«الروزانا» من الشام إلى بورسعيد

يارايحين لحلب حبي معاكم راح

يا محملين العنب.. تحت العنب تفاح

يا مين يجيبلي حبيبي والفؤاد يرتاح

مقطع من أغنية تراثية مطلعها “آه يا لالي يا لالي يا لالي يا أبو العيون السود يا خلي” من تراث السمسمية ببورسعيد، كما قدمها الفنان محمد منير ضمن ألبوم الفرحة. عندما سمعت تلك الكلمات للوهلة الأولى تساءلت.. ما علاقة أغاني السمسمية في بورسعيد المصرية بمدينة حلب السورية.

ولأن مدينة بورسعيد ارتبطت نشأتها بحفر قناة السويس، ولكونها مدينة وليدة أصبحت قادرة على استيعاب تراث البحارة والعمال الذين توافدوا عليها من كل البقاع. وهذا ما يفسر تواجد الأدوار الشامية في تراث السمسمية ببورسعيد والتي انتقلت عن طريق البحارة في الميناء. وبالبحث عن أصل هذه الكلمات قادني ذلك إلى إجابة غير متوقعة. حيث تبين أن الكلمات مشتقة من أغنية الروزانا التي شاعت في منطقة الشام منذ بدايات القرن الماضي.. التي تقول كلماتها:

عالروزانا عالروزانا كل الهنا فيها

شو عملت الروزانا الله يجازيها

يارايحين لحلب حبي معاكم راح

يا محملين العنب.. تحت العنب تفاح

حملت لنا الأغنية عناصر بحث بارزة: الروزانا – حلب – التفاح – العنب.

**

وتبين أن الكلمات تشير إلى عملية إخفاء التفاح تحت العنب، أثناء نقله من لبنان إلى حلب عاصمة التجارة الشامية، حيث كان ممنوع نقله أو تصديره.. والسؤال الذي يطرح نفسه.. من هي الجهة التي منعت تصدير التفاح؟ ومتى وأين حدث ذلك؟

وتبين أن الدولة العثمانية، منعت متصرفية جبل لبنان، وهي كيان كان يتمتع بنظام خاص من الحكم الذاتي، بضغط من الدول الأوربية، من إمكانية تصدير محصول التفاح لديها خلال فترة الحرب العالمية الأولى.. كما منعت تصدير القمح إليها. إذًا الفترة التي نتحدث عنها هي فترة الحرب العالمية الأولى.. والجهة المصدرة للتفاح المخفي تحت العنب هي متصرفية جبل لبنان.

ولكن لماذا لجأ العثمانيون إلى هذا الحصار على جبل لبنان؟

تبين أن ذلك تزامن مع ما جرى من أحداث للأرمن في تركيا.. وكان ردا على حصار فرضه الحلفاء خلال الحرب على الشواطئ الشامية، وذلك لمنع دخول السفن العثمانية إليها.

وبعد تحديد الفترة التي تتحدث عنها الأغنية، وعلاقتها بالمنتجات الزراعية والتصدير والحصار، تبين أن هناك مجاعة ضربت الشام ابتداء من عام 1915. إذ لجأ العثمانيون إلى جمع المحاصيل الزراعية، وخاصة القمح، لصالح الجيش في فترة الحرب العالمية الأولى، لإمكانية نقله لمسافات طويلة. فيما تزامن هذا مع سحب الشباب للجيش، ما تسبب في نقص كبير في اليد العاملة الزراعية. ومع مرور موجات من الجراد، أكلت جزءا من المحصول الزراعي، بحيث حلت مجاعة كبرى في الشام عموما، ولكنها كانت أقسى في لبنان.

ولجأ تجار بيروت، وهي منطقة لم يكن ممنوعا عليها استيراد القمح، كونها واقعة خارج حدود متصرفية جبل لبنان، إلى طلب استيراده من إيطاليا. لأنها حتى ذلك الوقت كانت ومازالت على الحياد في الحرب العالمية الأولى.

**

ما يعني أن الروزانا كانت سفينة إيطالية.. وكان المفروض أن تحمل القمح إلى لبنان. وبالفعل أبحرت الباخرة، وكل الهنا فيها كما تقول الأغنية، ولكنها لم تسلم البضاعة (الله يجازيها). وتبين أن السبب المرجح، كان دخول إيطاليا الحرب إلى جانب الحلفاء في مايو 1915، ما حول الباخرة إلى باخرة للحلفاء، وجعلها ملزمة بتنفيذ الحصار المفروض على الشواطئ الشامية. ما منعها من تسليم البضاعة (الله يجازيها) إلى تجار بيروت. وكان من المفترض تسريب شحنة القمح إلى جبل لبنان، مقابل تهريب كميات من التفاح إلى المدن الساحلية.

مما أدى إلى وقوع اللبنانيون في أزمة خانقة.. نظرًا لعدم تسلم شحنة القمح من سفينة الروزانا الايطالية. وهنا أقدم تجار حلب، بدافع الأخوة، على إمداد لبنان بالقمح اللازم، رغم ندرته في الشام عموما والمخاطرة بتهريبه. واستلام محصول التفاح كبديل عنه تهريبا أيضا. مع إخفائه تحت العنب.

ونقلت إلينا أغنية الروزانا تلك المجاعة تفصيلا ووثقت تاريخ المنطقة في كلمات. وكما للحب أغاني فإن للحرب أغانيها أيضًا. وقد سارت الأغنية في الشام ووصلت إلى مصر عن طريق البحارة إلى بورسعيد.

الرواية ضمن أربع روايات ولكنها الرواية الراجحة وقد فندت الروايات الأخرى.

المصادر:

موسوعة كتاب الأغاني للدكتور سعد الله آغا القلعة.

اقرأ أيضا:

“السمسمية” أصل الموسيقى السيناوي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر