«زفة اللنبي» و«الغطس في بحر مويس».. ذكريات المصريين للاحتفال بشم النسيم

حتى مطلع الألفينات، أولى المصريون للاحتفال بعيد شم النسيم أهمية كبرى، باعتباره المناسبة الوحيدة التي يحتفل بها المسلمون والمسيحيون معا، من محافظة إلى أخرى، برع شباب كل منطقة في إيجاد رمز وطقس يميزهم للاحتفال بعيد شم النسيم حتى تحول إلى فلكلور المدينة نفسها في شم النسيم. بعضها مستوحى من أكلات المسيحيين خلال الصوم، وأخرى مستوحاة من رمزية التصدي للإنجليز، وعادة مستمرة منذ احتلال بلاد فارس إلى مصر.

 شوارع بورسعيد تحترق

الاحتفالات بعيد شم النسيم في بورسعيد قديما كانت مختلفة عن أي محافظة مصرية أخرى. إذ اتبع سكان المدينة طقوسا مخصصة للاحتفالات حتى مطلع الألفينات.

كانت البداية للاحتفال بشم النسيم تبدأ عصر الأحد، بزفة “اللنبي” أو “الألمبي”، وهي دُمى كبيرة الحجم كان يتم صنعها لشم النسيم من القماش ومحشوة بالأخشاب، وهو حريق صغير بالشوارع يسمى أول إشارة، استعدادا للحرائق الكبيرة ليلا.

رغم أن عادة الحرائق سيئة لما تجلبه معها من تلوث وآثار ضارة وخطيرة، لكنها كانت واحدة من أهم طقوس الاحتفال بعيد شم النسيم، والتي عاصرها محمد فوزي أحد سكان بورسعيد.

ويقول لـ”باب مصر”: “كان يسبق الحرائق التجول بشوارع المدينة والطواف حول منصة عرض نماذج لدمي اللنبي بمقر محل عائلة خضير بشارع نبيل منصور وأوجينا وهو المحفل الرئيسي لهذه الليلة. والانتقال من شارع لآخر للاستماع ومشاهدة فرق السمسمية وحفلات الضمة التي تحولت إلى الدي جي فيما بعد”.

وكانت أعداد الزوار كبيرة جدا، لمشاهدة هذا الكرنفال الشعبي الذي توارثته أجيال مدينة بورسعيد. ثم استكمال السير في الشوارع لمشاهدة المنافسة بين الشوارع على أكبر حريق. ثم تبدأ مباريات في كرة القدم الشراب على أسفلت الشوارع وأشهرها نبيل منصور وطولون وإبراهيم توفيق وشارع عبادي وشارع عرابي والثلاثيني والروضة سوق السمك والتجاري والحميدي والشرقية والقليوبية والزقازيق. وتمت تسمية معظم شوارع بورسعيد الكبرى بأسماء محافظات.

زفة اللنبي

تسترجع منى الشامي ذكرياتها لـ”باب مصر”، وتقول: “كان يجتمع كل سكان بورسعيد عند عائلة خضير التي نالت شهرة بصنع دُمى اللنبي. وفي شم النسيم كل عام كان لها شكل مختلف أو تمثل شخصية مشهورة”.

وتضيف عن سهرة ليلة شم النسيم: بعد مشاهدة اللنبي عند خضير كنا نجتمع في سهرات عزف “السمسمية“. وهي آلة فنية شعبية تعد جزءا من الفلكلور الشعبي لبورسعيد والسويس والإسماعيلية.

وتابعت: لم تحترف عائلة خضير وحدها صنع الألمبي، كان كل منزل ببورسعيد يجمع الأخشاب والملابس القديمة لصناعتها في المنزل. بعد ذلك تصبح الوجهة القادمة هي الاحتفال بالحرائق عبر حرق اللنبي. لكن ضمن مباراة سكان كل شارع في صنع أكبر حريق بالشارع. وتقول: “يتعمد الشباب زيادة النيران بإضافات أخرى مثل الأخشاب والمهملات القديمة. وكان يسبق هذا اليوم تجهيزات لجمع كل ما يمكن حرقه في ليلة شم النسيم”.

