«الجمالية».. ذكرى سارق الأوقاف
يحتل حي الجمالية مكان الصدارة في الشهرة التاريخية بين أحياء القاهرة القديمة. ففيه درِّس ابن خلدون وتعلم المقريزي، ومر الخلفاء والسلاطين في مواكب النصر. وعاشت شخوص نجيب محفوظ، وساح جمال الغيطاني في التاريخ حتى لامس السحاب. لكن رغم هذه الشهرة الأسطورية المحفورة في ذاكرة المصريين. إلا أن أصل تسمية الجمالية لا يزال يكتنفه الغموض، والكثير من المعلومات المغلوطة. فمن هو الرجل الذي تحمل الجمالية اسمه وخلدته في صفحات القاهرة التاريخية؟
التفسيرات التي تنتشر على مواقع التواصل وبعض المواقع الصحافية زادت الأمور اضطرابًا. فضلا عن اعتماد البعض روايات أهالي المنطقة ذات البعد الأسطوري التي لا تعكس إلا تصورات الأهالي عن حيهم. لذا نستبعدها هنا من التحقيق التاريخي في الوصول إلى رأي معقول حول نسبة حي الجمالية. وتكاد الأقوال تنحصر في أن الحي الشهير ينسب إلى الوزير الفاطمي القوي بدر الجمالي. أو الأمير المملوكي علاء الدين مغلطاي الجمالي، أو جمال الدين يوسف الأستادار. وهنا نرى أن الثلاثة في ألقابهم لفظ جمال، وأنهم ارتبطوا بأحداث معينة ذات علاقة بحي الجمالية. الذي كان يعرف قبل ذلك باسم خط رحبة باب العيد، وهي تسمية تعود إلى تاريخ قريب من تاريخ تأسيس مدينة القاهرة نفسها في 358هـ/ 969م.
المنطقة التي نتحدث عنها هنا كانت في الأصل ميدان فسيح خارج قصر الخلافة الفاطمية. إذ جرت العادة أن يخرج الخليفة من باب العيد صوب هذه الرحبة ليتجه إلى باب النصر. ويخرج منه صوب مصلى العيد، لأداء صلاة عيدي الفطر والأضحى. لذا عرفت تلك الرحبة باسم رحبة باب العيد. وهي تسمية ظلت مستخدمة في المصادر التاريخية لوصف المكان المتسع الذي يشكل قلب الجمالية حاليا. حتى عصر المؤرخ المقريزي (توفى 845ه/ 1442م)، الذي يقول بكل وضوح أن منطقة رحبة باب العيد بعد أن أخذ البناء الشعبي في التطرق إليها. ظلت تحتفظ باسمها “فصارت خطة كبيرة من أجل أخطاط القاهرة، وبقى اسم رحبة باب العيد باقيًا عليها لا تعرف إلا به”.
ثلاث روايات
هذه الجملة التي يستخدمها المقريزي نستطيع من خلالها الانطلاق لمناقشة الروايات غير الموثقة التي تتحدث عن أصل التسمية. والانتقال من رحبة باب العيد إلى الجمالية. فالرواية الأولى تنسبها إلى الوزير الفاطمي الأمير بدر الجمالي (توفى سنة 487هـ/1094م)، الذي نعرف من كتب التاريخ أنه بعد أن أحكم قبضته على مقاليد السلطة. دشن ثورة عمرانية في القاهرة، شملت نقل باب النصر إلى موضعه الحالي مع تأسيس بوابة جديدة له. في إطار توسعة المدينة والتي شملت بناء بواباتها وسورها.
لكن الغريب أن منطقة رحبة باب العيد لم تشهد أي منشآت مهمة لبدر الجمالي. إذ تركزت منشآته في الحارة التي سكن فيها وأدار منها الدولة. وهي حارة برجوان، والتي شملت إنشاء قيسارية كبيرة (سوق تجاري ضخم) حملت اسمه. ولا تزال ذكرى هذه القيسارية محفوظا في سجلات القاهرة، في المنطقة المحيطة بشارع مرجوش. وهي تسمية تعد اختصارا للقلب بدر الجمالي الشهير (أمير الجيوش). لذا لا يوجد أي مبرر تاريخي لنسبة الجمالية للوزير الفاطمي. فهناك منطقة منسوبة إليه داخل القاهرة نفسها ولا تبعد عن الجمالية إلا بضعة أمتار. كما أن الثابت تاريخيا أن تسمية رحبة باب العيد ظلت مستخدمة ولم يرد أي ذكر للجمالية لا في عصر الجمالي ولا في العصور التالية عليه حتى أيام المقريزي وقرب نهاية الدولة المملوكية. أي بعد قرون من وفاة بدر الجمالي نفسه.
علاء الدين مغلطاي
أما الرواية الثانية فتذهب بالتسمية إلى الأمير المملوكي علاء الدين مغلطاي الجمالي (توفي سنة 732هـ/ 1332م) الذي استقر في درب ملوخيا بالقاهرة. وبنى هناك قصره وبجواره مدرسة وخانقاه للصوفية، حملت اسمه. والغريب أن النقش التأسيسي لمنشآته الدينية لم يحمل أي إشارة إلى لقبه الجمالي، بل ذكر لقبه العلائي فقط. وعلى كل حال دب الخراب إلى هذه المنشأة سريعا فقبل أن يمر القرن من الزمان. كان الخراب قد عرف طريقه إليها. فالمقريزي الذي ولد بعد بناء المدرسة بنحو 30 عاما يقول: “وقد تلاشى أمر هذه المدرسة لسوء ولاة أمرها وتخريبهم أوقافها. وتعطل منها حضور الدرس والتصوف. وصارت منزلًا يسكنه أخلاط ممن ينسب إلى اسم الفقه، وقرب الخراب منها”. فإذا كان الخراب قد عرف طريقه لهذه المنشأة فلا يعد من المنطقي في شيء افتراض أنها سبب خلع اسم الجمالية على منطقة رحبة باب العيد بعد عصر المقريزي.
أما الرواية الثالثة وهي الأقوى في أدلتها التاريخية والعمرانية، والأكثر منطقية. فتلك التي ترجع تسمية الحي الشعبي الأشهر في القاهرة، إلى جمال الدين يوسف الأستادار (توفى سنة 812هـ/ 1409م)، الذي بنى مدرسته التي عرفت باسم (الجمالية) في قلب رحبة باب العيد. في منطقة سحرية في الطريق الرئيسة المؤدية إلى باب النصر، مدخل المدينة الرئيس لكل القادمين من بلاد الشام. وكان طبيعيا أن تمنح المدرسة اسمها لكل ما حولها من الأماكن خصوصا أنها جاءت “في أحسن هندام وأتم قالب وأفخر زى وأبدع رخام”. وهي المدرسة التي ظلت قائمة حتى يومنا هذا. وشكلت بموقعها المتميز معلما أساسيا في قلب خط رحبة باب العيد، الذي عرف ربما في نهاية العصر المملوكي. وبشكل مؤكد في العصر العثماني باسم حي الجمالية، فمن هو جمال الدين الأستادار الذي يحفظ ذكراه أشهر أحياء القاهرة التاريخية؟
عزيز مصر
يعد جمال الدين يوسف الأستادار أحد أبرز رجال عصره في زمن السلطان الناصر فرج بن الظاهر برقوق (حكم 801- 815هـ/ 1399- 1412م). إذ تولى جمال الدين العديد من المناصب الإدارية المهمة في دولة الناصر فرج، منها الأستادارية ونظر الخاص السلطاني والوزارة. وهي مناصب جعلته مطلق الصلاحيات حتى قيل عنه إنه “عزيز مصر على الحقيقة”. ويقال إن سبب صعوده السياسي يكمن في عثوره على خبيئة للفاطميين داخل قصورهم بالقرب من منطقة الجمالية، واستخدمها في عملية صعود السياسي. وعندما أصبح متحكما في الدولة امتدت يده للأوقاف والدور الجليلة للاستيلاء عليها. “وأخذ ينقض الأوقاف، فأعانه على ذلك قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي، فحكم له هو ونوابه باستبدال القصور المنيفة الزاهرة والدور الجليلة العامرة”.
وقد تجلى نهج جمال الدين الأستادار في عملية بناء مدرسته التي نسب إليها حي الجمالية. إذ “شرع في بناء مدرسة برحبة باب العيد من القاهرة، فأخذ لها الرخام من أملاك الناس وأوقافهم بكل طريق أرادها. وكلف الصناع عملها بأبخس الأجور واغتصب لها الكثير من الأمتعة والآلات، وعمر عدة أملاك جرع الناس بسببها الصاب والعلقم”. بحسب قول صديقه القديم المقريزي. بينما يزيد ابن حجر العسقلاني الأمور وضوحا بقوله إن جمال الدين الأستادار “شرع في انتهاك حرمة الأوقاف فحلها أولًا فأولًا. حتى استبدل بالقصور الزاهرة المنيفة بالقاهرة، كقصر بشتاك والحجازية”. وهي القصور التي تقع خلف موقع المدرسة الجمالية.
رحبة باب العيد
هنا يوضح لنا المقريزي وابن حجر بعض مظاهر تدخلات جمال الدين الأستادار في منطقة رحبة باب العيد بشكل غير من عمرانها. فكان طبيعيا أن تنسب إليه بعد ذلك. خصوصا أنه استخدم التلاعب في الأوقاف على المنشآت السابقة لعصره وسيلته المفضلة لسرقتها ومراكمة الثروة. حتى أنه لجأ لبعض الحيل للاستيلاء على الأوقاف، فيرسل مجموعة من الفعلة إلى المكان الموقوف المراد الاستيلاء عليه. فيعملون في الليل على إفساد أساسه إلى أن يكاد يتهدم. ثم يرسل الأستادار إلى سكانه يحذرهم من مصير الموت تحت الهدم. حتى يتم له مراده بالاستيلاء على الوقف، فكان سارق الأوقاف الأول في عصره.
ولأن الجزاء من جنس العمل، فقد قتل جمال الدين الأستادار على يد السلطان الناصر فرج شر قتلة. ويبدو أن السلطان أراد محو ذكرى جمال الدين الأستادار فاستصدر فتوى من الفقهاء للاستيلاء على المدرسة الجمالية. وبالفعل غير اسمها إلى المدرسة الناصرية فرج. لكن بعد نجاح انقلاب مملوكي في قتل الأخير، تولى السلطنة بعد خطوب المؤيد شيخ المحمودي. الذي تقدمت أسرة جمال الدين الأستادار في عهده بطلب جديد أمام القضاة لرد المدرسة. وبطبيعة الحال كان العهد الجديد يرغب في القضاء على ذكرى السلطان القتيل. فنجحت الأسرة في استرداد المدرسة التي عاد لها اسمها القديمة (الجمالية). وهو الاسم الذي عم ذكره في العصور التالية فأصبح يطلق على المنطقة المحيطة بالمدرسة. وكسب سارق الأوقاف الجولة من السلطان فرج، وحفظت له القاهرة بذكرى تخفي ورائها الكثير من قصصها المدهشة.
اقرأ أيضا:
الإعدام على باب زويلة.. شهرة مملوكية والأصل فاطمي