قبل ثورة يوليو: كيف بدأت المصايف وتحولاتها في الإسكندرية؟
حتى النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن يعرف الغالبية العظمى من المصريين فعل “التصييف” أو المصايف، على الرغم من كثرة الحديث والكتابة عن التصييف في الجرائد قبل ثورة يوليو وعما فعلته الإسكندرية لاستقبال المصيفين مرة وتوديعهم مرة.
كانت هذه الأخبار تنشر تحت بند “أخبار المجتمع”، لكن في الحقيقة لم يكن المجتمع الذي يتحدثون عنه سوى نسبة قدرها جمال عبدالناصر مرة بنسبة النصف في المائة. كانت فكرة الذهاب للبحر بعيدة فكريا واقتصاديا.
ومعظم الفلاحين كانوا لا يفارقون قراهم البعيدة عن البحر بمقياس هذا الزمن. لكن في المقابل يرمون أنفسهم في شاطئ النيل وفروعه وهذه في الواقع ما كان يعنيه لفظة “البحر” عندهم. أما البحر الحقيقي فقد كان اسمه الشائع “المالح” هذه التسمية تعكس كم المسافة والرهبة الموجودة بين عموم المصريين والبحر.
ظل فعل التصييف مقتصرا على طبقة معينة جدا من المجتمع المصري. جزء صغير منها يسافر لأوروبا، والجزء الآخر يذهب للإسكندرية بحكم احتكاكه مع الأجانب.
كورنيش وحمامات وأجانب
قبل أن يتم إنشاء الكورنيش على طول الساحل. أخذ الأجانب على عاتقهم دخول فكرة “المصيف” إلى مصر ليتمتعوا مع الطبقة الثرية بالبحر ولتوكيد علاقات العمل التي بدأت تزدهر في الإسكندرية. كانت الشواطئ قبل إنشاء الكورنيش عبارة عن كبائن خشبية مقامة على أعمدة خشبية داخل ساحل البحر تتصل برمال الشاطئ عن طريق كباري خشبية تجلب لها الماء داخل ما يشبه الآن حمامات السباحة. وعرف هذا النظام وقتها باسم “حمامات البحر”.
وكان من أشهرها حمام البحر بالمنشية. وحمام سانتي بالميناء الشرقية. وحمامات الشاطبي. وحمامات الرمل للخواجة ماروني، والخواجة من وزارتي، وحمامات كليوباترا، التي أقامها التاجر اليوناني “جورج زورو” عضو المجلس البلدي. لم يبق منها سوى محطة ترام بنفس الاسم “كليوباترا حمامات”.
في كتابه “إسكندرية دليل وتاريخ” يقول فورستر: “في عام 1814 وصف الرحالة الإنجليزي “برامسِن” منطقة المنشية بـ”الميدان الكبير قرب البحر متسع. لقد تم تحسينه وتغطيته بالحصَى بواسطة الأوروبيين الذين جاءوا إلى هنا يتنفسوا نسائم البحر.
بعد إنشاء طريق الكورنيش سنة 1934، الممتد من قصر المنتزه في الشرق إلى قصر رأس التين في الغرب. أدى ذلك إلى عمران جهة “الرمل” بدرجة أكبر؟ مما ترتب عليه إضافة حيز عمراني جديد إلى الإسكندرية وتوسعها بشكل طولي مع ساحل البحر. بعد أن كان التوسع يتم في الداخل بمحاذاة ضفتي قناة المحمودية عبر العصور”.
الإسكندرية مصيفا
من هذه اللحظة صارت الإسكندرية مصيفا. لأن الحكومة وضعت مشروعا لجعل مدينة الإسكندرية مصيفا عالميا. فبدلا من الكبائن والحمامات الخشبية التي كانت تتلف بسرعة بسبب النوات في الشتاء، أعدت البلدية مشروعا لإنشاء حمامات بالخرسانة المسلحة. وتمركزت هذه الحمامات في شواطئ معدة وممهدة لذلك مثل مناطق ستانلي وجليم وسيدي بشر.
ولأن الحكومة نفسها كانت تصيف في الإسكندرية، ففي عهد “سعيد باشا ذو الفقار” رئيس النظار/الوزراء، تم شراء مقر الوزارة في منطقة “بولكلي” ليصبح مقرا لاجتماعات مجلس النظار خلال فترة الصيف.
ومن بين هذه الشواطئ القليلة اشتهر بشكل خاص في مدينة الإسكندرية شاطئ “ميامي”. إذ يرى “جلال أمين” في كتابه “ماذا حدث للمصريين”، أن اختيار اسم “ميامي” مناسبا لهذه الطبقة الراقية، وأن اختيار هذا الشاطئ الذي يقوم على بُعد مناسب منه جزيرة تحميه من الأمواج العالية وبناء فيلات صغيرة تطل عليه، بالإضافة لرسم دخول “ثلاثة قروش” كانت تحمي هذه الطبقة من أي ملاحقة أو مضايقة يمكن أن تصدر من طبقات الشعب الأخرى.
التحرك لرأس البر
في عام 1823 بدأ احتفال بعض الصوفيين بمولد “الشيخ الجربي” بعد تحرك الضريح من شمال رأس البحر، حيث طابية الشيخ يوسف إلى الجنوب. هذا المكان كان محوري، ذلك أن المراكب الشراعية الكبيرة القادمة من الشام تأتي محملة بالبضائع وتستقر في هذه النقطة، فيما يرسل كبار التجار مراكب شراعية أصغر لتفريغ الحمولة. كما أن في هذه النقطة تنشط رياضة صيد الأسماك والطيور.
من هنا جاءت فكرة بناء العشش من نبات البوص، اعتاد أعيان دمياط المكوث هناك في الصيف، وبدأ يوفد إلى رأس البر عدد من الناس للاستمتاع بالطبيعة الهادئة. وبعد أن أنشأ الفرنسيان السيد بكلان والسيدة كورتيل مطعما وبارا وفندقا ـ أصبحت جاذبة للمصطافين، لكن هذا لم يكن يكفي لسحب البساط من مدينة الإسكندرية. إنما كانت الحرب العالمية الأولى، دافعا للطبقة الارستقراطية المصرية اكتشاف وارتياد مصايف أخرى. بعد أن أصبحت الإسكندرية مستشفى عسكري كبير. فكانت رأس البر هي الملجأ الوحيد للاصطياف وتكرر الأمر مع الحرب العالمية الثانية. حتى أصبحت مصيف الصفوة.
بداية جديدة وهمية
بمجرد قيام الثورة، الحواجز العالية التي كانت تمنع طبقات الشعب أن تدخل للشواطئ وتستمع بها كسرت. إذ تم إلغاء رسم الثلاثة قروش في شاطئ ميامي مثلا، وكان ذلك كافيا لانهمار الجميع ليروا ما سمعوا عنه، حاملين البوابير والحلل والملايات لقضاء اليوم وكل يوم على الشاطئ.
لكن الثورة أيضا أنتجت طبقتها الراقية وبدأت في تعمير مكان يحمل طابعا ريفيا، بأشجار الجوافة والمانجو والخضرة الممتدة في كل مكان ليصبح مناسب لثقافتهم عن الشاطئ التي بدأت لتوها.أصبح هذا المكان يحمل اسم “المعمورة”.
كانت الأبواب في البداية مفتوحة للجميع، لكن سرعان ما شعرت الطبقة الراقية الجديدة أنها تحتاج لحماية والتلذذ بالامتيازات الجديدة. مرة أخرى تفرض الرسوم، وبدأت فكرة “التأجير” سواء تأجير شاليه أو شقة أو فيلا في المعمورة. مرة أخرى يعود الحال لما قبل الثورة، حتى في المنتزه التي سمح لأول مرة بعد الثورة للناس بدخولها بل وبمشاهدة ملابس الملك فاروق وحاجيته قبل الفرار. ولكن بعد فترة خصصت الحكومة لعامة الشعب شاطئ صغير، واحتلت الطبقة الراقية الجديدة باقي الشواطئ.
التغيير الذي حدث بسبب الثورة هو أن الشواطئ أصبحت بأسماء أكثر وطنية أو عربية بدلا من ستانلي باي وميامي وجليم ونوبولو، أصبح اسم “عايدة”، “صلاح الدين”، “فندق فلسطين” أو أسماء فرعونية مثل “سميراميس” “كليوباترا”، لكن هذا لم يفتح أي طرق جديدة للأفراد العاديين بالاستمتاع.
كيف بدأ الساحل الشرير
كل هذه التغيرات سببت الذعر “للطبقة الراقية القديمة”. كان الحل هو الهروب والبحث عن شواطئ جديدة. لم تكن الشواطئ التي تخص الطبقة الراقية الجديدة مناسبة لهم، ولعاداتهم وأسلوبهم في الاستمتاع.
بدأ الأمر باختيار منطقة “العجمي” التي كانت صحراء لا يوجد بها خدمات أو كازينوهات أو فنادق ضخمة، إنما كانت تملك القدرة على احتواء هذا الهروب، بوضع أسياج من الحبال حول الشواطئ واحتوائها على أخر الأجانب الراقيين الذين دشنوا شواطئ مناسبة لعادتهم مثل “بيانكي وبليس وهانوفيل”، لأن كل ما كانوا يحتاجونه هو الهدوء.
لكن سرعان ما زحف المصطافون الجدد على القدامى وعمروا العجمي بشكل يناسبهم. ظلت “الطبقة الراقية القديمة” تلفظ أنفاسها ببطء حتى ظهرت في الأفق سياسة الانفتاح التي بدورها أتت بـ”ويمبي” إلى العجمي قرب مدخل شاطئ بيانكي، وأتت أيضا بمصطافين من طبقة وثقافة أخرى ليزاحموا الطبقة القديمة، التي بدأ اختفائها والجديدة المرتبكة.
هذه الطبقة لم تعجب بالعجمي أو المعمورة أو المنتزه، لم تكن أماكن مناسبة لما شاقوه في الغربة. بل أرادوا أكثر من ذلك، أماكن وبيوت تشبه ما رأوه في الخارج، مع احتفاظهم بشعور “الانعزال”.
في كتابه “ماذا حدث للمصريين”، يخبرنا جلال أمين: “أن هذه الفئة بدأت الثروة تتراكم في يدها بسبب الهجرة لبلاد النفط في السبعينيات، وعندما عادت وجدت كل الأماكن محجوزة. وقد نفذت قدرتها على الاستيعاب. ذلك لأن طبيعة هؤلاء المصطافين الجدد تختلف تماما عن طبيعة المصطافين القدامى فثروة هؤلاء لا تأتي من الزراعة ولا من الوظيفة الحكومية الكبيرة، إنما تأتي من الاستثمار لذلك هم دائما في حالة حركة وتغيير وبيع وشراء.
فلجأت إلى تعمير الساحل الشمالي غربي العجمي. ببناء قرية بعد قرية وهي في الواقع أبعد شيء عن القرية. لا هي منتجة ولا خضراء..
طريق طويل من أجل لحظة هدوء
الآن أصبح الساحل ينقسم لقسم طيب وقسم شرير، كلما اقتربنا من مرسى مطروح كلما اقتربنا من هذا “الشر”، والشر هنا يستخدم فيوصف المصيف المقيد بشروط تخص الوجاهة وحكم الممتلكات التي بحوزتك.
ذلك أنه لا يكفي أن تملك القدرة على دفع رسوم الدخول كما في السابق. إنما يجب وبشكل أولى أن يعجب مظهرك أفراد الأمن. بعض الناس بدأت تتجه لأماكن بعيدة عن هذا الصخب والشروط مثل رأس سدر ودهب ونويبع.
المسافة المقطوعة من القاهرة إلى أي مكان منهم أحيانا يكسر العشر ساعات. تتميز هذه الأماكن إنها متحررة من معظم القيود التي يفرضها الساحل الشمالي أو تمنعها مدينة الإسكندرية مثل الملابس المحتشمة أو عدم دخول غير الملابس المكشوفة. وبشكل خاص رخص أسعار الإيجار والمأكل ودخول الشواطئ.
بدأ المستثمرون يلتفتون لهذه الأماكن. وبدأت تتغير ببطء بمرور كل عام. لكنها مازلت الملاذ الأفضل لأي شخص يود أن يستمتع بالبحر والهدوء وألا يصرف تحويشة عمره هناك.
دائرة المصيف المفرغة
يرى البعض أن التحولات الاجتماعية والطبقية التي تظهر من خلال تتبع تاريخ “التصييف” أصبحت حادة وعنيفة في نبذها أو اختيارها لطبقة دون الأخرى.
لكن في الحقيقة الدائرة تبدأ من جديد مثلما بدأت في “شاطئ ميامي” برسم دخول ثلاثة قروش في أواخر الثلاثينات. ثم انتهت على حدود “العجمي”، ثم عادت لتبدأ من جديد في “مارينا” برسم دخول عشرة جنيهات في التسعينيات..
يلفت نظرنا “جلال أمين” إلى أنه حتى استخدام أسماء أجنبية عاد مرة أخرى. وأن الفرق الوحيد هو أن الطبقة الثرية القديمة كانت تعرف لأن ثروتها قادمة من الفلاحين المصريين سواء اعترفوا بذلك أو لم يعترفوا. إنما ثروة الطبقة الراقية الحالية، قادمة من الأجانب لذلك هي لا تريد أي شيء سوى هؤلاء وتنظر لباقي الطبقات على أن لا مبرر لوجودهم، بل أنهم مصدر زحام ومضايقة.
المراجع
كتاب ماذا حدث للمصريين- جلال أمين.
كتاب إسكندرية تاريخ ودليل- أ.م. فورستر.
ذاكرة مصر/ مجلة ربع سنوية- المصيف روايات التاريخ وتحولات المجتمع.