النزوح للشواطئ

ومع بداية يوم الإثنين – شم النسيم، تبدأ الأفواج النزوح إلى شواطئ بورسعيد، وحلقات الرقص والأغاني الشعبية المحفوظة للعامة من تراث البلد وتاريخها، والسباحة وأكل الفسيخ تحت الشماسي.

وعن التراث الشعبي لاحتفال بورسعيد بـ”اللنبي”، يوضح الخبير الأثري د. عبدالرحيم ريحان، عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التاريخ والآثار، أن عادة “زفة اللنبي” وحرق “اللنبي” في الشوارع ترجع إلى اللورد البريطاني إدموند اللنبي.

ويضيف لـ”باب مصر”، أن دمى اللنبي كانت رمزا للجنرال نفسه، وظلت متوارثة منذ الغضب البورسعيدي حيث الحركة الوطنية الشعبية في بورسعيد، وكان يتم صنع دمية كبيرة الحجم وتُقام عليها زفة شعبية تتحرك في الشوارع، يصاحبها ترديد أغاني شعبية، ومنها هذه الأغنية:

ياللنبي يابن حلمبوحة.. ومراتك عرة وشرشوحة

ياللنبي يابن حلمبوحة.. مين قالك تتجوز توحة

ياللمبي يابن الخواجاية.. مين قال لك تعمل حكاية

ياللنبي يابن الأمبوحة.. أمك مليانة ملوحة

دي راسك عالحيط مدبوحة.. إخية عليه.. اللنبي بيه

البصل زينة أبواب الصعايدة

بالانتقال إلى صعيد مصر، تعد الأسماك المملحة مثل “الفسيخ” و”الملوحة” واحدة من الأكلات الشهيرة في شم النسيم، لكن في الصعيد لا يتم تناولها مع البصل فقط، بل يحتفل أهل الصعيد في بعض القرى خلال شم النسيم بوضع بصلة أمام كل منزل.

ويوضح الخبير الأثري أن هذه العادة مصرية قديمة، وترتبط بالاحتفال بعيد شم النسيم منذ الأسرة السادسة في مصر القديمة، بل وظهرت أيضا في أساطير منف القديمة.

ويسرد ريحان أن استخدام البصل يرجع إلى محاولة علاج أحد ملوك مصر القديمة، وكان طفلا وأصيب بمرض غامض جعله لا يغادر الفراش وعاجزا عن الحركة. فاقترح الكاهن الأكبر لمعبد آمون أن مرضه بسبب الأرواح الشريرة، ونصحه بوضع بصل ناضج تحت رأس الطفل. بالإضافة إلى وضع البصل على أبواب غرفته وأبواب القصر بهدف طرد الأرواح الشريرة، ويضيف:” بعد شفاء الطفل حل عيد شم النسيم وأمر الملك وعائلته بوضع البصل على أبواب المصريين”.

الغطس في بحر مويس

أما في قرى محافظة الشرقية، وتحديدا قرية “أولاد صقر” كان يجتمع الشباب قديما عند شروق الشمس بعد صلاة الفجر يوم شم النسيم، ويخرجون معا للذهاب إلى البحر والغطس في المياه شديدة البرودة صباحا، لاعتقادهم : “اللي مياخدش الغطس في عز البرد يفضل طول السنة كسلان”.

وكان سيرهم في طرق القرية يصاحبه صخب وصوت عالي لإيقاظ الشباب الآخرين الذين آثروا البقاء في سرير دافئ عن “غطس البرد”. أو على الأقل لينظر إليهم كل من في المنازل من الشرفات والشبابيك ويشجعوهم.

هذا البحر هو ترعة متفرعة من بحر مويس، التي لا يقل عرضها عن 300 متر، وكانت نقطة استقبال مراكب قنا الضخمة المُحملة بـ”الزلع” وهي “الجرات والقلل” القناوي، وبحر مويس هو فرع من نهر النيل يخترق محافظة الشرقية كترعة كبيرة تنتهي عند بلدة أولاد صقر.

ومن عاداتهم القديمة أيضا للاحتفال بشم النسيم، خروج الصغار إلى الحقول والحدائق، تنتهي إلى ضريحين لشخصين غير معروف عنهم شيئا إلا اسميهما وهما ضريح أبوشاكر، وضريح الشيخ السرو، وكان يغني الأطفال:

يابو شاكر دانك فاكر

يابو شاكرنا خايك فاكرنا

براغيت الشتوية والخالة بدوية

3 أيام

امتد الاحتفال بشم النسيم على مدار 3 أيام، بدءا من يوم السبت، وفي ليل “سبت النور” كانوا يحرقون الخشب القديم وقش الأرز في كل شوارع وحارات البلد. ويقفز من فوقها الشباب وهم يغنون: “يا براغيت الشتوية روحي لخالتك بدوية”.

وكتب عنها الباحث الراحل صبري أبوسعدة: “حين كبرت وقرأت عرفت أنه موروث فارسي منذ احتلال بلاد فارس لمصر قبل الإسلام. وهو احتفال من طقوسه القفز فوق النار وكانوا يسمونها – نور بدلا من نار – وهي عادة تتبع للدين المجوسي الذين يقدسوا النار منذ آلاف السنين. بمناسبة عيد قدوم الربيع – نوروز – والذي يعني اليوم الجديد وهو بداية للسنة الفارسية”.

أما القفز من فوق النار يعنى عندهم التطهير وتجديد الروح للعام الجديد. والذي تبدل في قرية محافظة الشرقية ليصبح القفز فوق النيران “للتطهير من براغيث الشتاء”.

وكانت الأكلة الخاصة هي “الفطير المشلتت” وتسويته في الفرن بالمنزل في “أوضة الفرن”، وقبل يوم شم النسيم كان يتم تجهيز الترمس والحلبة النابتة وحمص الشام والفول المملح بالشطة. واعتادت الجدات على إرسال كل هذه الأطعمة مع العسل الأسود و”الجبنة القديمة” لبنات العائلة المتزوجات.

العسلية البيتي والبيض الملون

خلال السبعينات والثمانينات، كانت كل عائلة تجتمع عند الجدة أو الخالة الأكبر سنا قبل شم النسيم بيوم أو اثنين، يرسلا الصغار لشراء الألوان لتلوين البيض المسلوق.

في القاهرة، كانت وجبة الإفطار يوم شم النسيم مختلفة عن غيرها. وكانت إما طعمية أو بصارة مع البيض الذي تم تلوينه مُسبقا. وكانت تعد الجدة حلوى أو “عسلية بيتي” عبارة عن خلطة من العسل الأسود مُضاف إليه مكسرات مع “أبوريه”. وهي عجينة خبز يتم وضع سكر في منتصفها وزبدة ثم وضعها في الفرن حتى النضج، ويتم إعدادها في الريف أيضا.

تاريخ الاحتفال بعيد شم النسيم

باختلاف طقوس الاحتفال في أكثر من مكان في مصر بشم النسيم. لكن الأصول التاريخية للاحتفال بعيد الربيع أو شم النسيم تمتد إلى مصر القديمة. يقول د.عبدالرحيم: “المصريين القدماء احتفلوا بعيد الربيع منذ عام 2700 قبل الميلاد. ويرجع سبب الاحتفال به لأنهم اعتقدوا أن في هذا الفصل تتجدد الحياة، أما التسمية “شم النسيم” فهي كلمة مُحرفة من “شمو” ومعناها في المصرية القديمة – بعث الحياة”.

لعيد شم النسيم قدسية أخرى لدى المصريين القدماء. ويوضح الدكتور ريحان أن المصريين القدماء اعتقدوا أن يوم شم النسيم هو بدء خلق العالم. وذلك بحسب توثيق معتقداتهم على جدران المعابد. ومنها أن المعبود رع يقوم في ذلك اليوم ويمر في سماء مصر بواسطة سفينته المقدسة.

وتستكمل قصته عبر الجدران بأن سفينته المقدسة كانت تستقر فوق قمة الهرم الأكبر، ويعد هذا اليوم عيدا للخير. لأنه عند الغروب يعود إلى الأرض وتظهر السماء باللون الأحمر في إشارة إلى قتل المعبود “ست” إله الشر.

ويختتم حديثه: “السنة في مصر القديمة كانت تبدأ بعد اكتمال القمر يوم الانقلاب الربيعي في 11 برمودة – باراحاموت بالهيروغليفية”.

اقرأ أيضا

عندما رفض المصريون الاحتفال بـ«شم النسيم»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر