القاهرتان (3): عملية «الصفحة البيضاء»

يتحتم علينا ونحن بصدد ظروف تشييد المدينة الحديثة أو قاهرة إسماعيل أن نعرض للظرف السياسي والعمراني الذي نشأت فيه هذه الأخيرة. من ثم، فإنه ينبغي علينا في سبيل فهم التجربة الحداثية في مصر أن تعرض للسياق التاريخي الذي سبق انشاء مدينة إسماعيل. وتجدر الإشارة إلى أن المدينة الجديدة – وسط البلد حاليًا ماهي إلا حلقة في سلسلة من محاولات التحديث بدأت مع الحملة الفرنسية وتأكدت مع وصول محمد علي باشا إلى السلطة سنة 1805 حيث اعتبر المؤرخون بداية عهده مفتتحًا لتجربة الحداثة المصرية في القرن التاسع عشر وهي التي وصفها أندريه ريموند بأنها «عملية ممتدة اتسمت بالبطء وشابها الكثير من التردد».

جذور الحداثة المصرية

على أن الحداثة المصرية في القرن التاسع عشر هي وليدة السياسات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية التي ادخلها محمد علي باشا وخلفاؤه لاسيما الخديو إسماعيل الذي تبلورت في عهده في رأينا عملية التحديث فأصبحت واقعًا عمرانيًا ومجتمعيًا ملموسًا. ويتصل بمفهوم الحداثة في مصر أيضًا علاقة الدولة المصرية بالقوى العظمى في العالم في وقت ضعف الإمبراطورية العثمانية والحالة الوطنية التي نشأت في أواخر عهد إسماعيل وهي التي تنبت مشروعًا موازيًا للحداثة – مع أنه ناتجًا عنها – هو حركة النهضة التي اصطبغت بالفكرة القومية وامتدت لتشمل مجالات عدة. ومن ثم أصبحت مظاهر الحداثة ونتائجها بحسب المؤرخة إيف دي دومنبيير نواري “مجموعة من التطورات المادية والثقافية التي أثرت في المجتمع المصري” فشملت “الموضة أو التنظيم الفراغي وكذا العادات الاجتماعية”.

والحداثة المصرية يمكن فهمها على أنها جزء من مشروع سياسي وعمراني ضخم ابتدأ منذ مطلع القرن التاسع عشر على يد محمد علي باشا الذي نعتبره أبو الحداثة المصرية. لاحظ محمد علي الألباني الأصل أفول نجم الامبراطورية العثمانية فطمح إلى بناء إمبراطورية واسعة على انقاضها “تمتد إلى دجلة والفرات”.

***

تمثلت استراتيجية محمد علي في تطوير الجيش والنهوض بالزراعة والصناعة والتعليم، وهي الاستراتيجية التي استقدم لها الباشا الأمي عددا من الخبراء الأجانب في مختلف المجالات. وفي خلال ثلاث عقود استطاع الباشا أن يؤسس دعائم دولته الجديدة فكان الصدام حتميًا بينه وبين الإمبراطورية العثمانية فنشبت الحرب المصرية العثمانية الأولى 1831- 1833 ثم لحقتها الحرب الثانية 1839- 1841 التي حقق خلالها الجيش المصري بقيادة ابراهيم باشا نصرًا عزيزًا على نظيره التركي في موقعة نزيب 1839. كان لهذه الأخيرة أكبر الأثر في التفات القوى العظمى إلى خطورة “المسألة الشرقية” التي عنوا بها طموحات محمد علي التوسعية.

وبالتالي وقفت ممالك اوروبا إنجلترا والنمسا وروسيا للحيلولة دون توجيه ضربة قاضية من محمد علي إلى “رجلها المريض” فوقعت الدول الثلاثة مع الدولة العثمانية اتفاقية لندن 1840 وفيها وجهت إنذارا إلى محمد علي بالانسحاب من الشام. رفض محمد علي الإنذار فتم توجيه ضربة عسكرية مشتركة لقواته في عكا أجبرته على الخضوع ثم انتهت “أزمة المشرق” بفرمان 1841 الذي أقر محمد علي باشا على حكم مصر وفق نظام وراثي في أسرته مقابل تنازله على طموحاته التوسعية التي هددت عرش الدولة العثمانية.

هذه الدراما التاريخية في رأينا هي جذور تجربة الحداثة في مصر ومن ثم فنعتقد أن سلسلة التطور العمراني الذي انتهى إلى حلقة تشييد قاهرة إسماعيل كان وليدًا لها ودليلاً عليها. ولكن ربما نتساءل هنا عن ملامح هذا التطور وفق هذه الظروف التي أشرنا إليها: ماهي؟ وما علاقتها بالمدينة القائمة “قاهرة المعز”؟

عملية الصفحة البيضاء

تجدر الإشارة إلى أن الخطوات التي اتخذها محمد علي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والعمراني في سبيل تحديث العاصمة المصرية كانت في الأصل مستوحاة من سياسات الفرنسيين وقت حملتهم على مصر. ومن المعروف أن محمد علي قد حضر لمصر ضمن فرقة عسكرية ألبانية أرسلها العثمانيين لمناهضة الفرنسيين ومن ثم راقب الضابط الألباني التجربة الفرنسية في مصر وقرر أن يستفيد من سياستها القائمة على استراتيجية “الصفحة البيضاء” أو بحسب المصطلح الايطالي Tabula rasa التي لخصها أندريه ريموند في ثلاث كلمات “دولة جديدة. مجتمع جديد. اقتصاد جديد”. استوعب محمد علي الدرس جيدًا وقرر تطبيقه من جديد.

***

لكن الدرس الفرنسي الذي تعلمه محمد علي كان هدفه فصل عمران المدينة القديمة عن ماضيه بهدف إحلال قيم المجتمع المصري بأخرى مستوردة مستوحاة من قيم الجمهورية الفرنسية الوليدة آنذاك من دون النظر إلى اختلاف الظروف والسياقات بين البلدين وبين المجتمعين المصري والفرنسي. وتترجمت عملية “الصفحة البيضاء” في سلسلة من الاجراءات العمرانية التي تغير بسببها وجه المدينة. من هذه الاجراءات كان هدم بوابات الحارات في القاهرة بأمر نابليون بونابرت وهي من العناصر الأصيلة التي وفرت لسكان المدينة الأمن والسلام طيلة قرون طويلة. اختفت أبواب الحارات الخشبية على يد بونابرت كيلا تشكل عائقًا أمام جيشه في قمع الثوار وتم استخدام أخشاب هذه الأبواب – عالية القيمة شديدة الندرة – في أغراض التدفئة للجيش الفرنسي المحتل!

لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل أن نابليون عمد إلى استئصال المصاطب الحجرية من أمام البيوت والحوانيت القاهرية للحيلولة دون استخدامها كمتاريس بواسطة الأهالي أثناء ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين 1798. كان هدم هذه المصاطب ضربة عمرانية دمرت عنصرًا هامًا في المدينة القديمة فادى ذلك إلى اختفاء سمة اجتماعية أصيلة للشارع القاهري هي التواصل البصري والتفاعل بين الباعة أصحاب الحوانيت وبين المارة من جهة وبين بعضهم البعض من جهة أخرى. بعد هدم المصاطب، ضاقت على الباعة دكاكينهم حتى صاروا بحسب وصف ريموند ” جالسين كالفئران في جحورهم”. لكن اختفاء الأبواب والمصاطب لم يمنع القاهريين من مواصلة ثورتهم ضد المحتل الفرنسي فوجه نابليون وكليبر من بعده نيران المدافع لقلب المدينة فتهدمت بذلك أجزاء هامة من المدينة مثل أحياء الأزهر والجمالية بينما اختفت أحياء أخرى– كحي الجزارين- من الوجود.

***

على أن انشغال الباشا في اصلاحاته الاقتصادية والعسكرية لم يمنعه عن الالتفات إلى عمران عاصمته رغم إقامته شبه الدائمة في الاسكندرية التي شهدت في عهده “تطورًا غير مسبوق” تضاعف بسببه عدد سكانها إلى عشرة أضعاف بعكس القاهرة التي شهدت انتكاسًا سكانيًا بسبب الكوارث الوبائية التي أصابتها (الكوليرا عامي 1831 و1847 وبينهما الطاعون عام 1835). رغم ذلك فإن بعض الاصلاحات العمرانية وجدت طريقها إلى قاهرة المعز مثل تقسيمها إداريا إلى عشر مقاطعات وتمهيد طريق بولاق ثم انشاء هيئة للتخطيط الحضري سنة 1843. وجد محمد علي إذن في مدينة الاسكندرية صورة لنظامه المنشود فشملها برعايته على نحو جعلها أثيرة لديه في حين كانت القاهرة بالنسبة إليه مدينة للمراسم والحوادث الجلل وهو ما اعتبره بعض المؤرخين دليلاً على حالة “ارتياب” دائمة من الباشا تجاه عاصمته.

ثورة القاهرة الأولي
ثورة القاهرة الأولي

ثلاث حوادث فارقة عاشها محمد علي أو شارك فيها أدت في اعتقادنا إلى ريبته في القاهرة: أولًا ثورة القاهرة الثانية ضد الفرنسيين التي حضر على إثرها مصر (1800) ثم ثورة المصريين بواليهم التركي خورشيد باشا وهي التي جاءت به – بمحمد علي- حاكمًا مكانه (1805) وأخيرًا مؤامرة مذبحة المماليك التي دبرها الباشا شخصيًا ونفذت تحت عينيه في القلعة (1811) والتي اتبع محمد علي فيها استراتيجية “الصفحة البيضاء” التي يبدو لنا أنها مفتاح فهم أغلب سياسات محمد علي الاصلاحية، لاسيما ما لحق منها بالمدينة القديمة. على أنه لم يكن الارتياب وحده هو الدافع الوحيد لتنفيذ عملية الصفحة البيضاء في القاهرة، كان للباشا أسباب أخرى أهمها شدة ارتباط القاهريين بالماضي المراد إبادته وكذلك الخوف من ثورة الأهالي أو على الأقل اندلاع القلاقل في العاصمة على يديهم. الارتياب والخوف وربما ازدراء الأهالي هم الذين جعلوا اندريه ريموند يفسر بذلك رغبة الباشا الدائمة في السفر واختيار مواقع قصور إقامته خارج المدينة.

***

وجه محمد علي أولى ضرباته إلى قاهرة المعز بمنعه استخدام المشربيات الخشبية كنوافذ والاستعاضة عنها بالزجاج بحجة قابلية الخشب للاشتعال ولأسباب أمنية تتعلق بكون المشربية عنصر يمكن من خلاله الاختباء والمراوغة. بذلك اختفى أحد أهم عناصر المدينة وانقرضت بالتالي وظيفته الجمالية والبيئية. كذلك، ألغى محمد علي تغطيات الأسواق المصنوعة من القماش – الخيام- واستعاض عنها بالأسقف الخشبية وبذلك ألغى محمد علي سمة بصرية وبيئية للأسواق القاهرية، وناقض بلجوئه إلى استخدام الأخشاب قراره بتحريم المشربيات بحجة خطر الحريق! وفيما بعد سنة 1835 هدم محمد علي المصاطب الحجرية المخصصة لجلوس المارة والكائنة بالشوارع الضيقة والمزدحمة على أن يتم السماح بوجودها في الشوارع الرحبة وبشرط ألا يزيد عرض المصطبة عن 80 سم. وأخيرًا وفي نفس السنة تم أجبار سكان القاهرة على دهان مساكنهم باللون الأبيض بهدف “توحيد الصورة البصرية”.

نستنج إذن أن الاجراءات العمرانية التي وجهها محمد علي ومن قبله الفرنسيين للمدينة القديمة كانت سببًا رئيسًا في تدهورها وتحولها بفعل معاول الهدم إلى مدينة “الأنقاض والرماد” كما وصفها الرحالة الأوروبيون منذ منتصف القرن التاسع عشر وهي الصورة السلبية التي دعت فيما بعد الطبقة الحاكمة وعلى رأسها إسماعيل – حفيد محمد علي- إلى إعادة عملية الصفحة البيضاء بإنشاء مدينة جديدة تمامًا: قاهرة إسماعيل.

اقرأ أيضا:

القاهرتان (2): المدينة الجديدة وصورة الشارع القديم

القاهرتان(1): الخديو في المعرض

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر