فتحي حافظ الحديدي.. حفيد الجبرتي «حافظ» ذاكرة القاهرة

«علما بأن دراسة التاريخ والوعي به تتطلب الرؤية والتأني»

                   «فتحي حافظ الحديدي».

في صمت رحل فتحي حافظ الحديدي، الاسم الذي يعرفه كل المشتغلين بالقاهرة وتاريخها وعمرانها. رحيل أثار صدمة إذ لم تهتم أي جهة بنبأ الوفاة الذي مر في صمت جليل. لكنه كاشف عن الاحتفاء بالأقزام في حين يرحل العمالقة حقا في هدوء. ففي محراب القاهرة وتاريخها أفنى الحديدي حياته وأنفق سنوات عمره بسخاء لإنتاج مجموعة من الكتب التي ستخلد اسمه في سجل مؤرخي المدينة الألفية.

يبدو أن القاهرة مدينة محظوظة إذ تلد كل فترة أحد مؤرخيها الذين يعملون على حفظ معالمها ورصد تطورها العمراني بدقة. ومن المقريزي إلى علي مبارك وصولا إلى الحديدي نجد سلسلة من الذهب لمؤرخين كبار أفنوا عمرهم في حياة مدينتهم التي أحبوها وكتبوا عنها.

رحل الحديدي بعد أسبوع من احتفال أسرته بعيد ميلاده السابع والثمانين. فهو من مواليد 11 يناير 1937، ورحل عن دنيانا في 19 يناير الجاري، تاركا خلفه كتابات شديدة العمق والدقة عن القاهرة، حفظت له مكانة فريدة بين مؤرخي القاهرة. فهو وإن كان يعد حفيدا للمؤرخ عبدالرحمن الجبرتي من جهة جدته لأبيه، فهو يشترك مع عمدة المؤرخين تقي الدين المقريزي، في مسيرة الإبداع. فكلاهما تخصص في التأريخ لمدينة القاهرة في سن متأخرة، فبدأ كل منهما في الكتابة عن المدينة وهو في العقد الخامس من العمر.

***

ترك لنا الحديدي خلفه أربعة كتب منشورة تعد من أهم الكتب المعنية بخطط القاهرة بصورة معاصرة. إذ رصد معالم الكثير من الأماكن في المدينة وتطورها العمراني بشكل تأسيسي. جعل كتبه مصادر من الدرجة الأولى لكل الباحثين في تاريخ العاصمة المصرية، وكانت بداية الغيث، كتاب (دراسات في مدينة القاهرة: منطقة قسمي الجمالية ومنشأة ناصر بين الماضي والحاضر) يناير 1982. ولكي نكتشف مدى إيمان الحديدي بمشروعه يجب أن نعرف أنه طبع هذا الكتاب على نفقته الخاصة.

ثم أصدر كتابه الثاني (الأصول التاريخية لمؤسسات الدولة والمرافق العامة بمدينة القاهرة) 2007. وهو كتاب على صغر حجمه إلا أنه يقدم مادة هائلة عن المقار الرئيسية لهذه المؤسسات العامة والمرافق. متتبعا تنقلها طوال العصر الحديث، والاستقصاء الذي يقدمه الحديدي في هذا الكتاب شيء يدعو للدهشة والإكبار. خصوصا إذا عرفنا أنه كان يبلغ من العمر لحظة صدور الكتاب سبعين سنة.

بعدها أصدر الحديدي كتابه (التطور العمراني لشوارع مدينة القاهرة من البدايات حتى القرن الحادي والعشرين) 2014. وهو أكبر كتبه وفيه يقدم مادة تاريخية غير مسبوقة في شمولها ودقتها عن شوارع المدينة. ثم خرجت الطبعة الثانية المزيدة من كتابه (دراسات في التطور العمراني لمدينة القاهرة) 2017. والذي يركز فيه على الميادين والكباري وجزيرة الزمالك، وهو يتكامل مع بقية كتبه السابقة.

هذا كل المتاح عن الحديدي؛ الذي لا نعرفه إلا من كتبه المهمة لكل باحث في تاريخ القاهرة وعمرانها وتفاصيلها الدقيقة. ولكل قارئ غير متخصص معني بمعرفة تفاصيل المدينة الألفية. وظلت شخصيته مجهولة تحتجب خلف هذه الدراسات التي ثبتت قدمه كأحد كبار مؤرخي المدينة من الدرجة الأولى فوضع في الصف الأول مع أسماء من حجم المقريزي وعلي مبارك ومحمد رمزي بلا جدال. وأصبح أحدث حبات اللؤلؤ الملفوف حول عنق القاهرة التي تباهي بهم جميعا بقية مدن العالم.

***

الحديدي الذي لا نعرف عنه الكثير، حاولنا أن نميط اللثام عن بعض تفاصيل حياته وبعض تفاصيل مسيرته العلمية، باللجوء إلى ابنه المهندس الإنشائي محمد فتحي حافظ الحديدي. الذي اختص “باب مصر” ببعض المعلومات النادرة عن والده عاشق القاهرة الكبير. وصاحب المؤلفات التي يستفيد منها كل قارئ في تاريخ القاهرة دون أن يعرف إلا أقل القليل عن الرجل الذي وهب عمره حرفيا لكتابة هذه المعلومات وجمعها وصياغتها في أعمال ستعيش طويلا. وحفظت له مكانة مرموقة في صفوف مؤرخي المدينة الكبار.

يقول الحديدي الابن: “والدي ولد وعاش في الجمالية، إذ ارتبط بهذا الحي الذي يشكل قلب القاهرة الفاطمية حتى النهاية. ورفض تماما أن يغادره حتى آخر يوم من عمره. وقبل وفاته أخبرني أنه أراد أن يدفن بجوار والدته في مدفنها بترب باب النصر، القريب جدا من حي الجمالية. وقد برر اختياره رغم دفن والده في مكان آخر، بأنه أراد أن يظل قريبا من الحي الذي عاش فيه حياته كلها، والمدينة التي أخلص لها وركز على جمع معلوماتها ووثقها ورصد تطورها العمراني. ورفض أن يكتب عن أي مكان آخر في مصر، إذ احترم التخصص وظل مخلصا له حتى النهاية؛ الكتابة عن التطور العمراني للقاهرة وأحيائها وشوارعها وميادينها ومؤسساتها ومرافقها العامة”.

***

وأشار المهندس محمد الحديدي، إلى أن والده ولد في 11 يناير 1937، وتفتحت عيناه على معالم حي الجمالية الغني بالمباني الآثرية التي تعود إلى الحقب الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية حتى العصر الحديث. فضلا عن وراثة حب التاريخ من جهة جده الأكبر عبد الرحمن الجبرتي. وبعد تخرجه في كلية الآداب بجامعة القاهرة، عمل بداية كمدرس جغرافيا. ثم ترك مهنة التدريس سريعا، ليلتحق بالعمل في الشركة المصرية لتجارة الأدوية. ولكي يتمكن من الترقية في السلك الوظيفي التحق بكلية التجارة حتى حصل على بكالوريوس التجارة من جامعة عين شمس. وهذه معلومة لا يعلمها الكثيرون عنه، وقد خرج على المعاش بدرجة مدير عام”.

ورغم المعلومات القليلة التي في حوزتنا، إلا أننا نستطيع أن نرسم صورة عامة لحياة العلامة الحديدي، مما ذكره ابنه وما ذكره الحديدي نفسه في بعض كتبه. فنحن نعرف أنه تخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة في خمسينيات القرن العشرين. وحصل على دبلوم عال في الدراسات التاريخية والجغرافية من معهد البحوث والدراسات العربية العالية. كما أنهى دورة لدراسة مخطوطات التراث العربي على نفقة المجلس الأعلى للثقافة قبل تاريخ نشره لأول كتبه في يناير 1982. وأجاد التحدث باللغتين الإنجليزية والفرنسية، بحسب معلومات ابنه.

***

ويكشف الحديدي الابن بعض التفاصيل عن أسرار جمع والده لهذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة عن عمران القاهرة ومعالمها. قائلا: “والدي تفرغ بعد سن الستين لشغفه الحقيقي في البحث عن تفاصيل القاهرة، وتدقيق المعلومات المتعلقة بها، لذا تأخر في إصدار الكتب الخاصة به. ورأينا منه دأبا وصبرا وتنظيما لجمع مادته بصورة مدهشة، فمثلا اعتاد الذهاب إلى دار الكتب؛ وخصوصا قاعة الدوريات بشكل يومي. للاطلاع على الصحف والمجلات القديمة وجمع كل المادة المتاحة فيها عن مؤسسات وشوارع المدينة. لدرجة أنه أصبح صديقا لمعظم موظفي الدار الذين اعتادوا على وجوده. بل عملوا على ترشيح اسمه للباحثين المترددين على الدار لمساعدتهم في أبحاثهم”. وقد أشار الحديدي غير مرة إلى اطلاعه على محفوظات وزارة الأشغال العمومية بدار الوثائق ومراجعة مجلدات الدوريات بدار الكتب.

وفضل الحديدي -بحسب ابنه- دوما كتابة كتبه بخط اليد، وعندما قدم كتابه الأول للنشر كان مخطوطا. ولما أراد تحويله إلى صيغة الطباعة على الآلة الكاتبة، اضطلع هو بهذه المهمة خوفا من ضياع النسخة المخطوطة. أو أن لا تعتني العاملة على الآلة بنص الكتاب فتتسرب إليه الأخطاء. ما يكشف عن مدى دقته وحرصه على أن تخرج كتاباته بلا أخطاء مطبعية، لإداركه العميق بخطورة ما يكتب، وضرورة أن يتوثق من كل معلومة يوردها في كتبه. الأمر الذي جعل كل ما يكتبه محل ثقة وتقدير من المهتمين بتاريخ القاهرة وعمرانها. وحول اسمه إلى علامة على الثقة في كل ما يورد في كتبه من معلومات. إذ تجلت قدرة الحديدي على استيعاب المادة الأرشيفية والوثائقية الهائلة التي وقعت تحت يديه، واستطاع أن يقدمها في شكل واضح وسلس مدعم بصور نادرة.

مع الدكتور أحمد علي جابر
مع الدكتور أحمد علي جابر
***

أما عن علاقة الحديدي بالمؤرخ الشهير عبدالرحمن بن حسن الجبرتي، صاحب (عجائب الآثار  في التراجم والأخبار). فنحن نعرفها بشكل موثق من خلال حوار صحافي أجراه الحديدي مع مجلة (الهلال) الثقافية، في عدد خصص لذكرى الجبرتي وصدر في يونيو 1974. وأجرى الحوار الصحافي عاطف مصطفى، والذي عنونه بـ”لقاء مع واحد من أحفاد الجبرتي”. في إشارة إلى فتحي حافظ أحمد الحديدي، الذي كشف عن علاقته بالجبرتي المؤرخ. إذ أن والده حافظ هو ابن نفوسة بنت خليل خيري بن محمد بن خليل بن عبدالرحمن الجبرتي، أي أن الحديدي هو حفيد الجبرتي من جهة أم والده.

نلاحظ هنا أن الحديدي في حواره مع (الهلال) ركز حديثه بطبيعة الحال على الجبرتي. لذا لا نظفر بالكثير من المعلومات حول حياته الشخصية أو أي معلومات عنه. ولم يكن وقتها قد نشر أي من كتبه المهمة بعد. فأول كتبه عن الجمالية ومنشأة ناصر سيظهر للوجود بعد ذلك الحوار بنحو ثمانية أعوام. لكننا نستطيع أن نشتم رائحة المعرفة التي تناسب من تصريحات الحديدي. الذي يقدم معرفة تاريخية دقيقة في نقده وتتبعه لطبعات كتب الجبرتي المختلفة. كما نلاحظ اهتمامه الواضح بتحديد الأماكن عند حديثه عن موقع قبر الجبرتي المؤرخ ووالده الفلكي الكبير حسن الجبرتي. إذ يحدده الحديدي في بستان العلماء بالمجاورين.

***

الجميل في الأمر أن الابن محمد الحديدي على وعي كامل بقيمة منجز والده، ويسعى للحفاظ عليه. لذا يعد كل محبي الحديدي والعارفين بقيمة تراثه، بالعمل على البحث في أوراقه والتأكد من وجود أعمال قابلة للنشر. فضلا عن البحث عن أصول الأعمال التي سبق وأن صرح الوالد بالانتهاء منها وأنها جاهزة للنشر. وهو أمر يثير الاطمئنان في نفوس المهتمين بتراث الحديدي. فوجود وريث مهتم ويفهم قيمة ما تركه باحث بقيمة فتحي الحديدي يغلق الباب أمام فرص تبديد هذا التراث الذي نرى أنه يستحق النشر والإشادة والبحث عن ما تبقى منه.

لذا نطلق النداء مع كل محبيّ الحديدي وأعماله التاريخية، ونتوجه به إلى وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة. لإنقاذ تراث فتحي الحديدي من الضياع في أروقة المجلس وأدراجه المنسية. فكما أخبرنا الحديدي في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (دراسات في التطور العمراني لمدينة القاهرة) والصادرة في 2017. أنه أودع كتابيه عن (تاريخ حي الظاهر والسكاكيني)، و(تاريخ حي جاردن سيتي) بطرف المجلس الأعلى للثقافة، بنية نشرهما. أي أنه انتهى من كتابتهما بالفعل، ومراجعتهما وتقدم بهما للمجلس الأعلى وأنه تم استلامهما منه!

لكن لم يصدر أي من الكتابين على الرغم من طول الفترة الزمنية منذ إعلان الحديدي عن تسليمهما إلى المجلس الأعلى للثقافة، وحتى يوم الناس هذا. أي أننا نتحدث عن سبع سنوات كاملة من غياب أي خبر عن نية نشر الكتابين! ولم تظهر أي معلومات عن قرب نشر أي من الكتابين حتى الآن. وهو أمر غريب من المجلس الأعلى للثقافة الذي يفترض أنه منصة معنية بحماية ورعاية تراث الأمة لا تبديده. لذا يجب على جميع المهتمين بتاريخ القاهرة وتراث الحديدي البحث في محفوظات المجلس الأعلى للثقافة عن أصول الكتابين. والدفع بهما للنشر فورًا باعتبار ذلك أقل تكريم ممكن لذكرى الحديدي وجهوده الجبارة في إنقاذ ذاكرة القاهرة.

اقرأ أيضا:

سليم حسن.. التاريخ في خدمة مشروع «الأمة»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر