رمضان عبدالعليم: ضحية النيل والفرات والأمسيات الشعرية

رمضان عبدالعليم واحد من أشهر شعراء العامية في الصعيد، ومن أكثرهم حضورا في الأمسيات والمهرجانات الشعرية، وقد بنى تجربته على هذا الحضور. حيث التواصل الشفاهي بين الشاعر والجمهور، والشعور المباشر بمدى وصول رسالته، ودرجة تفاعل الناس معه.

وُلد رمضان عبدالعليم في أرمنت سنة 1954. وبدأ حياته الشعرية مبكرا، لكنه تأخر كثيرا في نشر أعماله الشعرية، حتى إذا جاء عام 1996، وجدناه ينشر ديوانين دفعة واحدة هما: “مشاوير عبدالصبور”، و”الفاتحة للنيل”.

لم يقم الشاعر بطبع أعمال أخرى حتى سنة 2009. ثم خرج علينا بثلاث مجموعات شعرية دفعة واحدة، هي: “عطش الفرات”، “الغيم الغريب”، “الصلاة على الأسرى”.

توقف الشاعر مرة أخرى عن طبع أعماله حتى سنة 2021. حيث أصدر مجموعته السادسة، “التّحيّاتُ للنّيل”.

مجرد وثيقة

موقف الشاعر من طبع أعماله يبدو غريبا، لأنه لا يبادر إلى طبع ديوانه بعد الانتهاء منه، بل يتركه مخطوطا وكأنه مجرد وثيقة. وقد تأخر كثيرا في طبع ديوانه الأول، والذي صدر ديوانه بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، وبعد أن صار معروفا في الحركة الشعرية.

لم يتأخر الشاعر في طبع أعماله عن عجز. لأن قدرته على النشر تظهر في طبع ثلاثة دواوين في سنة واحدة، ومجرد الدفع بتلك الأعمال مرة واحدة يدل على عدم تعويله على الطبع كوسيلة لانتشاره. بقدر ما يعوِّل عليه كتوثيق لتجربته، والتي تقوم بشكل أساسي على التواصل الشفاهي من خلال اللقاء المباشر بالجمهور في الأمسيات والجلسات الشعرية.

لقد وُلد شعر العامية من رحم الأداء الشفاهي. واعتمدَ على اللغة التي يتكلم بها الناس، لا اللغة التي يقرؤون ويكتبون بها. ورغم ظهور نظرة قوية تساوي بين شعر الفصحى والعامية من حيث جماليات الأداء كافة، إلا أن تجربة رمضان عبدالعليم تنحاز إلى تميز العامية بخصائص تجعل الأداء الشفاهي أساسيا. ونحن نشعر بذلك عندما نستمع إليه وهو يلقي قصيدته. ثم نعود ونقرأها، فنجد الأفضلية واضحة للقصيدة وهو يلقيها في حضور الجمهور.

انحيازه للشعر

انحياز الشاعر هنا يرتبط بانحيازه للشعر بوصفه خبزا للجميع. لا لنخبة مثقفة تجيد تذوق الشعر، وهو يبدع وفي حسبانه جمهور الشعر بالمعنى الواسع للكلمة، ويهتم بمخاطبة الأذن من خلال المحسنات البديعية مثل الجناس والسجع والطباق. كما يهتم بالدلالة التي تصل بسهولة ويبتعد عن التركيبات التي تتطلب التأمل وفك الشفرات، وأخيرا ـ ولعله أولاـ يهتم بالقضايا الكبرى أو الكوارث التي تهم الجميع.

النظرة السريعة لعناوين دواوينه تكشف عن الحضور المركزي للماء. وهو الرمز الأكثر عمومية للحياة، ويأتي النيل في المقدمة. حيث يظهر في ديوانه (الفاتحة للنيل) وديوانه (التحيات للنيل) ليعبر عن ارتباطه بالقضايا المصرية. كما يأتي ديوانه (عطش الفرات) ليعبر عن اتساع نطاق الجماعة التي ينشغل بأساسيات وجودها، وهي الجماعة العربية، ويظهر ذلك واضحا من خلال قصائده في أعماله كافة.

كل هذه الخصائص نجدها في ديوانه الأخير، والذي يؤكد حضور تجربة رمضان عبدالعليم باعتبارها بنت المخاطر الأساسية التي تهدد حياة العالم العربي. أو الحاجات الأولية التي تقوم عليها حياة الأفراد. ومن ثم فهي تضع في حسبانها الجمهور العام لا النخبة المثقفة، وتتسع لجروح تاريخية بعيدة وأخرى قريبة.

طول القصيدة

الاتساع على مستوى المكان والزمن والتأثير الكارثي. وعلى مستوى صورة الشاعر البطل. أو الحامي أو الحارس أو الشهيد. وعلى مستوى الجمهور المُخاطب. يرتبط بسمة نجدها في شعر رمضان عبدالعليم بشكل عام، وهي طول القصيدة. فالشاعر يحتاج إلى مضمار واسع كي يصول ويجول. وتوجد للشاعر قصائد قصيرة نسبيا، لكننا نجد في كل ديوان قصيدة طويلة تشكل صلب الديوان. وهي التي يقوم بإلقائها عادة في الأمسيات، ومنها الديوان الأخير حيث تشغل قصيدة (التحيات للنيل) أكثر من نصف مساحة الديوان، ويظهر فيها المدى الزمني الواسع لمحنة الشاعر:

ع الدوامْ

جاري ورا تعبي الهمامْ

ورا هربي العربي

من يوم “يزيد”…

ما أصبح إمامْ

ترتبط الكارثة بزمن (يزيد). لكن حضور النيل يتجاوز ذلك الزمن، وهكذا يتحرك الشاعر بين زمنين، زمن الكارثة الطارئ، وزمن المجد الأصيل. الأول يتجه مباشرة إلى ظهور الكيان الصهيوني، وضياع فلسطين، وتمتد جذوره إلى أمراض عربية كثيرة تبدأ باستشهاد الحسين وولاية يزيد. أما زمن المجد فيرجع إلى عصور أبعد تمتلئ برموز مضيئة شكلت أساس الحضارة الإنسانية. يقول مخاطبا نهر النيل:

أنتَ الصفحة والصفح

وسطور تستحيل المسحْ

وأعلى م الهرم بألف دورْ

يظهر النيل جماليا في هيئة مجازية تجسده في كيان حجري يتجاوز ناطحات السحاب. كما يظهر بوصفه صانع الهوية، والذي يقوم بتشكيل الملامح الخارجية والداخلية بداية من نحت الوجوه الصخرية، مرورا بخلق اللغة العذبة، وصولا إلى فنون التعامل مع الحياة. يقول مخاطبا نهر النيل:

عَلمتنا حِلو الكلَم
لما نتحدثْ
وإن نحيد نتلوثْ
علمتنا الصّبرْ
وإن عَلَى شكل الخُوف
المتأصِّل
المتوصِّل أعمار.. أعمار
كأنِّ قلبي متنصِّل
أو أحيانًا باتريث
علمتني التّحايل ….
وانتظار المايل يستقيمْ
كونك مُقِيمْ
وكونِي باعُود لكْ
من أيّ دَرب
عدَّتْ عَلَى شطوطك الآلهةْ
شوف كام رَبّْ
كام حُبّْ
واللِ خَلَقَك يِحمْيك
بدمايْ
أَنَا بيك بأعرفها سَمايْ.

في مقابل ظهور النيل كصانع للهوية يظهر دم الشاعر أو البطل أو الرمز النموذجي للجماعة بوصفه أداة الخالق لحماية النيل. وكثيرا ما تظهر صورة الدم في نصوص الشاعر. وكأننا أمام ضحية لا تكف عن الظهور. ضحية للنيل والفرات أيضا.

لا يرتبط الدم بالشهادة أو بالدفاع فقط. لكنه يرتبط أيضا بالكتابة، واليد التي تعيد رسم النيل، وتحديد وجهته واتجاهه بحيث يصب في كل ما يثري الحياة:

صُنْتْ ….. وصُمْتْ
إلاَ عَلى الصَمْت.. الضليعْ
فِي الكوارث …
كُنت حَارس عَلى عِينَك.. ودَمّك
طِينَك.. ورمْلَك
أشِيل هَمّك وأَنَا زاحفْ
ورفعتنِي يا نيل …..
ندّ النّخيل
وكافأتنِي عَلى المشقّة
وأَنَا ياما فردْتَك فِ المَدَى
ورَسمْتَك عَلِى وَرقَةْ
عدلتَك فِ اتّجاه الفجر
ولملمتنِي دم.. ولملمتَك
حَبات فِ كفوفِي.
في شعر رمضان عبدالعليم تظهر دائما تلك المراوحة بين زمنين أحدهما كارثي والآخر مثالي نموذجي. وتظهر تلك المراوحة بشكل قوي في رمزية النجع الصعيدي المثالي، ورمزية المدينة الكارثية. وهو في ظل تلك المراوحة يعتمد على تراث محلي/ صعيدي وعربي تتعدد مظاهر توظيفه للكشف عن تجليات عشقه لهويته، وانفعاله بجروحها وآلامها، ومحاولات خلق قصيدة تجسد نظرته للشعر والشاعر:
والسّياط المشروعةْ…
وحروفِي المنزوعةْ…
من لحمِي
لَا أعرِفْ.. غير أحمِي

اللحم الحي هو مصدر الحرف الوحيد، والإبداع نزعٌ لا رفاهية فيه. والشاعر حارس الهوية الذي يواجه السياط طول الوقت.

تلك باختصار خلاصة تجربة رمضان عبدالعليم. الشاعر الذي ربط حضوره بالأمسيات الشعرية. فكانت مكانته في الصعيد أكبر من مكانته في أي مكان سواه. لأنه كان مقيما في أرمنت بشكل دائم. وهو ما أتاح له المشاركة في الفعاليات الشعرية القليلة التي كانت تُقام في الدائرة القريبة بشكل أساسي. ولأن أعماله المطبوعة تأخرت، ولم تجد ما تستحقه من الاهتمام الإعلامي أو النقدي. ولم تظهر مشاركاته في الفعاليات الشعرية خارج الصعيد إلى في مناسبات نادرة جدا، ولم تكن كافية لوضع تجربته في مكانها الطبيعي بين أبناء جيله.

هل كان شاعرنا ضحية لعطش النيل والفرات والأمسيات الشعرية أيضا؟

اقرأ أيضا

حمدي منصور: الشبح الودود وعطاء الصمت العجيب

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر