يسألونك عن الإسماعيلية والنزارية والحشاشين وأشياء أخرى
أثار مسلسل (الحشاشين) الكثير من الجدل بسبب تعرضه لمنطقة غائبة في تاريخ المسلمين ويكاد لا يعلم عنها أغلب المصريين شيئًا. الأمر الذي أثار التساؤلات عن هذه الجماعة، وما هي طبيعة مذهبها، والأفكار الرئيسية التي تعتنقها، وما علاقتهم بالدولة الفاطمية التي حكمت مصر لأكثر من قرنين من الزمان. كلها أسئلة مشروعة وتحتاج إلى إجابات مبسطة تأخذ بيد الباحث عن كل هذه الحوادث التاريخية والأفكار المذهبية التي غابت بسبب صعود التصور الأحادي للتاريخ. هنا نأخذ بيد المقتصد حتى نهاية جهده، ونعطي لمحة للمجتهد في بداية بحثه.
الحديث هنا ليس للمتخصص المتبحر، بل هو للقارئ العادي الذي يسمع عن أسماء فرق وجماعات لا يعرف الكثير عنها، ويثير ذكرها حيرته وارتباكه. لذا سنقدم لمحة كافية عن فرقة الإسماعيلية التي خرجت من رحمها فرق وجماعات عدة كان من أبرزها وأكثرها شهرها فرقة الإسماعيلية النزارية، والتي تعرف شعبيا باسم فرقة (الحشاشين). ولكنها ليست الفرقة الوحيدة التي خرجت من رحم الإسماعيلية. وسنحاول تتبع أسماء كل فرقة فيما تطلقه على نفسها وما يطلقه عليها خصومها.
***
البداية من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، عندما توفي جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والذي يعد الإمام الأكبر لفرقة الإمامية. وهي فرقة تقول إن إمامة المسلمين تعود للنص الذي أقره النبي لعلي بن أبي طالب في حادثة مشهورة مذكورة في بعض كتب الحديث. والذي حصر الإمامة (الخلافة) في نسل الإمام علي وذريته من جهة الحسين ابنه. وأن الإمامة تذهب -كالإرث- من الأب إلى الابن، بشرط أن ينص الإمام الحي عن خليفته من أولاده.
بعد وفاة جعفر الصادق انقسم أتباعه بين من يقول إن الإمامة انتقلت إلى ابنه إسماعيل الإمام. وبين من يقول إنها انتقلت إلى موسى الكاظم. ومن هنا انقسمت الإمامية إلى فرقتين، الأولى عرفت باسم (الإسماعيلية) نسبة لإسماعيل بن جعفر، والثانية عرفت بداية بـ(الموسوية) نسبة لموسى بن جعفر. وهي الفرقة التي أخذت في التطور حتى أصبح اسمها الآن فرقة الاثني عشرية، وهي مذهب عموم الشيعة في يوم الناس هذا.
أما الإسماعيلية فقد تولى قيادتها بشكل ثوري سياسي محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، والذي وضع أساس حركة ثورية هدفها القضاء على الخلافة العباسية. ومن هنا ظهرت دعوة سرية بعيدا عن ملاحقة العباسيين الأمنية، عرفت باسم (الدعوة الإسماعيلية) أو بشكل رسمي باسم (الدعوة الهادية). والتي استخدمت فيها وسائل فكرية وفلسفية معقدة فضلا عن خطاب اجتماعي سياسي يتحدث عن العدل والمساواة بين البشر بغرض استجلاب أنصار للدعوة في أوساط المهمشين والساخطين على مظالم الحكم العباسي في أقاليم العالم الإسلامي وقتذاك.
***
في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وصلت الدعوة الإسماعيلية السرية إلى قمة نجاحها وأصبحت كابوسا حقيقيا للخلافة العباسية. كما نجحت الدعوة في إقامة عدة دول في اليمن وشرق الجزيرة العربية وفي بلاد المغرب حيث ولدت الخلافة الفاطمية. فأصبح هناك خليفة فاطمي على رأس نظام سياسي لأول مرة منذ تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب عن الخلافة قبل ثلاثة قرون. لكن إقامة الخلافة الفاطمية سبقه أول انشقاق وانفصال في جسد الدعوة الإسماعيلية الموحدة.
لم يتقبل دعاة شرق الجزيرة العربية بعض التغيرات الفكرية التي حدثت في مركز الدعوة السرية في سلمية (بسورية المعاصرة)، فأعلنوا انشقاقهم وعدم اعترافهم بإمامة الخلفاء الفاطميين. وعرفت الحركة المنشقة باسم (القرامطة)، والتي أصبح لها نظامها الفكري والفلسفي المنفصل. ما دفع بعض المستشرقين والباحثين العرب لوصفها بأول حركة اشتراكية في التاريخ. بسبب بعض القواعد الاجتماعية التكافلية التي أقرها قادة القرامطة في الدولة التي أقاموها في شرق الجزيرة العربية. كما دخلوا في صراع مع العباسيين ثم الفاطميين. وانتهكوا حرمة المسجد الحرام وسرقوا الحجر الأسود لعدة عقود قبل إعادته مرة ثانية.
بعيدا عن القرامطة، حصل الفاطميون على تأييد غالبية الإسماعيلية في عصرهم. وأصبح الخليفة الفاطمي هو الإمام الإسماعيلي لكل أتباع المذهب الإسماعيلي القائم على الموازنة بين الظاهر والباطن. أي أنهم يؤمن بأن الشريعة مكونة منن ظاهر وهو العبادات، وباطن وهو جوهر العبادة ذاتها، وأنه لا انفصال لهما. لكن خصومهم قالوا إنهم أهل باطن يسقطون العمل بظاهر الشريعة، فمن عرف الباطن يسقط عنه التكليف، لذا أطلقوا عليهم لفظ (الباطنية).
***
حققت الدعوة الإسماعيلية نجاحات كبيرة في عصر الإمام/ الخليفة المعز لدين الله، الذي نجح في ضم مصر للخلافة الفاطمية. والتي سرعان ما انتقل إليها المعز وجعلها مقرا للخلافة الفاطمية بداية من العام 362هـ/ 972م. وتولى بعده ابنه العزيز بالله، ثم الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله، والذي عرف عنه الإغراق في الفلسفة الغنوصية. واستمع لأفكار بعض غلاة دعاة الإسماعيلية الإيرانيين، أمثال الحسن الأخرم وحمزة اللباد ومحمد بن إسماعيل الدرزي. والتي وصلت إلى ذروتها باعتناق فكرة ألوهية الحاكم بأمر الله. الأمر الذي قاد إلى فوضى في القاهرة أعقبها قتل الحاكم بأمر الله. وتولي ابنه الخلافة باسم الظاهر لإعزاز دين الله، وهروب دعاة ألوهيته إلى بلاد الشام. حيث أعادوا تمركزهم، وعرفوا هناك باسم الدروز، نسبة للداعي محمد الدرزي، وإن أطلقوا على أنفسهم اسم (الموحدين).
بعد الانتهاء من الفوضى التي شهدت القاهرة في الأيام الختامية لحكم الحاكم بأمر الله. عادت الدعوة الإسماعيلية للعمل في أقطار العالم الإسلامي تبشر بصحة إمامة الخليفة الفاطمي. وقتها وصلت الخلافة الفاطمية لقمة ازدهارها وأصبحت الخلافة الأولى في العالم الإسلامي، وأغنى دولة إسلامية حينذاك. لكن كل هذا انهار نتيجة ضعف الخليفة المستنصر بالله بن الظاهر بن الحاكم بأمر الله. إذ حكم لنحو 60 عاما، شهدت البلاد خلالها فوضى بسبب الاقتتال الأهلي بين فرق الجيش أدت لحرب أهلية عرفت في التاريخ باسم (الشدة المستنصرية). والتي لم تخرج منها مصر إلا باستدعاء بدر الجمالي الأرمني، والي عكا -التي كانت تابعة لمصر. والذي استخدم قواته الأرمينية الخاصة في إعادة الأمن والاستقرار لمصر بالحديد والنار.
في ذلك الوقت كان دعاة الإسماعيلية يواصلون نشر أفكارهم في إيران والعراق وحققوا نجاحات كبيرة خصوصا على يد الداعي عبد الملك بن عطاش، الذي أرسل أحد تلاميذه إلى مصر لكي يتعلم فنون الدعوة وتقاليدها. هذا هو الحسن بن صباح، الذي دخل مصر وأقام فيها لمدة ثلاث سنوات. لكن لم يعجبه تحكم الوزير القوي بدر الجمالي في أمور الحكم وحجره على الإمام/ الخليفة المستنصر، لذا خرج من مصر غاضبا. لكنه ظل يعمل تحت مظلة الدعوة الإسماعيلية الرسمية ومقرها القاهرة، حتى وفاة المستنصر بالله 487هـ/ 1094م. هنا زعم حسن بن صباح الذي كان دخل قلعة ألموت منذ سنوات قليلة وجعلها مقرا لدعوته، أن المستنصر أخبره أن ولي عهده هو ابنه الأكبر نزار.
***
في ذلك الوقت كان الوزير الأفضل بن شاهنشاه بن بدر الجمالي، هو الحاكم الأعلى لمصر. وأشرف على انتقال الخلافة إلى الابن الأصغر للمستنصر، الذي تولى الحكم باسم المستعلي بالله. الأمر الذي رفضه حسن بن صباح وأعلن انفصاله عن الدعوة الرسمية للفاطميين، ولم يعترف بإمامة المستعلي. بل أصر على إمامة نزار الذي تم التخلص منه في القاهرة. لذا عرفت الدعوة المنشقة التي أسسها ابن صباح بأسماء عدة منها: (الدعوة الجديدة) و(الدعوة النزارية). لكنها عرفت أكثر عند خصومها بالباطنية، لكن نتيجة لتوسع هذه الدعوة في بلاد الشام. وقع احتكاك بين الإسماعيلية النزارية والصليبيين في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. فنقل الصليبيون مسمى تحقيري يطلق على النزارية باسم (الحشيشية) إلى اللغات الأوروبية باسم (الحشاشين).
ثم جاء الرحالة الإيطالي ماركو بولو الذي تحوم الشكوك الكثيرة والعميقة حول مدى مصداقيته. ونسج أسطورة أن شباب الدعوة النزارية الذين كلفوا بعمليات اغتيال انتحارية. كان يتم إخضاعهم لتجربة الدخول إلى مكان يشبه الجنة من إعداد رئيس الدعوة. بعد أن يعطي للفداوي جرعة مكثفة من الحشيش. ثم يصور له أنه انتقل إلى الجنة حيث الحسان والملذات، ثم ينقله مرة أخرى خارج هذه الجنة المزعومة. وبعد الاستفاقة يطلب منه تنفيذ عملية انتحارية مقابل إعادته إلى الجنة.
واضح طبعا الطابع الأسطوري للقصة الملفقة، لكنها ولدت الخيال الاستشراقي الذي استمر عن هذه الحركة، والتي عرفت منذ هذه اللحظة باسم (الحشاشين)، لكن أتباع النزارية لا يقرون هذه التسمية ولا يتقبلونها. وهم يعرفون في يومنا هذا باسم (الآغاخانية)، نسبة للقلب التشريفي الذي حصل عليه أئمة الحركة في العصر الحديث. لكن المدهش أن ذلك الخيال الاستشراقي دخل في الخيال الشعبي الأوروبي- الأمريكي ما عبر عن نفسه في صورة لعبة فيديو جيم تعرف باسم (Assassin’s Creed).
***
هكذا شكلت الدعوة الإسماعيلية الجسم الضخم الذي خرجت منه العديد من الدول والفرق والمذاهب والديانات التي لا تزال متواجدة حتى اللحظة الراهنة. بل أن البعض منها يرد ذكره في أحاديث المصريين دون أن يعرفوا أصله. فمثلا يرد ذكر سلطان البهرة في العديد من الأخبار التي تتحدث عن زياراته لمصر بشكل دوري واهتمامه بمشاهد آل البيت. ولا يعرف الكثيرون أنه الزعيم الروحي لجماعة إسماعيلية منشقة تعرف باسم الإسماعيلية الطيبية التي خرجت من رحم القاهرة بعد وفاة الخليفة الآمر بأحكام الله 524هـ/ 1130م، والتي ازدهرت في اليمن ثم الهند. كما أن حديقة الأزهر أنشأتها مؤسسة الأغاخان، وهو يعتبر الإمام الحالي لفرقة النزارية أحفاد سادة ألموت.
فهنا في مصر عرفت الإسماعيلية ازدهارها الأكبر كحركة سياسية ثم انحسارها وتشظيها إلى فرق وجماعات منفصلة. وهذا كله جزء من تاريخ مصر المكتظ بتقاطعات تاريخية حاسمة ومتخطية حدود البلاد الجغرافية. من المهم أن نستعيد هذه الأحداث ونتفهمها في سياقها التاريخي لأنها في النهاية أحد مكونات التاريخ المصري على امتداده الطويل.
اقرأ أيضا:
مسلسل «الحشاشين».. وأزمة ازدراء التاريخ