى التدين الشعبي. ما يجعل الجبانة الفاطمية نقطة جذب روحية ودينية للمدينة، لذا تجد الكثير من بصمات الأهالي عبر الزمن على جدران القباب الضريحية بالجبانة، لذلك صدر عن المعهد الألماني للآثار عن مشروع ترميم وتوثيق وإدارة موقع الجبانة الفاطمية بأسوان، دراسة مهمة عن مخربشات الزوار بالجبانة الفاطمية في 2022، كانت الدكتورة فاطمة كشك إحدى أبرز المشاركين فيها.

حكايات الجبانة الفاطمية في أسوان لا تنتهي، لكن تظل حكاية قاضي الشريعة الشيخ أبو زهرة مركزية في حكاوي أهالي أسوان، والتي ترسم علاقتهم في أزمنة مختلفة مع هذه الجبانة السحرية. وتكشف لنا كيف أخضعوا هذه المنطقة الأثرية لمزاج التدين الشعبي، الذي أعاد نسج مفردات المكان في جدارية جديدة تعبر عنهم وتنتمي لهم. بما يكشف عن حوار بين الأثر ومحيطه البشري أخذ من كل الطبقات الحضارية التي مرت على مدينة بعظمة أسوان، وتركت بصمات لا تنسى على هذه المدينة ذات الموقع السحري.

مقام الشيخ أبو زهرة في أسوان
مقام الشيخ أبو زهرة في أسوان

لا نعرف متى اختار المزاج الشعبي إحدى القباب الفاطمية ليطلق عليها لقب الشيخ “أبو زهرة قاضي الشريعة”. لكنك ستعرف القبة فور أن تزور المكان لأنها مميزة بلون أزرق يلطخ جدرانها وأرضيتها الداخلية. وهو لون الزهرة ذلك المسحوق المستخدم في غسل الملابس في بيوتنا القديمة. والذي يبدو أنه السبب في حمل قاضي الشريعة لكُنية أبي زهرة. ونحن نعرف أن الإمام الشافعي حمل لقب قاضي الشريعة لكنه أمر منفصل عن قصة قاضينا في أسوان.

**

تحكي الأسطورة الأسوانية عن قاضي الشريعة الذي يواصل مهام منصبه من العالم الآخر. فالولي حاضر لحل مشاكل مريديه، لذا تتقدم النساء بإلقاء مادة الزهرة الزرقاء داخل قبة قاضي الشريعة. من أجل أن يكشف لها عن المستور والحقيقة الغائبة عنها، ومعرفة من يترصد لها بعمل سحري. أو إذا كان زوجها متزوج من أخرى، أو غير ذلك من أمور تشغل عقول النساء والرجال في المجتمعات ذات الأصل الريفي. ويكشف حجم مادة الزهرة الملقاة داخل الضريح عن حجم الاعتقاد الشعبي الواسع في كرامات قاضي الشريعة.

لكن الأمر لا يخلو من روح انتقامية تحوم على المكان. لذا إذا تصادف أن زرت المكان بحضور أحد أهالي أسوان فسيحذرك بشدة من أن عبور القبة من داخلها. سيمتلئ وجهه رعبا إذا عبرت من فوق بقايا القبر الملطخ بألوان الزهرة. لأن الاعتقاد الراسخ أن بعض أعمال أصحاب النفوس المريضة قد تنالك بسوء.

فالبعض استخدم رمزية قبة قاضي الشريعة في تنمية عادات سيئة. مثل دق مسمار في جدار القبة الضريحية، من أجل طلب الأذية لشخص بعينه. يتم تحديده وذكره عند دق المسمار في جدار القبة. بينما إذا أردت أن تقلب حياة عدوك رأسا على عقب فما عليك إلا أن تكنس قبر قاضي الشريعة أو تلقي بمقشة داخل المقبرة.

**

قصة قاضي الشريعة، ليست وحدها التي تزين الجبانة الفاطمية، فإذا كان الأهالي يبحثون تحت القبة عن العدل الغائب. فإن الفتيات يبحثن عن السعادة التي تبشر بها الحياة الزوجية القادمة في قبة أخرى غير بعيدة عن قبة قاضي الشريعة. وهي قبة سيدي إبراهيم الدسوقي، التي تندفع إليها الفتيات المقبلات على الزواج، لوضع الحناء على القبة طلبا لإنجاح الزيجة المرتقبة. فإذا كانت قبة قاضي الشريعة ملطخة باللون الأزرق. فقبة الدسوقي ملطخة بالأحمر المحروق لون الحناء المستخدمة بكثافة في الليلة السابقة على ليلة الدخلة.

ولا تتعجب من وجود قبة منسوبة لإبراهيم الدسوقي في جبانة أسوان. رغم أنه مدفون في مدينة دسوق في أقصى شمال البلاد حيث محافظة كفر الشيخ المطلة على البحر المتوسط. فالأمر تم تفسيره في المعتقد الصوفي بطريقة رومانتيكية بديعة. إذ يرى أهالي أسوان أن أقطاب الصوفية وكبار آل البيت، رأوا أن المسافة كبيرة على أهل أسوان لزيارة مراقدهم ومشاهدهم المتمركزة في أماكن متفرقة من أنحاء مصر. لذا وضعوا لهم عدة أضرحة بديلة تمثل كل قطب وشريف في المدينة. لكي يكون لقاء المحبة مستمرا وبلا أي مشقة على الأسوانيين.

فلا تتعجب عندما تجد قبة في الجبانة الفاطمية كتب عليها اسم أبي الحسن الشاذلي. أو يشير البعض إلى قبتين متجاورتين بأنهما للحسن والحسين ابني السيدة فاطمة الزهراء، بينما تقع قبة على أعلى الجبل المطل على الجبانة ويطلق عليها الأهالي قبة السيدة زينب. لقد تحولت الجبانة الفاطمية إلى ساحة لقاء بين رموز آل البيت والأولياء في مصر.

الفاطمية
القباب الفاطمية

هذا التراث المتداخل بين الأثر والبشر والدين، يخلق سبيكة اجتماعية تستحق التوقف أمامها ومحاولة رصدها والتعاطي معها. من أجل الفهم لا الإدانة المبنية على الجلوس في مقعد القضاة كما يفعل بعض من لا يفهم شروط الاجتماع البشري. ففي داخل الأساطير والحكايات الشعبية تكمن حقيقة تاريخية ما تمكنت من الحياة في صورة جديدة قد تحجب أصلها. لكنها تمنح لها القدرة على الاستمرارية. فلولا الاعتقاد الشعبي في قباب الجبانة الفاطمية لاندثرت الأخيرة بالكامل أمام تحولات الزمن الذي لا يرحم. فنحن ندين لهذا الموروث الشعبي الذي حمى لنا هذه الروائع المعمارية حتى يومنا هذا.

اقرأ أيضا:

الكتابة على الجدران.. عادة تاريخية في القاهرة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر