الثأر والبؤس الطبي في الصعيد

ذهبت إلى استقبال مستشفى قنا العام صباح الأحد 3/9/2023 في تمام السابعة لعمل إسعافات لجرح صغير، وهناك أصابني جرح أكبر. بدأ يتسرب إلى روحي بداية من فناء المستشفى الممتلئ في هذا الوقت المبكر بأجساد واجمة متعبة، يؤلمها الغضب المكتوم والضجر الصاخب، ولا تؤلمها جروح أو أمراض.

في قسم الاستقبال لفت انتباهي وجود  شاب في العشرينات من العمر مصاب إصابة كبيرة في رأسه ممدد على أحد الأسرة، في غيبوبة تامة، وأحد أقاربه يمسك ببالونة تساعده على التنفس.

تقربتُ إليهم، وعرفت أنه الحالة التي تخص الأفراد المتواجدين في فناء المستشفى وحول سورها. توددت إليهم وقبلوا الحديث معي وقيامي بالتقاط صورة للمصاب.

**

أصيب الشاب إصابة قوية في رأسه أثناء مشاجرة، سقط بعدها فاقد النطق. فقام الحاضرون بنقله إلى أقرب المستشفيات الكبيرة لمحل إقامته، وهي مستشفى نجع حمادي العام. وعندما وصلوا إلى هناك أخبروهم بأن إمكانيات المستشفى لا تسمح بعلاجه وأعطوهم خطابا إلى مستشفى قنا العام وطالبوهم بالإسراع إلى هناك، لإنقاذ المصاب.

قطعوا حوالي ستين كيلو مترا إلى قنا، وهم يحملون جرحا كبيرا في رأس أحد أبناهم، وأخيرا وصلوا المستشفى آملين إسعافه في أسرع وقت ممكن، لأن موت القتيل ليس كأي موت، مصيبة موت الشاب تهون أمام مصيبة عواقبها، وهي ميلاد خصومة ثأرية، لا أحد يعرف كيف تنتهي.

في مستشفى قنا العام كانت الصدمة أكبر، لم يجدوا أية إمكانيات ولا حتى مجرد مكان نظيف. قالوا لهم لا نستطيع علاجه، ولا يوجد طبيب متخصص يمكن أن يطل عليه، لا يوجد في المستشفى قسم لجراحة المخ أصلا، وعليهم الانتظار حتى الصباح لتحويله إلى مستشفى مرزوق، نسبة إلى رجل كويتي صالح تبرع ببنائها مؤخرا وتشرف عليها كلية طب قنا الوليدة.

صرخوا: لماذا لا يتم تحويله الآن، لماذا ننتظر حتى الصباح. لم يجدوا ردا سوى أن نظام المستشفى لا يسمح بنقله الآن، وأن مستشفى مرزوق تستقبل الحالات في ثلاثة أيام فقط ليس من بينها السبت، وعليهم الانتظار.

وضعوه على سرير، بقرب جهاز بدائي للتنفس الصناعي، وطلبوا من أقربائه الضغط على البالونة كل خمس ثواني.

على هذا الوضع المأساوي ظل المريض طوال الليل. بينما انتشر أقاربه في فناء المستشفى وحول سورها، ممتلئين بالنقمة على الإجراءات والبؤس الطبي.

**

في الثامنة صباحا شاهدت شيخا يهرول بصعوبة، عرفت أنه قريبهم ويسكن في مدينة قنا. وعندما وصل إلى خال المصاب، أخرج من جيبه مبلغا نقديا وأخذ يعد حتى وصل إلى ألفين. وبقيت عدة ورقات فئة الخمسين جنيها، وقال بالحرف الواحد “دا كل المعاش اللي صرفته. وأشار إلى الورقات من فئة الخمسين جنيها وقال برجاء: “هخلي دول مصاريف البيت؟” وطلب نقل المصاب إلى أي عيادة خاصة. فقالوا لن يفعلوا شيئا في العيادة الخاصة في هذا الوقت، سيتركونه على نفس الحال حتى يأتي الطبيب، مستشفى مرزوق أفضل.

مشهد الشاب المهمل، ذكرني بحالات كثيرة لا حصر لها، كانت تذهب إلى مستشفى قنا العام ثم يتم تحويلها إلى مستشفى أسيوط التي تبعد حوالي (300 كيلو تقريبا). ذكرني بمصابين بطلقات نارية لا حصر لهم ماتوا في الطريق. وكان من المرجح نجاتهم لو وجدوا تدخلا علاجيا قبل الركض مئات الكيلو مترات بجروحهم النارية حتى الوصول إلى أسيوط.

البؤس الطبي في الصعيد بشكل عام وفي قنا بشكل خاص يلعب دورا في زيادة المآسي الثأرية. لأن هناك الكثير من المصابين يمكن تداركهم بالعلاج وبالتالي تنتهي الخصومة في مهدها، لكنهم بسبب البؤس الطبي يرحلون تاركين خلفهم دما يصيح ويطلب الثأر.

**

البؤس الطبي يلعب دورا غير مباشر في التكريس للصورة السيئة التي يرسمها الأهالي في الصعيد للمؤسسات الحكومية. وهي بالنسبة لهم مؤسسات مخيفة وعاجزة عن مد يد العون لهم. ومن ثم فهم لا يطمئنون لقدرتها على القيام بالثأر لقتلاهم ولابد من العمل لتعديل تلك الصورة السيئة.

أتخيل حالة أقارب المصاب وهم يتواجدون طوال الليل في فناء المستشفى أو حول سورها. حالة هائلة من الشعور بالعجز، عجزهم الشخصي، وعجز المؤسسة الحكومية التي لجأوا إليها لإنقاذ الموقف. وتقديم الرعاية السريعة لمصاب بإصابة خطيرة.

ترْكُ المصاب في غيبوبته بدون إسعافات من التاسعة مساء حتى التاسعة صباحا. مشهد أليم جدا يقوِّي مشاعر الناس السلبية تجاه مؤسسات الدولة. ويترك في وجدانهم اعتقادا بأن ذراعهم لا ذراع الحكومة هو التي يجب أن تأتي بالحل في كل الأمور.

قبل لوم الصعيدي على الممارسات الثأرية يجدر لوم المؤسسات التي لا تقنعه بوجودها كبديل حديث ومتطور جدا للقبيلة التي انتهى زمنها.

اقرأ أيضا:

نجيب سرور وأمير الشعراء ورمزية القبر المهدم

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر