تمثال «وجا حور رسنت».. قطعة أثرية تحكي قصة عصر كامل

ما هو حجم المعلومات التاريخية والأثرية التي يمكن استخراجها من تمثال صغير لا يتعدى طوله 58 سم؟

حقيقة، إن الآثار المصرية القديمة التي تمتلئ بها متاحف مصر والعالم حاليا، تمدنا بمعلومات لا حصر لها عن تلك الحضارة التي شغلت العالم ولازالت. وتعد مفتاحنا الرئيسي لكشف أسرار التاريخ، ودليل لا يقبل الشك في معرفة ما جرى على هذه الأرض قبل آلاف السنين.

إلا أن تمثال صغير بهذا الحجم، قد لا يمدنا بالكثير عادة. ولكن في حالة تمثال «وجا حور رسنت» الموجود حاليا في أحد متاحف الفاتيكان. فإن الأمر يختلف بشكل لا يمكن تخيله، حيث يمدنا هذا التمثال الاستثنائي، بكم ضخم من المعلومات. لم يتوقف تدفقه منذ وصول التمثال إلى المتحف قبل 3 قرون وحتى الآن. فكلما أجريت عليه مزيد من الدراسات لفهمه وفهم النقوش التي عليه. كلما رسم لنا صورة أوضح وأكبر عن فترة شائكة من عمر الدولة المصرية القديمة. التي كانت شمسها في طريقها إلى الزوال عندما انتهى أحد النحاتين من صناعة هذا التمثال ووضعه في مكانه الذي خصص له في المرة الأولى.

في هذا التقرير، نستعرض حجم المعلومات التي استخرجها العلماء من هذا التمثال. لنتعرف كيف يمكن لأثر بسيط أن يعيد كتابة التاريخ. ويعلمنا أن أي قطعة أثرية مهما صغرت، لا يمكن الاستهانة بها في فض أختام ماضينا.

وثيقة أثرية مهمة

يوجد تمثال (وجا حور رسنت) حاليا، داخل المتحف المصري الجريجوري -أحد متاحف مدينة الفاتيكان-. حيث يقول مجمع متاحف الفاتيكان عبر موقعه الرسمي، إن الفاتيكان حصل على هذا التمثال بدون رأس في عام 1738م، وقام بترميمه في عام 1783 مع إضافة رأس زائفة له تمت إزالتها لاحقا، قبل أن يوضع بشكل دائم داخل المتحف المصري الجريجوري، الذي تأسس عام 1839 بمبادرة من البابا جريجوري السادس عشر.

ويشير المتحف إلى أن “المصدر الدقيق لهذا التمثال غير معروف”. ولكن يفترض أنه عثر عليه في مدينة “سايس” -قرية صا الحجر بمركز بسيون التابع لمحافظة الغربية حاليا- قبل انتقاله في مرحلة لاحقة إلى أوروبا.

بينما يرجح العالم المصري سليم حسن في موسوعته الشهيرة “مصر القديمة” أن التمثال كان ضمن المجموعة الأثرية المعروفة باسم “هدريان” التي كانت موجودة في إحدى الفلات الأثرية بمدينة تريفلي الإيطالية، والتي نقلت بدورها إلى متاحف الفاتيكان.

ويضم المتحف المصري الجريجوري، 9 غرف كبيرة، تشتمل على جزء كبير من مجموعة الآثار البابوية التي جمعها باباوات الفاتيكان على مر العصور. وتحتوي هذه المجموعة على العديد من الآثار المصرية، بما في ذلك مومياوات وبرديات وتوابيت ونقوش هيروغليفية ونسخة من “كتاب الموتى” -نص ديني مصري كان يقرأ على الميت ليضمن له انتقال سلسل إلى العالم الآخر.

ويقبع التمثال داخل الغرفة الأولى للمتحف، والتي خصصت للقطع الأثرية واللوحات والتماثيل التي تحمل نقوشا وكتابات هيروغليفية، تغطي الفترة ما بين (2600ق.م إلى 600م). ويقول موقع مجمع متاحف الفاتيكان، إن تمثال (وجا حور رسنت) يعد أهم وثيقة تاريخية موجودة بتلك الغرفة، ويرجع تاريخه إلى حقبة الاحتلال الفارسي لمصر، التي غزاها قمبيز -أحد ملوك الإمبراطورية الإخمينية الفارسية- عام 525ق.م.

المتحف المصري الجريجوري بالفاتيكان، ويظهر بالفيديو تمثال (وجا حور رسنت) معروضا بالغرفة الأولى بالمتحف.

وثيقة من البازلت الداكن

صنع تمثال (وجا حور رسنت) من البازلت الأخضر الداكن، ويصور (وجا حور رسنت) -أحد المسؤولين البارزين في مصر الذي شغل عدة مناصب تحت حكم آخر اثنين من ملوك الأسرة 26 وأول اثنين من ملوك الأسرة 27- واقفا. يرتدي جلبابا وعليه تنورة طويلة، ويقبض بين يديه على محراب يحتوي على صورة المعبود “أوزوريس”. ويبلغ ارتفاع التمثال حاليا 58 سم، بعدما فقدت الرأس والرقبة والذراع اليسرى.

ويقول سليم حسن، إن التمثال مغطى تقريبا بالنقوش. حيث ترى الكتابات على سطح المحراب وعلى الملابس وعلى ظهر التمثال والجزء الأعلى من قاعدته. وتشتمل كل هذه النقوش على 48 سطرا، حيث تضم عدة متون، كل منها مستقل عن الآخر، بعضها يتكلم عن سيرة (وجا حور رسنت) وبعضها يتضمن مواقفه وذكرياته مع الملوك الذين عاصرهم.

وتشير الدراسات التي أجريت على التمثال، أنه صنع ليس لوضعه داخل مقبرة (وجا حور رسنت). ولكن لكي يوضع داخل معبد المعبودة “نيث” في مدينة “سايس”. وهي معبودة مصرية شهيرة اعتقد المصريون القدماء أنها وراء الخلق، وتوجد أدلة على عبادتها منذ الدولة القديمة.

تغطي النقوش مختلف جوانب التمثال، وتتضمن 48 سطرا
تغطي النقوش مختلف جوانب التمثال، وتتضمن 48 سطرا
  (وجا حور رسنت) المثير للجدل

قبل الاستفاضة في الحديث عما يقدمه التمثال من معلومات، نحتاج في البداية للتعرف على الشخص الذي يجسده التمثال. وهو (وجا حور رسنت)، الذي اختلفت الآراء حوله، بين من رآه خائنا لدولته ومتعاونا مع الغزاة. وبين من رآه مسؤولا حكيما استطاع الحفاظ على الثقافة المصرية من الضياع. وضمن لها البقاء لعدة قرون حتى بعد انقضاء الدولة المصرية القديمة، وكذلك نتعرف على وضع مصر في الفترة التي عاش فيها.

تقول مجلة “Archaeology” في تقرير لها نشر بعدد (مايو/يونيو 2023)، إن (وجا حور رسنت) ينحدر من عائلة قوية عاشت في مدينة “سايس”، عاصمة مصر خلال عهد الأسرة 26. فيما يضيف سليم حسن، أنه ولد لأبوين مغموري الذكر، وكان أبوه يسمى “بفتوعونيت” وتدعى أمه السيدة “أتم أردس”. حيث يؤكد أن شواهد الأحوال تدل على أن والده لم يكن معروفا من قبل، رافضا النظريات التي تقول أن والده كان له شأن في الدولة المصرية.

في كل الأحوال، وأيا كانت بدايات عائلته. فالثابت أن (وجا حور رسنت) أصبح أحد رجال البلاط رفيعي المستوى، خلال عهد آخر اثنين من ملوك الأسرة الـ26، أحمس الثاني “أماسيس”، وبسماتيك الثالث، وأول اثنين في ملوك الأسرة الـ27 من الفرس، قمبيز وداريوس الأول.

وحمل (وجا حور رسنت) قائمة طويلة من الألقاب خلال عهد الأسرة الـ26. منها الأمير، حامل الختم الملكي، السمير الوحيد للملك، الصديق المحبب والحقيقي للملك، الكاتب، مفتش كتبة المجلس، كاتب القاعة الخارجية الكبرى، مسؤول القصر. وبعدما استولى الفرس على السلطة، احتفظ (وجا حور رسنت) بأغلب هذه الألقاب، وأضيف إليها لقب آخر وهو “كبير الأطباء”، حيث كان واحدا من كبار المسؤولين القلائل المعروفين من الأسرة الـ26 الذين احتفظوا بوظائفهم ورتبهم وألقابهم تحت الحكم الفارسي لمصر.

ومن غير الواضح كيف تمكن (وجا حور رسنت) من أن يصبح مستشارا مقربا من ملوك الفرس. ولكن يبدو أن عمله في منصب كبير الأطباء لدى قمبيز، مكنه من استعادة مناصبه. حيث كان يوفر له عمله فرصة للوصول المباشر إلى الملك والتحدث إليه.

وضع سياسي مضطرب

تقول مجلة “Archaeology”، إنه في عهد الأسرة الـ26، التي بزغ فيها نجم (وجا حور رسنت)، واجهت مصر تهديدات خارجية كبيرة من عدة جهات، كان التهديد الأول من الآشوريين القادمين من الشمال الشرقي. ولكن استطاع مؤسس الأسرة، الملك بسمتيك الأول، إقامة تحالف استراتيجي معهم، بالتزامن مع قيامه بتأمين كامل مصر من خلال مقره في الدلتا، كما استعان بجنود يونانيين لتحصين قواته المسلحة.

أما ثاني التهديدات الخارجية فقد شكله البابليون، المنافسون المحليون للآشوريين. ولكن استطاع المصريون تحييدهم عن طريق السياسة وإرسال الهدايا، بينما كان الجنوب أيضا مصدر خطر. حيث حاول النوبيون الذين حكموا مصر خلال الأسرة الـ25، استعادة السيطرة على البلاد، ولكن محاولاتهم كانت تبوء دائما بالفشل.

وفي ظل هذه الأجواء المضطربة، كانت الإمبراطورية الإخمينية الفارسية مترامية الأطراف، تفرض سيطرتها على قطاع كبير من آسيا بحلول عام 530ق.م، وكانت تسعى لضم مصر إلى ممتلكاتها. فقام ملك مصر أحمس الثاني، بتأمين قواته عبر الاستعانة بمزيد من الجنود اليونانيين واستطاع بناء أسطول بحري. وهو ما عرقل الأطماع الفارسية في مصر.

ولكن عقب وفاة أحمس الثاني عام 526ق.م، وتولي ابنه بسماتيك الثالث الذي كانت تنقصه الحكمة والتجربة للسلطة. استغل الملك الفارسي قمبيز الفرصة وسارع بالهجوم على مصر والاستيلاء عليها وإضافتها لممتلكات الإمبراطورية الإخمينية، بعد هزيمته لبسماتيك الثالث في معركة الفرما -قرب مدينة بورسعيد الحالية. ليصبح بذلك بسماتيك الثالث آخر الفراعنة المصريين.

تناولت النقوش التي غطت التمثال سيرته وبعض من مواقفه وذكرياته مع الملوك الذين عاصرهم
تناولت النقوش التي غطت التمثال سيرته وبعض من مواقفه وذكرياته مع الملوك الذين عاصرهم
الرجل “البين بين”!

وسط هذه الأجواء المضطربة، استطاع (وجا حور رسنت) أن يكتب سيرته المثيرة للجدل، التي نقشها على تمثاله النادر. ويوضح من خلالها كيف حافظ على ولائه لحكام مصر الحقيقيين -الأسرة الـ26- وكيف تقرب من الحكام الأجانب المحتلين -الأسرة 27- لينقذ الثقافة والعادات والتقاليد المصرية من الضياع.

يحكي (وجا حور رسنت) عبر نقوش التمثال، كيف ساعد الملك قمبيز، أول ملوك الأسرة 27، على أن يتحول من ملك أجنبي محتل، إلى ملك مصري حقيقي. حيث يصف قمبيز أولا بأنه “الزعيم العظيم لكل الأراضي الأجنبية” على العكس من وصفه لحكام الأسرة الـ26 المصريين الذين كان يصفهم بأنهم “ملوك مصر العليا والسفلى”. ولكن عندما يتحدث عن قمبيز بعدما أصبح حاكما لمصر، يصفه (وجاحور رسنت) بأنه “الحاكم العظيم لمصر والزعيم العظيم لكل الأراضي الأجنبية” في أشبه ما يكون بترقية لقمبيز في سلم التمصير.

ولاحقا وصفه بأنه “ملك مصر العليا والسفلى”، وهو ما يعني أنه في كل مرحلة، كان قمبيز يصبح أكثر تمصيرا في ألقابه حتى أصبح مصريا خالصا. أما اسم العرش الذي اختاره (وجاحور رسنت) لقمبيز فقد كان معناه “سليل رع”، مما يوحي بإسباغ الشرعية على حكم قمبيز من خلال إضفاء الصفات الدينية المصرية عليه.

الآلهة المصرية

تقول مجلة “Archaeology” في تقريرها الذي حمل عنوان “The man in the middle” -وترجمتها الأقرب هي “الرجل البين بين”- من المرجح أنه كان لدى قمبيز الكثير من المسؤولين الفارسيين الذين عملوا كمستشارين له. لكن لم يكن أي منهم قادرا على إحداث الفارق الذي تركه (وجا حور رسنت). وتضيف على لسان ماريسا ستيفنز عالمة المصريات بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، إن (وجا حور رسنت) منح قمبيز علاقة أوثق بالآلهة المصرية وبالتالي إضفاء المزيد من الشرعية عليه. حيث كانت الألقاب التي ذكرها على تمثاله لا تقول بأن من حق قمبيز الحكم فقط، بل تقول بأنه مؤيد بشدة من الآلهة في احتلاله لمصر!

ولكي يثبت (وجا حور رسنت) حسن نية قمبيز بصفته ملكا مصريا. قال عبر نقوش التمثال، إنه دفعه إلى الاهتمام بمعبد نيث في مدينة سايس. حيث قام قمبيز بناء على طلب (وجا حور رسنت) بطرد مجموعة من الأجانب -الفرس- الذين سكنوا المعبد. وقام بتطهيره وإعادته إلى ممارسة شعائره، بما في ذلك إعادة توظيف خدام المعبد والسماح بإقامة الاحتفالات والأعياد. كما زار قمبيز المعبد بنفسه و”لمس الأرض أمام جلالتها العظيمة كما فعل كل ملك…” حسب نقش التمثال.

فمن خلال هذه النقوش، استطعنا أن نفهم أن (وجا حور رسنت) كان المستشار المخلص للملك، وفي الوقت نفسه، كان مصري إلى أبعد مدى. حيث يقول نصا عن نفسه إنه “متدين جدا ومصري بحق، لقد ذكرت للملك أن هذا ما يفعله الملك الجيد لإعادة سايس إلى مجده السابق”.

تنورة فارسية لمسؤول مصري

يصور التمثال (وجا حور رسنت) واقفا الوقفة المصرية التقليدية، مع تقديم قمه اليسرى، حاملا المحراب. وهو أسلوب كان شائعا جدا في مصر نهاية الأسرة الـ26. كما يتحدث من خلال النقوش عن القرابين التي كان يقدمها لأوزوريس. وكيف ساهم في تكريم الإلهة نيث. وكيف قام بحماية عائلته وأنقذ شعب سايس من “كارثة كبيرة جدا” غير محددة. وهي كلها أمور حاول من خلالها التأكيد على مصريته القوية.

ومع ذلك، يشير هنري كولبورن عالم الآثار بجامعة نيويورك، إلى أن عناصر أخرى في التمثال تشير إلى هوية أكثر تعقيدا لـ(وجا حور رسنت). ويوضح في حديثه لمجلة “Archaeology” أن (وجا حور رسنت) ارتدى على سبيل المثال تنورة طويلة فوق سترة ذات أكمام. حيث يرى كولبورن أن هذا الزى يشبه رداء رجال البلاط الفارسي الذي كان يرتديه الحاشية والجنود والملك نفسه في النقوش الأخمينية الفارسية. بالإضافة إلى ذلك ارتدى (وجا حور رسنت) سوارا فارسي الطابع له رأس أسد في كل طرف. وكأن (وجا حور رسنت) يقول بأن الملك أعطاه الحلي الذهبية كمكافأة على خدمته.

السمات المصرية والفارسية

ويرى باحثون، أن المزج بين السمات المصرية والفارسية في تمثال (وجا حور رسنت) هو دليل على أن الإمبراطورية الإخمينية لم تسع للقضاء على ثقافة الشعوب التي غزتها وتقضي على إرثها. بل كان ملوك الإمبراطورية يفتخرون كثيرا بتنوع الشعوب الخاضعة لهم، وهو ما يمكن اكتشافه من خلال تفاصيل التمثال.

ويقول سليم حسن، إن النقوش على التمثال، تكشف لنا أيضا أن (وجا حور رسنت). وفي وقت متأخر من حياته، سافر بعد وفاة قمبيز -في عهد خلفه داريوس الأول- إلى خارج مصر. حيث انتقل للعمل لدى داريوس الأول في البلاط الفارسي في مدينة سوزا -إيران الحديثة. ويضيف أن الأحوال التي اقتضت سفره هذا غير معروفة، ولكن الثابت من النقش، أن داريوس الأول أرسله مجددا إلى مصر لترميم مؤسسة “بيت الحياة”. بعدما سقطت في حالة من الفوضى.

ويعتقد كولبيرن أن هذه المهمة كانت بمثابة إبعاد عن أدواره الأكبر التي مارسها في أوقات سابقة. وأنه من الممكن أن يكون هذا نوعا من حفلة التقاعد، وربما أراد (وجا حور رسنت) العودة إلى مصر، ولذلك رتب له الملك وضعا مريحا.

(اليسار) شكل السوار الذي ظهر على يد تمثاله، (يمين) سوار فارسي يوضح التشابه بينه وبين سوار المسؤول المصري
(اليسار) شكل السوار الذي ظهر على يد تمثاله، (يمين) سوار فارسي يوضح التشابه بينه وبين سوار المسؤول المصري
مقبرة مصرية صميمة

في النهاية، وعلى الرغم من ظهور (وجا حور رسنت) في تمثاله بملابس فارسية. إلا أن مكان راحته الأبدية كان مقبرة مصرية صميمة. حيث يعتقد أنه دفن في المقبرة التي خصصت لتضم موميائه بـ”أبوصير” بالقرب من ممفيس. إذ كانت النقوش على جدران حجرة الدفن والتوابيت، كلها نصوص مصرية خالصة، وضعت لضمان الانتقال السلس إلى العالم الآخر.

وتقول مجلة “Archaeology”، إن الأدلة التي عثر عليها في تلك المقبرة، أثناء الحفريات بين عامي 1980 و1993، تشير إلى أن المقبرة كانت قيد الإنشاء حوالي عام 530ق.م. أي في عهد أحمس الثاني. ولكن هناك أدلة أخرى داخل المقبرة تشير إلى أن (وجا حور رسنت) كان يحمل لقب “كبير الأطباء” وقت إعداد المقبرة. وهو لقب لم يحصل عليه إلا بعد خدمته لملوك الفرس. ما يعني أن العمل في المقبرة استمر بعد نهاية الأسرة 26.

الغريب، أنه لم يعثر على أي أثر لمومياء (وجا حور رسنت) في المقبرة. حتى أن بعض العلماء اعتقد حينها بأن (وجا حور رسنت) لم يدفن من الأساس داخل مقبرته. وأنه ربما يكون قد دفن في عاصمة الإمبراطورية الإخمينية -إيران الحالية.

إلا أن دراسات لاحقة، بحسب مجلة “Archaeology”، قام بها لاديسلاف بارس، عالم الآثار بالمعهد التشيكي لعلم المصريات. والذي كان جزءا من فريق التنقيب عن المقبرة، أشارت إلى أن القبر نهب بشدة. كما أن مخبأ أدوات التحنيط الخاصة بـ(وجا حور رسنت) والذي عثر عليه بالقرب من المقبرة، يثبت أن (وجا حور رسنت) دفن بالفعل هناك.

تعزيز شرعية المحتل

كان من الأمور المثيرة التي حيرت الباحثين الذين عملوا على التمثال. هو مسألة إعداد تمثال لأحد المسؤولين -وليس لشخصية ملكية- ليوضع داخل معبد وليس داخل مقبرة المسؤول. أضف إلى ذلك، أنه وبالرغم من أن التمثال هو الوحيد المتبقي لـ(وجا حور رسنت) حاليا. إلا أن هناك أجزاء من تماثيل أخرى شبيهة للغاية لهذا التمثال. عثر عليها في أماكن متفرقة، على الأقل اثنين آخرين، يعتقد أنهما صنعا ليوضعا في معابد أخرى.

وتقول ميلاني واسموث، عالمة المصريات بجامعة هلسنكي، أنه أمر نادر واستثنائي أن يتم صناعة أكثر من نسخة من التمثال ذاته. خاصة وأنه كان يحمل كل هذه النقوش، ويتم توزيع النسخ على أكثر من معبد. معتبرة أن ذلك غالبا، كان ضمن توجه مدروس. هدفه تعزيز شرعية حكم الفرس لمصر، الذين كان قبولهم من قبل المؤسسات الدينية والمعابد الرئيسية في البلاد أمرا ضروريا. خاصة وأن المعابد ربما كانت أكثر الأماكن التي يحوم حولها التمرد لارتباطها الوثيق بمفهوم الملكية المصرية الصميمة.

ويوضح سليم حسن، أن فكرة وضع التمثال داخل المعبد أمام الزوار ليقرأوا ما عليه من نقوش. استدعى أن تتضمن النقوش صورة غير دقيقة عن العصر الذي عاش فيه (وجا حور رسنت) -أي كان له غرض دعائي- وأن يفهم من يطالع نقوش التمثال أن (وجا حور رسنت) ساهم في الإصلاحات التي جرت في ذلك العصر.

باب خشبي يبلغ ارتفاعه 11 بوصة، يصور داريوس الأول (يمين) في هيئة ملك مصري، يقدم قربانا لآلهة مصرية (الوسط) بينما تقف إيزيس على (اليسار) ما يظهر حجم تأثير (وجا حور رسنت) على اتباع ملوك الفرس للثقافة والتقاليد المصرية
باب خشبي يبلغ ارتفاعه 11 بوصة، يصور داريوس الأول (يمين) في هيئة ملك مصري، يقدم قربانا لآلهة مصرية (الوسط) بينما تقف إيزيس على (اليسار) ما يظهر حجم تأثير (وجا حور رسنت) على اتباع ملوك الفرس للثقافة والتقاليد المصرية
تكريم بعد 177 عام

هناك أدلة تشير إلى أن (وجا حور رسنت) تم تكريمه بعد فترة طويلة من وفاته، وهو حدث نادر ما يحدث لشخصية غير ملكية. حيث تشير واسموث للمجلة، إلى أن جزءا من تمثال عثر عليه في الخمسينيات من القرن الماضي في ممفيس. تضمن نقشا يشير إلى أن كاهن معبد نيث في القرن الرابع قبل الميلاد أمر بتكريم (وجا حور رسنت)، حيث يقول النقش على لسان الكاهن: “لقد جعلت اسم كبير الأطباء (وجا حور رسنت) يعيش بعد 177 عاما على وفاته، حيث أعدت اكتشاف تمثاله في حالة خراب”.

ويشير هذا إلى أن إنجازات (وجا حور رسنت) كانت لاتزال معروفة وينظر إليها على أنها تستحق الاحتفاء والتكريم. ولكن بالنظر إلى أن هذا التكريم يتزامن مع الفترة الثانية لحكم الفرس لمصر، من عام 340 إلى 332 ق.م. فمن المحتمل أن أمثال (وجا حور رسنت) من المتعاونين مع الفرس كان ينظر إليهم بتقدير خاص، ويتم تشجيع الآخرين على أن يحذوا حذوهم.

في كل الأحوال، وبالرغم من كل ما قيل في حق (وجا حور رسنت) بسبب تعاونه مع الفرس. إلا أن جهوده للحفاظ على الثقافة والتقاليد المصرية تحت حكم الفرس، ساعدت على بقاء هذه التقاليد لما يقارب 300 أخرى. سواء تحت الحكم المقدوني أو اليوناني، حيث تبنى الحكام الأجانب لقب “الفرعون” وقاموا ببناء معابد جديدة للآلهة المصرية. وقد استمر هذا الوضع، إلى أن جاء الرومان الذين انتهت على أيديهم التقاليد المصرية تقريبا في القرن الأول قبل الميلاد.

اقرأ أيضا:

الباحث الدرامي لـ«رسالة الإمام»: الدراما لها أحكام.. والمسلسل يخلو من الأخطاء

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر