رغم فلاتر الرقابة: هوس المنع لا يكتفي بالدراما المعقمة!
لم تكد تمر الأمسية الأولى من أيام شهر رمضان حتى فوجئ الجميع بمداخلة تليفزيونية لرئيس الرقابة على المصنفات الفنية الدكتور خالد عبد الجليل يعلن فيها أن الحلقة الأولى من مسلسل “دنيا تانية” الذي تلعب بطولته النجمة ليلى علوي ليست هي الحلقة التي وافقت عليها الرقابة، وأن صناع المسلسل والقناة التي تعرضه قامت بالتحايل على الرقابة وأضافت مشاهد تم رفضها والاتفاق على استبدالها، وأن هذه المشاهد تتضمن “زنا محارم” لا تتقبلها الرقابة ولا الأسرة المصرية، وأنه قام بمنع بث المسلسل إلى حين تنفيذ التعليمات المطلوبة.
منذ اللحظة الأولى، إذن، بات جليا أن دراما رمضان 2022 ستكون “معقمة”، محكومة بالهواجس الرقابية والاجتماعية، وبهواجس صناع المسلسلات والفضائيات العارضة لها من إثارة هواجس الرقابة الرسمية والاجتماعية، والذئاب المتربصة لرائحة الدم والترند والهاشتاج على وسائل التواصل الاجتماعي من مواقع وسائل الاعلام حتى اللجان الاليكترونية للمتطرفين والمخربين والباحثين عن دور “أخلاقي” يمارسونه على بقية خلق الله.
الرقابة ربما تكون معذورة طالما أن المناخ العام يعاني من حساسية ورغبة مستعرة لدى البعض باثبات تفوقهم وتميزهم عن طريق تحقير وانتقاد الفن والفنانين، و اتهام الآخرين بما يعتمل داخلهم من رغبات منحرفة أو طبيعية.
المشهد الذي يشير إليه رئيس الرقابة في مسلسل “دنيا تانية” لامرأة تكتشف أن زوجها يخونها مع شقيقتها..وهو أمر يدينه المسلسل بالطبع مثلما تدين بقية المسلسلات الخيانة والزنا والقتل وتجارة الآثار والرشوة والفساد والتربح واستغلال النفوذ وغيرها من الجرائم والانحرافات التي يعج بها الواقع وصفحات الجريمة وملفات الشرطة والأجهزة الرقابية كل يوم.
***
ومن الأمور المدهشة في مسلسلات هذا العام مثلا أن هناك مسلسل بعنوان “انحراف” كتبه مصطفى شهيب ويخرجه روؤف عبد العزيز من بطولة روجينا وإشراف زوجها أشرف ذكي، نقيب الممثلين وواحد من الذين يدافعون عن المهنة وأخلاقياتها صباحا ومساء. هذا المسلسل الذي يضم عددا من الجرائم البشعة المستقاة من الواقع، وذلك بعد تخفيفه وتهذيبه ليناسب الدراما الحالية، قد أصاب بعض نواب البرلمان بالذعر وطالبوا بمنع عرضه، بالرغم من خضوع العمل لمرشحات وطبقات مختلفة من الرقابة من رقابة المصنفات لفريق العمل وحتى القناة العارضة.
من فستان مريم فارس في اعلان إلى اعتراض “جروب حقوق التمريض” على مشهد كوميدي لممثلة ترتدي زي ممرضة في مسلسل “الكبير 6″، لقيام عضو مجلس شعب بالمطالبة بايقاف بث “انحراف” إلى الهجمة الشرسة ضد “فاتن أمل حربي”، مهما فعلت الرقابة ومهما فعلت القنوات العارضة ومهما فعل منتجو وصناع الدراما أنفسهم لتجنب الاتهامات والانتقادات، بل ربما بسبب ذلك كله، هناك حالة تربص وتحسس لأي عمل أو مشهد أو لقطة على طريقة نكتة “المشط” التي وعدت بروايتها في مقال سابق.
تقول النكتة أن مذيعة برنامج تليفزيوني يدور حول الأدوات التي نستخدمها في حياتنا اليومية ذهبت إلى أحد المقاهي وبدأت في سؤال رواد المقهى عن أول شئ يخطر ببالهم عندما يسمعون كلمة “مشط”. أحدهم قال أن المشط يذكره بالجمال، لإن الانسان يستخدمه في التزين وتجميل مظهره. وثان قال أنه يذكره بالعدل والمساواة والحديث الشريف “الناس سواسية كأسنان المشط..”. والمذيعة التي أبدت اعجابها من ردود الضيوف لاحظت رجلا يجلس في صمت مستغرق في أفكاره يدخن الشيشة، فتقدمت وسألته ما الذي تفكر فيه عندما تسمع كلمة “مشط”، فأجابها الرجل بهدوء: الجنس! شعرت المذيعة بالخجل والدهشة وسألته “لماذا؟ فقال الرجل : “هذا أنا..أي شيء يذكرني بالجنس”!
***
هناك كثيرون ممن تذكرهم مشاهدة أي عمل فني أو اعلان أو صورة أو أي شئ بالجنس، وممن ينتفضون ذعرا من ذكر أي كلمة “خارجة” أو “داخلة”، والعدوى أصابت الجميع تقريبا. وحتى ما تفعله الرقابة على المصنفات الفنية لم يعد يكفي.
هل تعلم أن الشركات المنتجة أصبحت تتحسس من معظم الموضوعات والشخصيات وتقرأ كل كلمة في السيناريوهات بعناية قبل الموافقة على تصوير العمل أو ارساله للرقابة؟ هل تعرف أن هناك اعلاميون وصحفيون أصبحت مهمتهم مشاهدة الأعمال قبل عرضها بهدف “ضبط قيم الأسرة المصرية”، وحذف أي شئ يتعلق بالمشط؟
وهل تعرف أن القنوات العارضة تقوم بعمل مونتاج إضافي بعد مونتاج المخرج وملاحظات الرقابة وتستقطع من بعض حلقات المسلسلات ما قد يصل إلى عشر دقائق أو ربع ساعة من الحلقة الواحدة؟
هذا المناخ المحتقن بهوس المنع ناتج عن أسباب وظواهر كثيرة ليست الرقابة على المصنفات سوى واحدة منها، بل ربما تكون إحدى ضحاياه لا أسبابه. وما حدث مع فيلم “أصحاب ولا أعز” منذ عدة أسابيع من هيستيريا جماعية يؤكد أننا بصدد مشكلة اجتماعية كبيرة. وهذه المشكلة لا علاقة لها بالأخلاق أو التقاليد أو التدين على الاطلاق مهما حاول البعض أن يصدر هذه الفكرة ليضحك على نفسه وعقولنا. وبالطبع ليس لها علاقة أيضا بميل البعض لمقارنة الفن بالواقع، فالواقع أسوأ بمئات الأضعاف مما يظهر في الدراما والأفلام. وهذه المشكلة لن تزول مهما هذبنا وعقمنا الأعمال الفنية لإنها لا تكمن في المسلسلات والأفلام، وإنما في عقلية “المشط”.
اقرأ أيضا:
دراما البطء والصخب من فاتن حمامة لفاتن أمل!