من الأدب الفرعوني| فرقتهما الزوجة وجمعهما القلب.. قصة «الأخوين»
من الأدب الفرعوني
تروي قصة الأخوين، أحد قطع الأدب الفرعوني المصري حكاية الأخوين، الأكبر “أنوبيس” والأصغر “باتا”، من نفس الأب والأم، كان أنوبيس متزوجا بينما أخوه الأصغر باتا يعيش في بيته، يقوم على خدمة أخيه الأكبر برعاية ماشيته وحرث وحصد أرضه، وبحسب سياق القصة فقد كان “باتا” شابا قويا يافعا، تربى في بيت أخيه الأكبر بعد موت والديه، وكان يعتبر زوجة أخيه أما له، فكان يمضي أغلب وقته في الحقل وإذا ما عاد جلس لتناول طعامه؛ ثم يذهب لينام مع الأبقار في الحظيرة.
تعال لنقض ساعة
من الادب الفرعوني – تمضي الحياة هانئة مستقرة بالأخوين.. وفي أحد أيام موسم البذر، يأمر أنوبيس أخاه باتا بأن يذهب إلى القرية ليحضر له بذورا.. فيذهب باتا إلى منزل أخيه ليجد زوجة أخيه جالسة تمشط شعرها. فيقول: “انهضي لكي تحضري لي بذورا من مخزن الغلال”. فتقول له: “اذهب وخذ ما شئت واتركني لكي أمشط شعري”. فيذهب الفتى إلى مخزن الغلال ويخرج حاملا – فوق كتفه – خمسة أجولة محملة بالقمح والشعير. فتقول له الزوجة: أنك تملك قوة عظيمة وأني أرى قوة رجولتك كل يوم.. تعال كي نقض ساعة سعيدة معا، وأمسكت به وحاولت دفعه إلى داخل المنزل”.
إنك لي مثل أمي
من الأدب الفرعوني – ينفض الفتى كفهد صعيدي ويدفعها ويخلص نفسه منها قائلا: “انظري إنك لي مثل أمي، ورجلك هو مثل أبي وقد رباني، فما هذه الخسة الدنيئة التي تفوهت بها؟ فلا تقوليها لي ثانية وأنا لن أذكرها لأحد”، ورفع حمله ومضى، لكن زوجة الأخ وقد استبد بها الخوف، خشيت أن يفضح أمرها لزوجها، فدبرت أمرا.
وحين عاد أنوبيس إلى منزله، وجد زوجته وقد تظاهرت وأنها ضربت وحين سألها زوجها اخبرته باكية أنها ضربت بواسطة أخاه الأصغر باتا حين دافعت عن نفسها ورفضت الانصياع لمراودته لها عن نفسها، وراحت تحرض أنوبيس على قتله، مؤكدة أنه لو بقى على قيد الحياة لماتت هي، وهنا استبد الغضب بأنوبيس، الذي لاذ برمحه وراح يسنه استعدادًا لقتل أخيه، واختبأ خلف باب الحظيرة حتى يفاجئه بطعنة قاتلة.
وفاء البقر
يعود باتا كعادته محملا بصنوف العشب قائدًا أبقاره إلى داخل الحظيرة، فتدخل أولى الأبقار، لتقول لراعيها: “احذر، أخوك الأكبر واقف بالباب برمحه ليقتلك، فاهرب، وتدخل الثانية فتقول نفس الشيء، فنظر أسفل باب الحظيرة فلمح قدمي أخاه الأكبر، فألقى ما يحمله ولاذ بالفرار، فجرى خلفه أخوه الأكبر شاهرا رمحه، فتضرع الأخ الأصغر المظلوم إلى الإله رع حور أختي قائلا: “سيدي، أنك أنت الذي يفصل بين الحق والباطل”.
بحيرة التماسيح
يسمع الإله استغاثة باتا، فيخلق بحيرة عظيمة مكتظة بالتماسيح بينهما، فيصبح كل منهما واقف على ضفة، يضرب الأخ الأكبر كفا بكف لعجزه عن قتل أخيه، بينما الأخ الأصغر من الناحية الأخرى يقول: “لتبق حيث أنت، حتى ينبلج الصباح، وغدا اختصمك لدى الإله رع، وسوف يسلم هو الظالم للبرئ، حقا، لن أعيش معك ثانية في نفس المكان إني ماض إلى وادي الأرز”.
دفاع
من الأدب الفرعوني – ومع أول شروق، يقف الفتى مدافعا عن نفسه قائلا: “لماذا تسعى خلفي لتقتلني بالباطل دون أن أدافع عن نفسي؟، هي راودتني عن نفسي حين ذهبت لإحضار البذور، والآن جعلت الأمر أمامك على نقيضه”، ثم أقسم بحياة رع حور أختي: “أحقا جئت لقتلي برمحك من أجل امرأة وضيعة”، ثم قطع ذكره وألقى به إلى الماء، فابتلعته سمكة، فأصبح سقيما تعسا، فأشفق عليه أخوه الأكبر وبكى ولكنه لم يستطع العبور إليه بسبب التماسيح”.
سأعلق قلبي على شجرة
قال الأخ الأصغر إنه ماض إلى وادي الأرز، وقال لأخيه: “عد إلى دارك واهتم بنفسك وبماشيتك، وسوف آخذ قلبي وأعلقه على برعم شجرة أرز، فإذا قطعت الشجرة وهوى قلبي فتعال لتبحث عنه فإذا وجدته فضعه في الماء الطازج، حينها سوف أسترد حياتي، لأنتقم ممن ألحقوا بي الأذى، وسوف تعرف أن مكروها قد أصابني إذا ما قدم إليك قدح من الجعة ففاض، فلا تتوانى، وهذا ما سيحدث يقينا”، ثم مضى إلى وادي الأرز، بينما عاد الأخ الأكبر إلى داره حزينا، فقتل زوجته وجلس يبكي أخاه”.
هبة الآلهة
وصل باتا إلى وادي الارز وهناك اختار شجرة أرز عظيمة فعلق قلبه في أحد براعمها، وعاش على الصيد في البرية ثم عاد لينام تحت الشجرة، وفي أحد الأيام جاءت آلهة التاسوع إليه وقررت مكافأته وتعويضه عما أصابه من ظلم، وأخبرته أن أنوبيس قتل زوجته الخائنة، وقررت الآلهة أن تهبه زوجة إلهية، فيصنعها الإله خنوم على عجلته الفخارية وينفخ فيها الإله رع الحياة، فتستوي امرأة بارعة الحسن والجمال، وتحضرها الحاتحورات السبع لتقرير مصيرها فيقلن: “سوف تلقى موتا عنيفا”.
باتا وزوجته
يهيم باتا عشقا بزوجته، ويبوح بسره إليها ويخشى عليها من مصيرها المحتوم.. فيأمرها ألا تغادر المنزل أبدا. وفي أحد الأيام خالفت زوجها وذهبت للتنزه بجوار البحر.. فحاول البحر اختطافها. فذهبت مسرعة إلى دارها.. فنادى البحر على شجرة أرز: “أمسكي بها”. فأخذت الشجرة خصلة من شعرها فحملها البحر إلى مصر.. وتركها حيث تغسل ثياب الفرعون، فاختلط شذى عطرها بثياب الملك. ونشب شجار بين غاسلي الثياب حول مصدر ذلك العطر.. وصار شجار كل يوم، فمضى رئيس الغسالين.
ووقف بجوار الشاطئ فلمح خصلة الشعر وأدرك أنها مصدر العطر.. فأرسل في إحضارها من الماء.. وأحضرها إلى الفرعون، الذي احتار في أمرها.. فأحضر إليه العرافون، فأخبروه أنها خصلة شعر ابنة الإله رع حور أختي المباركة من الأرباب، وأنها تحية لك من بلد آخر “وادي الأرز”، فأرسل الفرعون الجنود لإحضارها، لكن قتلهم باتا جميعهم إلا واحدا أبقاه ليحكي ما حدث مع الآخرين، وعاود الملك الكرة ولكن أرسل مع الجنود امرآة حكيمة محملة بالهدايا، فنجحت في إقناع زوجة باتا في الذهاب إلى مصر، وشغف الملك فيها حبا لتصبح سيدة الحريم ثم زوجته الملكية.
اقطعوا الشجرة
من الأدب الفرعوني – تخشى زوجة باتا من انتقامه، فتبوح بسره إلى الملك وتطلب منه أن يقطع شجرة الأرز التي تحمل قلب باتا، فيفعل، وفي نفس اللحظة التي قطعت فيها الشجرة يسقط باتا صريعا ويموت، وفي نفس التوقيت يقدم قدح من الجعة لأخيه أنوبيس فيفيض أمامه، فيعطى قدحا آخر من النبيذ فيفسد، فيدرك أنوبيس أن مكروها قد أصاب أخاه، فيحمل عصاه ويتوجه على الفور إلى وادي الأرز ليجد أخاه صريعا، ويذهب بحثا عن قلبه ويستغرق ثلاث سنوات دون جدوى، اخيرا وبعد أن يأس من البحث وقرر العودة، عثر على ثمرة احتوت قلب أخيه، فحملها إلى داره، وفعل مثلما أخبره أخاه ووضعها في إناء به ماء طازج، وجلس بجوارها.
الثور الذهبي
وفي الصباح كان القلب قد امتص الماء وعاد نابضا من جديد فارتعدت أوصال باتا، فأخذ الأخ الأكبر الإناء الذي به الماء وقلب أخيه ويسقيه له، فاستقر القلب في مكانه، وارتد باتا حيا، فيتعانقا ويتناجيا، ثم يخبر باتا أخاه بأنه سيتحول إلى ثور ذهبي عظيم، ويأمره أن يرتقي ظهره ويذهب إلى بلاط الفرعون، وسوف يكافأ بوزنه ذهبا، وبالفعل يتحول باتا إلى ثور ويذهب به أخوه إلى بلاط الفرعون والذي يفرح به فرحا كبيرا ويقرر مكافأة أنوبيس على تلك الأعجوبة بوزنه ذهبا، ويعود أنوبيس إلى قريته تاركا أخاه في القصر بعد أن صار ثورا.
أني ما زلت حيا
يتجول الثور بحرية في أرجاء القصر لأن الملك كان يحبه، وفي أحد المرات دخل خلف زوجة الملك وقال: “انظري، إني ما زلت حيا” فتقول له: “من أنت؟” فيرد أنا باتا، وأنت تعلمين أنك حين جعلت الفرعون يقطع شجرة الأرز، كان ذلك من أجلي، حتى لا أحيا”، فتصاب الزوجة بالذعر إزاء ما أخبرها به زوجها، وتنتهز إحدى الفرص بينما كانت تلاطف الملك لتنتزع منه قسما بأن ينفذ أي طلب لها، فتقول: ” فلتجعلني آكل كبد الثور، فهو عديم النفع.
دماء على باب الفرعون
وفي الصباح يحضر القصابون لذبح الثور، وبعد نحره وبينما هو محمول على الأعناق، يهز عنقه فتسل دماء على جانبي المدخل الكبير لقصر الفرعون، لينمو مكانهما شجرتي سنط كبيرتين، ويحتفل بهما كأعجوبة لجلالته، ويخرج الفرعون بعربته الملكية مصطحبا زوجته لزيارة الشجرتين، فيجلس هو تحت إحداهما بينما تجلس الزوجة تحت الأخرى.
أنا أحيا رغما عنك
تتحدث شجرة السنط إلى الزوجة قائلة: “أنا باتا أنا أحيا رغما عنك، أنت جعلت الفرعون يقطع شجرة الأرز من أجلي، فتحولت إلى ثور، فجعلتني أقتل ثانية، ومرة أخرى تستميل الزوجة الفرعون الموله بحبها وتطلب منه أن يقطع شجرتي السنط ليصنع منها أثاثا جميلا، وعلى الفور يرسل الفرعون عمالا مهرة ليقطعوا شجرتي السنط، وبينما كانت الزوجة تراقبهم تطير شظية إلى فم السيدة، فتبتلعها فتصير حبلى في الحال.
الفرعون باتا
تضع الزوجة مولودها الذكر، فيشغف الملك حبا به ويجعله ولي عهد النوبا ثم ولي عهد البلاد كلها، وبعد مرور سنوات يموت الملك ويرث الابن ( باتا ) العرش ويصبح هو الفرعون، وما أن اعتلى العرش حتى أمر بحضور جميع أعضاء البلاط ليقص عليهم حكايته، فتحضر إليه زوجته وتحاكم وتنال عقوبة القتل جزاءا لغدرها بزوجها وتنفيذا لقدرها، ويستدعي باتا أخاه الاكبر ويعينه وليا للعهد، ويمضي باتا 30 عاما حاكما للبلاد وبعد موته يخلفه أنوبيس.
نقد
قصة الأخوين تميزت بأسلوبها الدرامي في سرد الأحداث، لجذب أبصار العالم لغرابة أحداثها.. وتشابهها مع قصص وقعت في الزمن الحديث.. بحسب الدكتور سليم حسن في كتابه (الأدب المصري القديم). مشيرا إلى تردد صدى القصة في الأدب الفرنسي والإيطالي. وفي كل من ألمانيا وروسيا والمجر والنمسا ورومانيا واليونان.. مستشهدا بالقصة الروسية والتي تتطابق أحداثها مع أحداث القصة المصرية في كثير من أجزائها.. خصوصا في الجزء الذي يشير إلى خيانة الزوجة لزوجها.. والمساعدة في قتله وكيف عاد للحياة ليقتص من الزوجة الخائنة.
ويلمح حسن إلى أن القصة دونت في عصر الرعامسة (1300 ق.م).. ويصنفها على أنها شعر قصصي. وتتميز بالأحداث الخيالية والغريبة.. وهي إحدى سمات أسلوب القصة في عصر الدولة الحديثة (1570- 1070 ق.م).
قصة شعبية
وطبقا لعرض محمد أبو رحمة للقصة، فهي قصة شعبية من النوع المسلي.. وبخاصة في أوساط الرجال لتأكيدها على تفوق ذكاء الرجال على كيد النساء.
وبحسب أبو رحمه تتكون القصة من شقين؛ في كل شق نجد أن الحدث الدرامي هو خيانة الزوجة. فزوجة الأخ الأكبر في الشق الأول تراود الأخ الأصغر عن نفسه.. ولكنها لما أبى أن يخون أخاه الذي رباه صغيرا تكيد له عند أخيه.. وتقنعه أنه هو من خان، ليترك الأخ بيت أهله.. أما في الشق الثاني من القصة فيشير إلى غدر الزوجة حين أفشت للملك سر زوجها.. وكان ذلك سببا في موته.
ويقارن أبو رحمة القصة في شقها الأول بقصة سيدنا يوسف مع زوجة العزيز.. أما في الشق الثاني فيعتبره شبيها بقصة شمشون ودليلة.
وردت هذه القصة في بردية (أوربينية) بالمتحف البريطاني.. وترجمت عدة تراجم من أشهرها ترجمتي أرمان وماسبيرو، بحسب محمد أبو رحمة.
هوامش
1- الأدب المصري القديم (بي دي أف) – دكتور سليم حسن – مهرجان القراءة للجميع 2000- من ص 87 إلى 91.
2- حواديت فرعونية – محمد أبو رحمة – دار حابي للنشر والتوزيع 2005- من ص 120 إلى 132 و ص 250.