في ذكرى خلعه.. لمن كانت قبلة "فاروق" الأخيرة؟


يروي حسين حسني، السكرتير الخاص للمك فاروق في مذكراته “سنوات مع الملك فاروق”، أنه في صبحية يوم 26 يوليو 1952، حلقت الطائرات الحربية فوق سماء الإسكندرية واصطفت الدبابات والمدرعات تسد الطريق إلى قصر رأس التين والذي كان ينزل به الملك فاروق وأسرته في ذلك الوقت.
يقول حسني إنه عندما حاول الوصول إلى القصر وجد الطريق مسدودا بالدوريات الحربية، وعرف أنه لا يسمح بالدخول إلا لمن يحمل تصريحا من القيادة العامة للجيش، متابعا: أنه عاد أدراجه ولاذ إلى المذياع والذي كان  يذيع الإنذار الموجه من اللواء محمد نجيب، باسم الجيش، للملك فاروق، يطالبه بالتنازل عن العرش لابنه الطفل الرضيع أحمد فؤاد الثاني قبل حلول الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه ويحمله عواقب عدم الانصياع لمطالب الجيش والشعب.
المرسوم الملكي رقم 5 لسنة 1952: وبحسب حسني فقد أوفد سليمان حافظ بك، نائب رئيس مجلس الدولة إلى قصر رأس التين ومعه نص المرسوم الملكي رقم 5 لسنة 1952 والذي حمل في طياته الصيغة القانونية لتنازل الملك فاروق عن عرش مصر لابنه الأمير أحمد فؤاد الثاني والذي جاء فيه: “نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان، لما كنا نطلب الخير دائما لامتنا ونبتغي سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة ونزولا على إرادة الشعب، قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس الوزراء للعمل بمقتضاه. صدر بقصر رأس التين في 4 ذي القعدة 1371 (26 يوليو 1952).
ويلمح حسني فقد كان ذلك المرسوم آخر قرار يصدره الملك فاروق قبل مغادرته أرض مصر على يخت المحروسة متجها إلى منفاه في نابولي بإيطاليا.
بريطانيا وأمريكا
ويشير الدكتور محمد عاطف عبدالمقصود، في كتابه “محاضرات في تاريخ مصر الحديث”، إلى أن الملك فاروق كان يعتمد على إمكانية تدخل أمريكا لصالحه، ولكنه أساء التقدير، رغم أن السفير الأمريكي رافقه حتى سلم اليخت كضمان لحياته الشخصية، لافتا إلى أن بريطانيا قد فوجئت بأنباء الثورة، وفضلت عدم التدخل في الأحداث، خشية وقوع مصادمات عنيفة مع الجيش وجموع الشعب المصري، معتبرة أن الشأن شأن داخلي، لا يخص بريطانيا من قريب أو بعيد، ما دامت أرواح الرعايا الأجانب ومصالحهم لم تمس، وهو ما أعلنه رئيس الوزراء تشرشل بشكل رسمي.
سيقال عني الكثير
ويلفت حسني باشا أنه بحلول الساعة الرابعة عصرا توجه هو ومجموعة من كبار موظفي القصر إلى قصر رأس التين لتوديع الملك بعد الحصول على تصريح من مركز قيادة الثورة بمعسكر مصطفى باشا، لافتا إلى أنه بمجرد وصول وفد التوديع  إلى القصر، تم اقتيادهم إلى الجناح المجاور للرصيف البحري بالطابق الأسفل حيث وجدوا مجموعة من الضباط والعاملين بالقصر في الردهة الكبرى، بعدها تم اصطحابهم إلى بعض المقاعد المصفوفة أمام الجناح الذي كان فيه الملك ومن سيرافقه في السفر، وجاء من أخبرهم بأن الملك سيقابلهم بعد قليل، وبعد لحظات سمح لهم بدخول الجناح حيث وجدوا الملك وبرفقته زوجته الملكة وبناته.
يتابع حسين: وبعد تبادل كلمات الوداع وأنا في طريقي إلى الخارج قال لي الملك وهو يشد على يدي: “أنا أعلم أنه سيقال عني الكثير والكثير، ولذلك فكل ما يهمني أن تُعرف الحقيقة”، ثم أشاح بوجهه بعيدا خشية ألا يستطيع التحكم في دموعه، فقد كان في أوج انفعاله.
القبلة الخيرة
ويتابع حسني : أنه بحلول الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم 26 يوليو، حضرت كتيبة من الحرس الملكي تصحبها الموسيقى وتحمل علم الحرس الملكي، واصطفت على رصيف القصر فيما بين باب القصر ومكان رسو (اللنش) المعد لنقل المسافرين إلى الموقع الذي كانت ترسو فيه (المحروسة)، وبحلول الساعة السادسة إلا ربع، خرج الملك وبصحبته زوجته وبناته وولي عهده والذي كانت تحمله إحدى المربيات ومن وقع عليهم الاختيار من الخدم والحاشية لمرافقة الملك في سفره، ويلمح حسين أن الملك عند خروجه كان ينظر إلى ساعته كثيرا بسبب تأخر وفد الضباط الأحرار والذي كان مقررا أن يكون في وداع الملك قبل حلول موعد مغادرة الملك والذي حدده الإنذار بالساعة السادسة، وبعد أن أدت له الفرقة العسكرية التحية وعزف السلام الملكي، وأثناء سيره نحو (اللنش) عاد خطوتين إلى الوراء وتوقف عند حامل العلم، مشيرا إليه ليعطيه العلم، ليتناوله من يديه ويحتضنه ويقبله القبلة الأخيرة، في تأثر بالغ.
ويتابع حسني: وكانت الساعة قد أوشكت على السادسة ولم يصل الضباط الأحرار، فاستقل الملك ومن معه (اللنش) متجهين إلى المحروسة وبمجرد تحركهم وصل وفد الضباط الأحرار، ليستقلوا أحد (المراكب) ليلحقوا بالملك إلى المحروسة.
أنزل عصاك
وبحسب الدكتور محمد عاطف، يلحق وفد الضباط الأحرار يتقدمهم محمد نجيب بالملك عند يخت المحروسة، ليقابله الملك ويرحب بهم ويتمنى لهم التوفيق دون أدنى اعتراض، إلا أنه اعترض على تصرف جمال سالم والذي كان رافعا عصاه تحت إبطه، ليقول له الملك بنبرة حادة: “انزل عصاك، إنك في حضرة ملك” في إشارة إلى ابنه الملك أحمد فؤاد الثاني، ليعتذر اللواء محمد نجيب عن ذلك، ويؤدي الضباط التحية العسكرية للملك لآخر مرة وتطلق المدفعية 21 طلقة تحية له وهو يغادر أرض مصر على ظهر نفس اليخت الذي استقله جده الخديوي إسماعيل حين عزل من الحكم.
هوامش
1- سنوات مع الملك فاروق (مذكرات حسين حسني باشا، السكرتير الخاص للملك) بي دي أف – من ص 331 إلى ص 337 – دار الشروق “الطبعة الأولى 2001”.
2- محاضرات في تاريخ مصر الحديث – دكتور  محمد عاطف عبدالمقصود – جامعة المنيا قسم التاريخ 1993- من ص 193 إلى 198.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر