«أرشيف بيكيا»: تذكارات أعمال حكومة الثورة

في 23 يوليو عام 1960، نشرت مصلحة الاستعلامات المصرية كتابا تذكاريا بخصوص أعمال حكومة الثورة بعد مرور 8 سنوات على ما سُمي في وقتها بـ”الحركة المباركة”. رغم أنها كانت حركة إصلاحية في بداياتها، ولم تتجل بشكل ثوري إلا بعد إعلان الجمهورية عام 1953 وأزمة مارس 1954. سرعان ما تحول تاريخ 23 يوليو 1952 إلى محور تركيز دعاية الدولة عن ظهورها التاريخي. وتصلّب هذا التاريخ في كل أجهزة الدولة بعد منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. ومن هنا تصدر المطبوعات والمحاضرات والأغاني الوطنية والعروض المسرحية والحفلات التذكارية التي تقيمها الدولة للاحتفال بـ”الثورة” يوم 23 يوليو، وهو تاريخ إصدار هذا الكتاب التذكاري عن “الثورة في 8 سنوات” أيضا.

**

يتشابه هذا الكتاب مع سلاسل أخرى من مطبوعات مصلحة الاستعلامات آنذاك، ولكنه يتميز ببعض التفاصيل الخاصة بموقعه التاريخي المحدد. ابتداءً من عام 1955، انتظمت مصلحة الاستعلامات في نشر كتب بعناوين مثل “الثورة في 3 سنوات” أو “الثورة في 6 سنوات”. ورغم بعض الاختلافات الطفيفة في شكل الغلاف أو حجم الكتاب. إلا أن الغرض الأساسي من نشر تلك المطبوعات كان رصد إنجازات دولة يوليو خلال العام الماضي في إطار خطط القيادة السياسية منذ اندلاع الثورة. يتميز كتاب “الثورة في 8 سنوات” تحديدا بأنه يرصد إنجازات الدولة في الإقليم السوري والإقليم المصري معا. وهو أمر لم يسبق ولا يتكرر في نفس سلسلة المطبوعات. حيث لم تنشر مصلحة الاستعلامات كتابا آخر عن الثورة في 7 أو 9 أعوام (أي أثناء الوحدة مع سوريا)، رغم أنها كانت تصدر كتبا تذكارية أخرى بمناسبة الاحتفالات بالوحدة نفسها.

يحتوي كتاب “الثورة في 8 سنوات” على جزئين، تفصل بينهما عدة صور فوتوغرافية عن التطور الصناعي في مصر وسوريا. ويتناول  كل جزء من الكتاب إنجازات الدولة المصرية والسورية كل على حده. تنقسم مواضيع الفصول بحسب الوزارات الكبرى آنذاك: الصناعة، والزراعة، والإصلاح الزراعي، والتربية والتعليم، والصحة، والإسكان، والمواصلات، وإلخ.

من الملاحظ أن الفصول السورية تختلف بعض الشيء عن الفصول المصرية. فقد ورد الفصل الخاص بإنجازات الثقافة والإرشاد القومي في فصل الإقليم السوري فقط، بينما غاب عن فصل الإقليم المصري. ولكن يعطي الكتاب صورة إجمالية عن أعمال دولة الوحدة في ظل ثورة 1952، بـ «الحقائق والأرقام» كما شاع التعبير في وقتها.

**

تستوقفني كلمة “الثورة” في عنوان الكتاب، وهي تبدو وصفا مباشرا لما جرى في 23 يوليو 1952، إلا أن الكلمة تحمل دلالات أكبر في الظرف التاريخي التي وردت فيه. إذا اتبعنا تحليل المؤرخ شريف يونس في كتاب “نداء الشعب”، تتحمل كلمة “الثورة” معنيين إضافيين على الأقل في إطار دولة يوليو. تعني الثورة أولا العملية التاريخية الواقعية التي يحتشد عبرها الشعب الحالي في جموع تسير نحو التجدد والنضوج حتى تستطيع أن تتولى السلطة بنفسها في يوم ما (وصكَّ يونس لهذا الشعب الناضج المستقبلي مصطلح “اسم الشعب”). وثانيا، تعني كلمة”الثورة” الطليعة العسكرية والإدارية التي قامت بالانقلاب على الملك ثم بإعلان جمهورية جديدة تحت قيادتهم حتى تقود الجموع الثائرة. وتتمثل تلك الطليعة بأشكال مؤسسية مختلفة ابتداءً من مجلس قيادة الثورة إلى رئاسة الدولة والوزارات السيادية لاحقا.

عندما تتحدث مصلحة الاستعلامات عن إنجازات “الثورة” في 8 سنوات، تتداخل كل تلك المعاني في آن واحد. فالثورة لا تحوي الإنجازات التي تحققت عقب تاريخ 23 يوليو 1952 فحسب، بل تحوي أيضا إنجازات الجموع الثائرة في هذه الفترة عموما، وإنجازات الطليعة الثورية تحديدا. يتبلور مغزى “الثورة” في هذه الحقبة التاريخية عبر تلك المعاني المركبة، والتي انتهى الترويج إليها في دعاية الدولة بعد هزيمة يونيو 1967. حيث جعلت من “الثورة” تاريخا بحتا لا علاقة له بنشاط الشعب أو القيادة في السردية الرسمية. لم تقضِ 1967 على الحلم العروبي فحسب، بل قضت أيضا على صورة الدولة الثورية التي تسير بشعبها نحو مستقبل أفضل.

**

يثير كتاب “الثورة في 8 سنوات” سؤالا هاما حول ماهية الوثيقة التاريخية. إنه ليس”وثيقة” بالمعنى التقليدي للمستند الإداري أو الشخصي الذي يكشف عن جوانب الدولة الخفية عندما يخرج من أضابيرها إلى الضوء. لأنه كتاب منشور ومنتشر، وكان يُوزع مجانيا في جميع الإدارات الحكومية بالداخل والسفارات بالخارج ضمن خطة توزيع مصلحة الاستعلامات. ولكن لا يمكن اعتباره كتابا عاديا كذلك، لأنه ليس مُسجل برقم إيداع في دار الكتب. ولا يمكن العثور عليه في المكتبات العامة والخاصة إلا بصعوبة. فهي غالبا ما تتخلص منه ومن أشباهه بانتظام. يتداول هذا النوع من المطبوعات بين بائعي البيكيا وأسواق الكتب القديمة حاليا. حيث تتضاءل قيمته ككتاب تذكاري أمام قيمته كمستودع لصور العصر الناصري تُباع لهواة جمع الأشياء القديمة. فكيف لنا أن نحلل طبيعة المادة التاريخية المتاحة أمامنا في هذا الكتاب؟

ربما لا يكون الكتاب التذكاري “وثيقة” بالمعنى التقليدي، ولكنه يوثق لبعض الظواهر الهامة في المراحل الأولى من دولة يوليو، ربما عاشت في صورة أخرى إلى الآن، أو ربما اختفت لاحقا. فنرى مثلا في هذا الكتاب اهتمام الجهاز الثقافي والإعلامي في العصر الناصري بتسجيل إنجازات الدولة. ويستمر هذا الاهتمام بشكل شبيه حاليا. ولكن نلاحظ أيضاً أن تسجيل الإنجازات يتم في صورة كتاب كثيف وثمين وغزير بالصور على عكس النشرات الإعلامية الحالية. وأن دعاية الدولة كانت تتمحور حول نهضة الصناعة والزراعة أكثر مما تتمحور حول نهضة الإنشاء والتعمير، الذي كان يشكل جزءا بسيطا من الدعاية الرسمية. وأخيراً، نرى تأثير ظروف الوحدة مع سوريا على حديث دولة يوليو عن نفسها. فقد كانت دولة الوحدة مُنشقة إلى إدارتين منذ بدايتها، ولكل إدارة إنجازاتها الخاصة تحت نفس الغطاء السطحي العام، على غرار الكتاب الذي يحوي فصلين متباينين بترتيب يتماهى صورياً فقط.

**

فإذا اعتبرنا أن “الثورة في 8 سنوات” مستند تاريخي يعطينا تصوراً آخر عن بدايات دولة يوليو. لنا أن نتساءل عن مثل هذه المستندات التاريخية عموماً، التي نادراً ما تتحول إلى موضوع للتحليل التاريخي الجاد. كيف يمكننا أن نحلل المادة الدعائية التي أنتجتها دولة يوليو منذ ظهورها؟ وماذا يدفع الدولة إلى تسجيل إنجازاتها بانتظام؟ وما هي آثار “ثورة” 1952 على تكوين دعاية الدولة الحالية؟

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: «ضرورة التنسيق» بين المؤسسات الثقافية لدولة الوحدة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر