«عظومة» لعصام البرعي: رحلة البحث عن صديق قديم

يخوض عصام البرعي في روايته «عظومة» (دار ميريت) (2022) رحلة بحث عن صديق قديم. رحلة تمتد وتتسع للبحث عن ذات وزمن قديم، يرصد فيها زلزالا لم يتقادم، أحدث شرخا كبيرا يتسع ويتمدد.

يبدأ البرعي فصول الرواية بافتتاحية مؤرخة: ديسمبر 1969، نوفمبر 1971 وهكذا حتى نوفمبر 1988، في نمط متكرر ومتصاعد يحدد بناء البناء الرواية، وإيقاعها أيضا. بعد هذه الافتتاحية يشتمل كل فصل على وصف جزء من رحلة بحث الراوي عن صديقه القديم (بطل العالم الروائي) الذي رغم عدم رؤيته له منذ عشرين عاما. لم يغب عن باله أبدا. بعد ذلك يحتوي كل فصل على جزء من ذكريات التنشئة المشتركة بين الصديقين، في شكل الفلاش باك. ثم في نهاية كل فصل هناك جزء يخص وصف اللحظة الأخيرة بعد التقاء الصديقين. غني عن الذكر أن كل تلك الخطوط المتوازية تتناغم بنعومة بالغة ولن تلاحظ أبدا أي انتقال قسري بين تلك الأوتار. إنما فقط لحن واحد تحرسه لغة سلسة تميزت بالدقة مع روح معينة تميل إلى الرؤية السوداوية للعالم ولكنها لا تخلو من تأمل ذكي في آن معا.

**

يقبع مصدر هذا التأمل الذكي بشكل أساسي في تلك المقولات الافتتاحية التي قد تشكل مجتمعة حالة مكتملة. فهناك زلزال قد أحدث شرخا عميقا أصاب كل شيءٍ حتى الناس أنفسهم. البحث عن خلاص ومقاومة هذا الانهيار أمور تستدعي الركض المستمر. لا فائدة طالما أن اللغة نفسها باتت تستخدم فقط كقناع. كل شيء يتغير دائمًا للأسوأ، فاغترب كل إنسان عن نفسه بسبب الاستسلام لمطرقة الحياة، فاكتمل الشرخ وقضي الأمر. أغلب الظن أننا بصدد رصد للتأثير العميق الممتد الذي أحدثته هزيمة 1967، دون الربط المباشر بين الهزيمة والزلزال أو الشرخ ولا حتى ذكر لتلك الهزيمة من أي طرف. والملاحظ بخصوص هذا الرصد هو عدم التوقف أبدا عند انتصار 73. وكأن هذا الانتصار لم يكن كافيا أبدا لإحداث التوازن مع آثار تلك الهزيمة.

يتعاطى هذا العمل، في شقه الأساسي مع المأزق النفسي/الوجودي الذي تضعنا فيها الحياة المعاصرة فلا يتبقى أمام من لا يجيد مجاراة الواقع سوى الانسحاب التام. يتساوى في ذلك من قرر الانسحاب مبكرا (الراوي) ومن سيدفع إلى الانسحاب دفعا (عظومة، صديق الراوي). في الحقيقة يمكن اعتبار كلا من الراوي وصديقه وجهان لعملة واحدة. إنسان وقرينه أو قل بطل وبطل ظل. فهما مهمومان بالعالم. اختار الراوي عدم الاشتباك مع الواقع إلا في الحدود الدنيا. ولكن الصديق الذي لم تكن لديه نفس بحبوحة العيش. اختار الاشتباك ومع ذلك وصل لنفس النهاية. الراوي في عزلة تامة والصديق في هزائم متتالية فدفع إلي الهامش مهملا لا يقوى على فعل شيء. حتى يجده الراوي قبل موته الوشيك.

**

بصرف النظر عن وحدة المصير الذي آل إليه كل من الراوي وصديقه، توجد هناك العديد من الأسباب التي حتمت هذه الاختيارات المختلفة. فهما كمثقفين لهما القدرة على التأمل المجرد والقدرة على نقد الأفكار السائدة وبالتالي نسج رؤى جديدة للحياة. إلا أن الراوي، ربما بسبب بحبوحة العيش، قد تمادى أكثر من صديقه، فغرق فيما يشبه الإحباط الوجودي ولم يجد ما ينتشله. ويظن أن هذا البروفايل النفسي لهذا الراوي هو نقطة تميز هذا العمل، الذي يقل وجود أمثاله في أدب اللحظة الراهنة. فالخارج أصبح بالنسبة له جحيما متأججا، يحتاج منه جرعة أكبر من التقزز كلما أضطر للخروج من بيته. فلم يكن يرى أحدا. حتى أنه اكتشف انه لم يكن أمرا سيئا أن تتركه زوجته. وكأن أمه كانت على حق عندما كانت تقول عنه لصديقه عظومة: الكتب أفسدت دماغ الولد، أنه يقرأ الفلسفة.

صابغا العالم بفرشاته، سوف يأخذنا الراوي معه في رحلة مثيرة، يقوم بها مضطرا، للبحث عن عظومة بعد أن تفرقت بهم السبل منذ عشرين عاما. ربما دفعه لهذا البحث بقية رجاء ما، أو محاولة أخيرة لانتشال نفسه أو ربما لإحساسه بدين ما تجاه صديق الطفولة الذي تواردت عنه أخبارا سيئة. وربما لمواصلة حوار لم ينقطع حتى بعد افتراقهما. سوف يدهشنا الراوي بتجوله بين أحياء الإسكندرية المهمشة، وسلسلة متنوعة من البشر. الانعكاس الأمين لتلك الفترة الزمنية. حتى انتهى به الأمر أمام صديقه القديم في احتضاره. فأخذ يتردد عليه حتى وفاته فيذهب لزيارة قبره بمقابر الصدقة التي لم يكن يعرف أين تقع. ولكنه مشي في اتجاه حجر المواتية. حتى وجد بقعة خالية إلا من بعض الأشجار الجافة فجلس تحت واحدة منها وراح في غفوة بلا أحلام.

**

إن كان ثمة تحفظا على هذا العمل الجميل فهو يخص موضوع الجماعة المحذرة التي التقاها عظومة فحملته أمانة تنبيه الناس من مصيبة وشيكة الوقوع. أظن أن هذا الأمر قد أخذ أكثر من حجمه وأفسد بعض الجوانب في شخصية عظومة الذي تحول إلى بوق مجند من قبل من هم أكثر وعيا منه. مع أنه هناك الكثير من الإشارات التي توحي بإمكانية أن يقوم عظومة بإنتاج مثل تلك الرؤى بنفسه وأن يقوم بهذا الدور دون وحي من أحد. ولكن أن يتحول إلى ببغاء فهذا ما لا يتسق مع البروفايل النفسي هذه الشخصية. وبنائيا ينتمي هذا الأمر لعالم الفانتازيا. وهذا تكنيك روائي آخر ربما لم نكن بحاجة له هنا.

اقرأ أيضا

من محمد صبحي وتركي إلى سقراط: الترفيه vs الملاهي.. والواقع vs الأخلاق

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر