ما جرى في منزل حمامة عنتر

توطئة

في صباي أو في قاعة الدرس طرح علينا مدرسنا سؤالا مفاده “الأمنية الموعودة”. عبرت عن أمنيتي بأن أصبح “سائق قطار”. ضجت القاعة بالضحك سخرية أو دهشة غير أنى لم أعبأ حينذاك كانت إطلالة بيت جدي على مخازن قطارات القباري، ووقتها أيضا صرت صاحبا للقطار. حيث اصطحبني أبي في قطار الصعيد في زياراته العديدة لأسلافنا في الصعيد الجواني.

(1)

في خطاب موصى عليه أخطرت بلدية الإسكندرية – قسم الهندسة –البرشمجي بورش جبل الزيتون –القباري– سكك حديد مصر الأسطى حمامة عنتر. برغبتها الاستيلاء على ملكيته لقطعة الأرض الكائنة بناحية عرفان باشا بكرموز لغرض إقامة مخبأ ضد الغارات الجوية. فالوقت وقت حرب وأفادت بلدية الإسكندرية أنها سترد الأرض ثانية وقت عدم احتياجها للمخابئ.

سكن الأسطى عنتر بالمنزل 13 شارع الزمزمي راغب باشا بالإسكندرية. وفي العام 1941 غادر المنزل إلى دمنهور مثلما هجره باقي السكان. وانتقل بجوار سيدي عمر في شارع الأمير فاروق. ويبعث لحضرة صاحب العزة مدير شركة المياه بالإسكندرية راجيا قطع المياه لخلو المنزل من السكان. ويبلغه في خطاب آخر بمد المياه لأن سكان الطابق الثالث سيأتون ثانية في بداية الشهر الحالي.

(2)

وفي استغاثة أخرى يكتب حمامة عنتر إلى صاحب السعادة مدير بلدية الإسكندرية إثر ما أحدثته الغارات الجوية من تدمير وتخريب شمل العديد من منازل شارع الزمزمي. حيث تصدع منزل حمامة عنتر من جهات عدة، وأفضى ذلك إلى رحيل السكان وأن رحيله وشيك ويعلن عن مطلبه بإيفاد أحد المهندسين لتقدير جسامة الخطر.

وفي العام 1942 يبعث حمامة عنتر بخطاب إلى محمد فتحي بمحطة الإذاعة المصرية يرثى حاله. حيث إنه لديه أسرة كبيرة من زوجة وسبعة أطفال أكبرهم مجند بالجيش. ويشكو ضآلة الدخل حيث أرهقته المصروفات المدرسة ومحاولاته لاستكمال تعليمهم بالمجان فحالفه الإخفاق. وليس سوى أحد الأبناء الذي التحق بإحدى مدارس الفرير الفرنساوية بالمجان ولازمت الإناث المنزل ولم يبق سوى الشقاء وقسوة الحياة.

(3)

شغل عنتر أسطى سباكين بمصلحة الموانىء والمنائر أيامها. هجر حمامة عنتر إحدى مدارس الفرير بالإسكندرية وعمل بورش مصلحة الموانئ والمنائر بعشر مليمات. وحينما عمل بورش جبل الزيتون –القباري– سكك حديد مصر سعى نحو تشغيل ابنه فريد الذي هجر مدرسة سان مارك بالإسكندرية. بعد أن استفحلت مصاريف الحياة المجحفة والتي طالت العائلة، وكذا سعى لابنه الأكبر سلامة الذي أجاد صناعة البرادة وأدى الخدمة الإجبارية في الجيش عندما لم يتيسر له دفع البدلية. وتنال منه الأقدار حينما بتر ذراعه الأيمن أثناء تأدية عمله ليحال إلى وظيفة مخزنجي.

آنئذا يخاطب حمامة عنتر جورج مارين مدير الدروس العربية وفروعها بكلية سان مارك بشأن النزعات الدينية والسياسية التي سادت المدارس آنذاك. ويبلغه أن أبناءه ليست لديهم أي نزعات دينية أو سياسية سوى الحرص على العلم وتقدير الأديان.

(4)

وفي العام 1994 يبعث حمامة عنتر بخطاب إلى جناب صاحب الفخامة المعتمد البريطاني بمصر يعبر فيه عن امتنانه لخطاب الجنرال مونتجمري في جيوشه بنورماندي بفرنسا. وكان للخطاب موقع السرور في نفسه حيث يشيد بالنجاح الباهر الذي أحرزته الجيوش. ويبتهل إلى الله العلي القدير “أن ينصركم نصر عزيز مقتدر” ويذيل خطابه “إذا جادت مكارمكم بصورة للجنرال مونتجمري أكون في غاية الممنونية”.

وفي خطاب إلى صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء يرفع حمامة عنتر مظلمة مفادها “حقه” في مرتب أربعين قرش صاغ شهريا في وقف أهلي. ورغم مضي أكثر من ثلاثة وعشرين عاما لم ينل شيئا فضلا عن القضايا التي صار مالها الرفض رغم أنه حائز على شهادة فقر.

(5)

آنئذ حاصرته صدوف الحياة وضاقت به الدنيا ولم يعد هناك أي أمل في النجاة من مأزقه غير أن أحد أصحابه أوصاه بالخدمة في “كامب الإنجليز”. وقد تردد وقتذاك القول السائر “يا رايح القنال حود على الكامبو يقلعوك الهلاهيل ويلبسوك البالطو”. فعمل في حراسة مخازن ومستودعات الجيش الإنجليزي حيث غمرته مظاهر النعمة والرغد. ففي عطلاته يصطحب زادا من الطعام والكساء لعائلته غير أن الرياح أتت بما لا يشتهى حمامة عنتر. حيث طاله الاستغناء ضمن من شملهم التسريح من الخدمة.

(6)

إثر انهيار المنزل المتصدع أخفقت محاولات حمامة عنتر في أن ينال تعويضاً من البلدية عما لحق به من أضرار. فعاش وحيداً في مساكن عمال السكة الحديد “الدريسة” بعد أن صارت عائلته في ذمة الموتى. ولأنه يجيد القراءة والكتابة عمل ساعياً في مصلحة البوستة المصرية. حيث خطى بالاطلاع على المطبوعات التي تنقلها القطارات فيتأبط كل ليلة رزمة من الجرائد والمجلات ليطالعها في مسكنه.

إصابة حمامة عنتر
إصابة حمامة عنتر
(7)

وقتذاك عقب إلغاء معاهدة 1936 عاد حمامة عنتر إلى القنال مجددا محاربا في صفوف الفدائيين ومقاتلا في المعارك التي خاضتها كتائب ومعسكرات الفدائيين ضد الاحتلال. حيث نسفت مستودعات العدو وقطعت خطوط المواصلات وشارك في القتال ثمانين ألف من العمال المصريين في القتال وشهدت ميادين المعركة شهداء من كافة أرجاء القطر المصري “المردنلى” شهيد معركة القرين، ومحمد رشاد شهيد معركة التل ونبيل منصور، وعباس الأعر وغيرهما من الأبطال. أصيب حمامة عنتر وبترت ساقه اليسرى إلا أن الجمعية الخيرية الشرقية بمحرم بك خصصت له منصة لبيع الجرائد بميدان محطة الرمل ودبرت له جمعية المحاربين القدماء معاشا شهريا قدره ثلاث جنيهات اعترافا ببسالته وكفاحه في المعارك.

اقرأ أيضا:

في مأثرة تاج الأصحاء

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر