البحث عن الأرشيف الضائع (2): أفلامنا الحائرة.. بين الثلاجة ومخزن نسخ الإيداع

الحديث عن أرشيف السينما الضائع دائما ما يقلب المواجع. بالنسبة لمحبي السينما فليس هناك أتعس من أن يرى المرء صورة فوتوغرافية أو يقرأ خبرا عن فيلم قديم من الثلاثينيات والأربعينيات. ويعلم أن هذا الفيلم مفقودا، أو أن أصحابه باعوه خردة، وأن كل نسخه البوزيتيف اختفت من على وجه الأرض.

الفقد قانون الوجود، ولكن أجدادنا المصريين علموا العالم أن الحفظ والتوثيق يصنع الخلود. وإذا كان هناك شيء جيد يمكن أن نفعله من أجل الذين بنوا هذه الحضارة والذين بنوا نهضتنا الحديثة. فعلى الأقل أن نحافظ بقدر الإمكان على تراثهم وإنجازاتهم.

أثارت الحلقة الأولى من مقالات “البحث عن الأرشيف الضائع” ردود فعل عدة من مسؤولين وإعلاميين ومهتمين، وهو أمر متوقع لأن قضية أرشيف السينما جرح نازف منذ أكثر من نصف قرن.

وقبل أن انتقل إلى فقرة جديدة عن مشاكل الأرشيف ينبغي أولا توضيح بعض الحقائق والتفاصيل حول ما ذكر في المقال السابق وحول الأرشيف بشكل عام.

**

عندما بدأ الاهتمام بعمل أرشيفات للسينما في منتصف أربعينيات القرن الماضي كان العمل يتكون أساسا من جمع النسخ النيجاتيف الأصلية أو النسخ البوزيتيف من الأفلام. وهناك فارق كبير بين الاثنين يعرفه معظم القراء: النسخة النيجاتيف هي الأصل الذي يتم منه طباعة النسخ البوزيتيف التي تعرض في دور العرض.

وكل من عايش كاميرات التصوير الفوتوغرافي القديمة (قبل ظهور الكاميرات الرقمية) يعرف أن النيجاتيف (أو “العفريتة” كما كان يطلق عليها. لأن الناس تبدو فيها مثل الأشباح والعفاريت!) ليست للمشاهدة ولكنها لطباعة نسخ المشاهدة. كما يعلم أن النسخ الورقية لا أهمية لها طالما النيجاتيف موجود. إذ يمكن طباعة نسخ أخرى بديلة وأن هذه النسخ عمرها محدود وحتى لو حفظتها في خزانة مغلقة فسوف تتلف بمرور الزمن. ولكن إذا ضاع أو تلف النيجاتيف نفسه فهذا لا يعني سوى أمرين: أن تنتقل الأهمية إلى النسخة البوزيتيف فتنال رعاية أكبر ويا حبذا لو تم تصويرها لعمل نسخة نيجاتيف أو رقمية.

في بداية تكوين الأرشيفات السينمائية لم يكن هذا الفارق واضحا كفاية. ولكن بمرور الوقت ازداد الوعي بالفارق بين الاثنين وطرق الحماية والحفظ التي ينبغي توفرها للنيجاتيف بشكل خاص. ومن هذه الفوارق مثلا أن النسخة النيجاتيف تحتوي على نترات فضة ومواد قابلة للاشتعال الذاتي. نترات الفضة أغرت الكثيرين ببيع الأفلام خردة، والاشتعال الذاتي قضى على حياة مئات الأفلام خلال نصف القرن الأول من عمر السينما.

**

في مصر بدأ الأرشيف بشكل تلقائي وغير مقصود من خلال معامل التحميض التي كانت تحتفظ بالنسخة النيجاتيف حتى يمكن لصاحب الفيلم أن يطبع منها نسخ بوزيتيف للعرض عندما يريد. والمعمل الرئيسي في مدينة السينما أصبح النواة الأولى لفكرة جمع الأفلام والحفاظ عليها. ولكن وسائل الحفظ كانت بدائية للغاية، ما أدى إلى ضياع وتلف أفلام كثيرة، بجانب أن بعض أصحاب الأفلام كانوا يفضلون الاحتفاظ بأصول أفلامهم في شركة الإنتاج أو البيت، ومعظم هذه الأفلام ضاع أو تلف مع مرور السنوات.

ما نطلق عليه “ثلاجة” السينما، أي توفير مكان بارد مناسب للحفظ مع فهرسة وتصنيفات واضحة لم يبدأ في مصر إلا في التسعينيات، مع إنشاء الثلاجة الأولى في مدينة السينما بالهرم.

وهناك فارق كبير بين هذه الثلاجة المخصصة للنيجاتيف وبين ما يطلق عليه “نسخ الإيداع” التي تحفظ في المركز القومي للسينما (على بعد أمتار من الثلاجة الرئيسية). فكرة “نسخ الإيداع” جاءت من “دار الكتب” التي ينبغي على أي ناشر أن يسجل فيها كتابه ويسلم بعض النسخ للحفظ.

**

ولكن الأفلام تختلف عن الكتب: الأفلام، خاصة النسخ البوزيتيف، عمرها قصير، تحتاج إلى ظروف تخزين معقدة وصعبة حتى تمد في عمرها. ولكن حتى مع الحفظ الجيد، تتراجع صلاحيتها بمرور الوقت.

أضف إلى ظروف التخزين السيئة أن معظم نسخ الإيداع التي كان المنتجون يقومون بتسليمها للمركز القومي للسينما هي نسخ مستهلكة. تم عرضها في عشرات من دور العرض الدرجة الأولى والثانية والثالثة. كما أن المركز كان يقوم بإرسال هذه النسخ للعرض في المهرجانات والأسابيع الثقافية بالخارج. والنتيجة أن معظم هذه النسخ لا تصلح حاليا للعرض، لكنها مفيدة في حالة واحدة هي عدم وجود النسخة الأصلية النيجاتيف أو تلفها. في هذه الحالة يمكن الاعتماد على نسخة بوزيتيف لعمل نسخة رقمية عمرها أفضل، ويمكن طباعة عدد لا يحصى منها.

ما حدث مع فيلم “أهل القمة” هو أن منتج الفيلم عبدالعظيم الزغبي باعه. ضمن أفلام أخرى، إلى محطة ART خلال تسعينيات القرن الماضي. عندما قامت المحطة بشراء عدد كبير من أصول السينما المصرية.

وقبل أن استكمل حكاية الفيلم ينبغي أيضا توضيح بعض الأمور هنا. كل من “ART” و”روتانا” و”الشركة العربية” قاموا بشراء عدد كبير جدا من أصول السينما (النيجاتيف وكل حقوق الاستغلال التجاري للأفلام). وقامت الدنيا أيامها خوفا على مصير هذه الأفلام ونوايا هذه المحطات.

والحق يقال إن الأجهزة السيادية في مصر استجابت سريعا ومنعت خروج أصول هذه الأفلام من مصر. وبالطبع لابد من وجود قانون (أو تنفيذ قانون موجود بالفعل) لاعتبار هذه الأفلام تراثا وطنيا لا يحق لأي كائن ما كان (حتى لو كان مالك الفيلم نفسه) من تدميره أو نقله خارج مصر. وبالفعل معظم هذه الأفلام تم إيداعها في ثلاجة حفظ الأفلام. ويوجد الآن ثلاجة خاصة بالـART وثلاجة خاصة بروتانا.

سعاد حسني في فيلم أهل القمة
سعاد حسني في فيلم أهل القمة
**

ولكن فيما يتعلق بفيلم “أهل القمة” حدث شيء غريب. فقد استطاع أحد ورثة المنتج أن يحصل على حكم بملكيته للفيلم (غالبا مع أفلام أخرى لا نعلم بالضبط أسمائها أو عددها). وذهب إلى الثلاجة وأخذ الفيلم (غالبا مع الأفلام الأخرى) ولا نعلم ماذا فعل به، لكن الرجل مات ومكان الفيلم مجهول الآن. وحتى ART مالكة الفيلم نظريا لا تملك منه الآن سوى نسخة سيئة عليها ترجمة هي التي تعرض على شاشاتها.

بقية نسخة الإيداع الموجودة في المركز القومي للسينما. وكما ذكرت تعاني هذه النسخ الأمرين وعشرات “الأمرات” الأخرى. وكثير منها تلف بفعل عوامل التعرية ومرور الزمن. و”أهل القمة” كان أحد هؤلاء الضحايا، فالنسخة البوزيتيف المحفوظة منه تلفت.

.. ولكن هل يعني ذلك أننا فقدنا الفيلم للأبد؟

يعلم المؤرخون والباحثون في مجال الأرشيف قاعدة مهمة جدا: ليس هناك شيء مفقود طالما أننا نبحث. وبما أن البحث لا يتوقف فلا يمكن أن نعتبر أن هناك شيئا فقد للأبد.

وخلال زيارة للأرشيف السينمائي منذ عدة سنوات أخبروني بالعديد من القصص عن أفلام تم العثور عليها بعد عقود من الاعتقاد بأنها فقدت. من بينها النسخة الكاملة لفيلم “متروبوليس” للمخرج فريتز لانج، الذي يعد من روائع السينما الصامتة الآن، والتي عثر على نسخة منه بالصدفة شخص ما في أمريكا اللاتينية.

لابد إذن من وجود الأرشيف أولا، وفريق من الباحثين ثانيا. وساعتها سنجد فيلما مفقودا كل يوم، بدلا من أن نفقد فيلما كل يوم.

وللحديث بقية

اقرأ أيضا

البحث عن الأرشيف الضائع (1): «أهل القمة».. تلف وضياع

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر