معبد الأقصر.. بيت عبادة لثلاث حضارات

أول ما يلفت زائر المدينة الحديثة، ذلك المعبد الضخم الشاهق المطل على النيل، والذي اصطلح على تسميته باسم معبد الأقصر.

اختار الملك “أمنحوتب الثالث” والد أخناتون (الأسرة الثامنة عشرة) هذا الموقع الفريد وشرع في بناء هذ المعبد على أنقاض معبد قديم، وكرّسه لعبادة الإله آمون في صورة الإله “مين” إله الخصب، وتقول النصوص القديمة إن أمنحوتب الثالث بنى هذا المعبد على أرض مكسوة بالفضة ووضعه على فراش من بخور.

كان الملك المحارب العظيم “تحتمس الثالث” (الأسرة 18) أجرى عدة توسيعات وترميمات للمعبد القديم، وأضافة بعض المنشآت إليه، إلى أن تم المعبد واكتمل بناؤه في عهد الملك “رمسيس الثاني” (الأسرة 19)، الذي بدوره شيد الفناء الأمامي للمعبد، وأحاطه بالأعمدة الجميلة الضخمة، وزينه بتماثيل من الكوارتزيت والجرانيت وجعل المدخل على هيئة صرح عظيم يتكون من بنائين شاهقين أمام كل منهما تمثال جرانيتي للملك جالسًا على عرشه.

مدخل المعبد أو صرح الملك رمسيس الثاني

يبدأ معبد الأقصر بصرحين عظيمين شيدهما الملك رمسيس الثاني، بارتفاع 25 مترًا، وقد زينت بمناظر للانتصارات الحربية للملك رمسيس الثاني في معركة قادش ضد الحيثين في سوريا، وفي هذه المعركة وقّع الملك رمسيس الثاني أول اتفاقية سلام في التاريخ مع الحيثين.

وأمام بوابة المعبد كان يوجد 6 تماثيل ضخمة للملك رمسيس الثاني، أربعة تماثيل وهو واقف واثنين وهو جالس، الباقي منهم ثلاثة، اثنان وهو جالس وواحد وهو واقف في الجهة الغربية من البوابة.

أيضًا توجد مسلتين ترتفع كل منهما إلى 25 مترًا، ولم يتبق بالمعبد منهما إلا مسلة واحدة، أما المسلة الأخرى فقد نقلها الفرنسيون عام 1833م، وأقامها المهندس الفرنسي “ليباس” في وسط ميدان الكونكورد بباريس في احتفال صاخب في اكتوبر 1836م.

وما زالت المسلة المصرية  تتوسط الميدان الباريسي حتى الآن، تقف شامخة بالنص الهيروغليفي المكتوب عليها  “رمسيس، قاهر كل الشعوب الأجنبية، السيد على كل من لبس تاجًا، المحارب الذي هزم الملايين من الخصوم والأعداء، والذي خضع العالم كله لسلطانه ومعترفًا بقوته التي لا تقهر”.

طريق أبو الهول (طريق الاحتفالات)

يقع في الجهة الشمالية للمعبد، وفي الماضي كان يمتد ثلاثة كيلومترات ليصل بين معبدي الأقصر والكرنك، وهي عبارة عن تماثيل لأبي الهول، “نختنبو الأول” جدد هذا الطريق وزينه على الجانبين بتماثيل أبي الهول الحالية.

يبلغ طول الطريق 200 متر، وتحكي لنا الشواهد الأثرية كيف كانت سفينة آمون تحمل تمثاله المقدس وتخرج من قدس أقداس معبده بالكرنك، محمولة على أكتاف الكهنة، متجهة إلى معبد الأقصر مخترقة هذا الطريق وسط جموع الشعب حتى تصل إلى مقر الاحتفال السنوي بعيد “الأوبت” الذي كان يعني “عيد الحريم الجميل”.

عيد “الأوبت” ودورة مولد أبو الحجاج

يقول الدكتور عبدالمنعم عبدالعظيم، مدير مركز تراث الصعيد بالأقصر، إن عيد الأوبت أو مهرجان الأوبت، نظم لإضفاء مزيد من القدسية لمعبد الأقصر، حيث ينتقل الإله آمون وزوجته موت وابنهما خونسو، على ثلاث سفن كبيرة محمولة على الأكتاف، فيما يعرف بثالوث طيبة المقدس.

يتابع أن المشهد يتكرر في دورة مولد سيدي أبي الحجاج الأقصري بنفس المسيرة والسفينة الخضراء، وبهذا أصبح المعبد ملتقى عيد الأوبت وفي نفس الوقت توارث أحفاد أبوالحجاج عيد الأوبت وحوّلوه إلى مولد سيدي أبو الحجاج  في النصف من شعبان كل عام.

أغلب صقوس المولد هي مزيج بين الفرعوني والإسلامي، وهناك أسطورة تقول إن أبو الحجاج عرج به إلى السماء في هذا اليوم، وتلقى من ربه الأسماء، وهذه اشارات صوفية لا أساس لها من الصحة لأنه لا عروج بعد عروج النبي.

ويضيف عبدالعظيم أن المنظر المتفرد في مدينة الأقصر هو مسجد سيدي أبو الحجاج الأقصري، فهذا المسجد أقيم فوق كنيسة قبطية أقيمت فوق معبد فرعوني، فاجتمعت فيها الحضارات الثلاث الفرعونية والمسيحية والإسلامية، في تناسق عجيب، فجدران المسجد هي أعمدة معبد الأقصر واكتشفت عندما حدث حريق فظهرت النقوش الفرعونية على الجدران.

كان المسجد مدرسة من مدارس الصوفية، فهو الذي بدأ يعيد الوجه الإسلامي للأقصر، وكان الناس قديما يخافون من الإقامة في الأقصر، يحكم شائعة كانت تقول إنها مساكن للجن والعفاريت ومدينة للكفرة لا يصح للمؤمن المتعبد أن يعيش فيها.

وفي تفاصيل تلك الشائعات أن المعابد الفرعونية هي مساكن العفاريت، من أجل ذلك قرر أبو الحجاج بناء هذا المسجد فوق كنيسة رومانية، ودعا الناس للعبادة فيه، وبهذا المكان المتفرد هدم أبو الحجاج خرافة الجن والعفاريت التي تسكن هذه المعابد.

الفناء الكبير للملك رمسيس الثاني

يقع جنوب بوابة المعبد، الفناء محاط بصف مزدوج من الأعمدة على شكل حزم من  نبات البردي مصنوعة من الجرانيت مع سبعة تماثيل للملك رمسيس الثاني، تمثالان له وهو جالس وخمسة وهو واقف، التخريب لهذه الآثار حدث من الفرس في القرن الرابع قبل الميلاد، وفي الجزء الشمالي الشرقي للفناء يقع مسجد أبو الحجاج.

حجرة الولادة.. أهم حجرة في المعبد

تقول هالة أحمد، مفتشة آثار بمعبد الأقصر، إن أمنحوتب الثالث بنى هذا المعبد لتكرّيسه لعبادة الإله آمون، وهذا هو الهدف الديني، أما الهدف السياسي فقد كان لأجل فرض شرعية للمطالبة بالحكم، فبنى هذا المعبد لتأكيد نسبه للإله آمون.

تضيف: كانت التقاليد الفرعونية القديمة تحث على أن يتولى حكم مصر أحد أبناء فرعون سابق، أو على الأقل أن يتزوج من ابنة فرعون سبق له حكم مصر، ولم ينطبق على أمنحوتب الثالث أي من الشرطين، لذا فقد أشار عليه رجاله وأتباعه المخلصين بإنشاء معبد ضخم لتمجيد وعبادة الإله آمون رع، سعيًا لتأكيد نسبه إليه.

حجرة الولادة الإلهية
حجرة الولادة الإلهية

أنشأ أمنحوتب حجرة الولادة مثلما فعلت حتشبسوت في معبد الدير البحري، حيث صورت رسومات ولادتها الإلهية من الإله آمون ووالدتها الملكة أحمس، وهذا بالضبط ما فعله أمنحوتت الثالث، فقد صور على جدران هذه الغرفة صور ولادته الإلهية.

ونجد على جدران الحجرة من الناحية الغربية صورًا توضح حمل والدته الملكة “موت ام اويا”، وكانت غير مصرية من الإله آمون، حيث يعطيها علامة “العنخ” أو مفتاح الحياة في إشارة إلى أنه قد منحها روح منه وكان أمنحوتب الثالث هو هذه الروح.

وتضيف أن هذه الحجرة هي أهم مكان بالمعبد، تسمى غرفة الولادة أو نطلق عليها نحن الأثريون مصطلح “الماميزي”، وأهم منظر بها هو الزواج الرمزي للإله آمون من الملكة “موت أم أويا” والدة الملك أمنحوتب الثالث.

وتشير مفتشة الآثار إلى أن  معبد الأقصر ظل محتفظًا بأداء وظائفه الدينية مهما اختلفت شعائر الأديان على مدى آلاف السنين، فمنذ أقيم لعبادة الإله آمون بات موطنًا من المواطن الرئيسية لتلك العبادة حتى العصر اليوناني، ثم تحول إلى معبد ومعسكر في العصر الروماني، ثم تحول إلى كنيسة في العصر القبطي، ثم أقيم فيه جامع أبي الحجاج الأقصري  في العصر الإسلامي، وحتى الآن تقام الشعائر دخل هذا المسجد.

قاعة الأعمدة 

بناها الملك أمنحوتب الثالث، وتتكون من 14 عمودًا، سبعة أعمدة على كل جانب على شكل نبات البردي، يبلغ طول العمود الواحد 16 مترًا، ويبلغ طول القاعة 52 مترًا، الملكان توت عنخ آمون وسيتي الأول زخرفا هذه الأعمدة.

في بداية القاعة يوجد تمثالان للملك رمسيس الثاني وهو جالس، ويقع جنوبها  فناء “أمنحوتب الثالث”، والجوانب الثلاثة للفناء محاطة بصف مزدوج من الأعمدة يبلغ 46 عمودًا.

يقع جنوبها قاعة الأعمدة الكبرى أو قاعة التجلّي، وكانت تسمى باللغة المصرية القديمة “واسكت كا ات” ويوجد في هذه القاعة 32 عمودًا، وتتخذ شكل الأعمدة بها حزم نبات البردي، وكان الدخول لهذه القاعة مقتصر على الملك والكهنة.

صالة  تقديم القرابين

لها سقف مدعم بأربعة أعمدة ومزينة بنقوش بارزة تمثل الملك أمنحوتب الثالث، وهو يقدم الذبائح والهبات للآلهة.

المقصورة الرومانية

في أواخر القرن الثالث الميلادي طرأ على المعبد تغيير كبير خلال عصر الإمبراطور الروماني  دقلديانوس، حيث أحيط المعبد بسور ضخم على الطراز الروماني بني من الطوب اللبن وبه بوابات حجرية بغرض التحصين، وامتدت التغييرات إلى حجرة عبادة الملك وتحولت إلى مكان خاص بطقوس الأباطرة الرومان.

استمر المعبد كمركز لمدينة الأقصر خلال العصور الوسطى، حيث شيدت العديد من الكنائس داخل المعبد وحوله مثل كنيسة القديس تكلا أمام الصرح الشرقي، ويمكن رؤية جدران كنيسة أخرى في الفناء الأول أسفل مسجد أبو الحجاج الذي تم ترميمه حديثًا.

المعبد  كان يضم ثلاثة معابد رومانية وكنيسة، ونقش الرومانيون على جدران معبد الأقصر رسومات ومناظر للإسكندر الأكبر.

قاعة “الأوبت” وقدس أقداس معبد الأقصر

تقع جنوب صالة تقديم القرابين  تحتوي على  12 عمودا وتؤدي إلى الهيكل المقدس للإله آمون، حيث بنى الملك أمنحوتب الثالث هذا الهيكل والذي يعتبر قدس أقداس المعبد وأول صالة بنيت به، حيث خصصت لعبادة الإله آمون وتقديم الذبائح والقرابين له وكان يطلق عليها أيضًا المذبح.

ويشير الدكتور عبدالمنعم عبدالعظيم، مدير مركز تراث الصعيد، إلى أن قاعة الأوبت كانت مخصصة لأغراض فلكية، إذ إن الـ12 عمودًا تشير إلى عدد شهور السنة، وتتعامد الشمس على كل عمود في شهر من الشهور، فالفتحات الموجودة في سقف القاعة، هي التي تحدد الشهر حينما تتعامد عليه الشمس.

لكن الباحثة الأثرية هالة أحمد، مفتشة آثار بمعبد الأقصر، ترى أن هذا القاعة غير مؤكد أنها استخدمت لهذا الغرض، إذ إن علم الأثار يحتاج إلى دلائل قاطعة لإثبات صحة أمر ما، فلا توجد نصوص أو نقوش تثبت استخدام هذه القاعة لأغراض فلكية بل من الوارد أن تكون فتحات للتهوية، فقد كانت هذه القاعة مغطاة بالكامل.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر