الثقافة تغلق أبوابها: 120 موقعا خارج الخدمة باسم «الترشيد»

في خطوة مفاجئة، أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة قرارا بإغلاق 120 بيتا ومكتبة ثقافية في القرى والمراكز ما أثار موجة غضب بين المثقفين الذين اعتبروا القرار «جريمة» في حق الأطفال والشباب، وتهديدا للمساحات الوحيدة المتاحة للفن والمعرفة.. «باب مصر» يرصد تعليقات عدد من الأدباء في مختلف المحافظات حول هذا القرار.

إغلاق المواقع المؤجرة

لم يكن قرار الهيئة بإغلاق عدد من بيوت الثقافة والمكتبات المؤجرة، والذي بررته بالسعي نحو «تطوير الخدمة الثقافية» والتوسع في المسارح والمكتبات المتنقلة، قرارَا منفردا، بل يأتي ضمن توجه حكومي أوسع لإعادة الهيكلة.

وأكد عدد من مسؤولي الثقافة- فضلوا عدم ذكر أسمائهم- أن رئاسة الوزراء أرسلت خطابا إلى وزارة الثقافة تطالب فيه بإعداد حصر عاجل لكافة الموقع التابعة للهيئة، والتي يمكن استغلالها كفصول لرياض الأطفال، ضمن خطة حكومية تقودها وزارة التضامن الاجتماعي، بمشاركة عدة جهات تنفيذية.

وعلى الفور، سارعت وزارة الثقافة إلى تنفيذ التوجيه، الصادر عن اجتماع برئاسة رئيس مجلس الوزراء، والذي تضمن بحث إمكانية زيادة عدد الحضانات في المدارس الحكومية. وقد كانت وزارة الثقافة ضمن مجموعة العمل التي ضمت وزارات الشباب والرياضة، والأوقاف، والإسكان، والمجتمعات العمرانية، برئاسة وزيرة التضامن الاجتماعي.

وفي هذا السياق، أرسلت وزيرة التضامن الاجتماعي، الدكتورة مايا مرسي، خطابا إلى وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو، تطلب فيه إفادة عاجلة بحصر كامل للأماكن التابعة للهيئة والتي يمكن استخدامها كفصول لرياض الأطفال.

بدوره، وجه اللواء خالد اللبان، مساعد وزير الثقافة لشؤون الهيئة، بسرعة استيفاء النموذج المرفق لحصر المساحات المناسبة داخل قصور الثقافة والوحدات المؤجرة، وإرسالها بحد أقصى يوم الأحد 11 مايو 2025، استجابة لكتاب رئيس الإدارة المركزية لشؤون مكتب الوزير.

بيان بالمواقع الثقافية المقرر إغلاقها
بيان بالمواقع الثقافية المقرر إغلاقها
غضب المثقفين: نكوص عن الدور الثقافي

في بيان رسمي، عبر عدد من الكتاب والمثقفين والفنانين عبر رفضهم القاطع للقرار، واعتبروه تراجعا صريحا عن دور وزارة الثقافة وتجريفا لمقارها  في مختلف أنحاء الجمهورية، في مخالفة واضحة للدستور. وأشار البيان إلى المادة (48) التي تنص على أن “الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة، وتلتزم بدعمه”.

ورفض الموقعون على البيان المبررات الرسمية، سواء المالية أو المتعلقة بالكوادر والتشغيل، مؤكدين وجود مغالطات وتضارب في التصريحات، يعكس غيابا واضحا لوعي الوزارة بطبيعة العمل الثقافي وأهميته.

وطالب البيان بما يلي:

  • أولا: تراجع الوزارة بشكل معلن وواضح عن قرار إغلاق أي من المكاتب أو بيوت الثقافة
  • ثانيًا: وضع خطة معلنة لتشغيل كافة المكتبات وبيوت الثقافة.
  • ثالثًا: إعادة بناء مكتبة “زكي مبارك”، والتوسع في أنشطة المكتبات والبيوت الثقافية القائمة، والعمل على تجديدها.

وأكد البيان أنه في حال عدم الاستجابة، سيتم رفع الأمر إلى البرلمان للمطالبة بسحب الثقة من وزير الثقافة وإعادة الأمور إلى نصابها.

قرار خاطئ ومتسرع

لم تكن بيوت الثقافة مجرد جدران تحمل لافتات رسمية، بل كانت النافذة الوحيدة لأبناء القرى والنجوع على الفنون والثقافة. فهل فكر أصحاب القرار  في مصير هؤلاء؟ بيت ثقافة إهناسيا المدينة في محافظة بني سويف كان ضمن المواقع التي شملها قرار الغلق.

الشاعر نور سليمان من محافظة بني سويف، قال لـ«باب مصر»: “قرار إخلاء المواقع الثقافية المؤجرة، قرار خاطئ ومتسرع، وأعتقد أنه قرار لم تتم دراسته جيدا، فإذا كنا نتحدث عن توفير النفقات، فإن بعض هذه المواقع ذات قيمة إيجارية ضئيلة للغاية، إذ أن هناك أماكن لا يتعدى إيجارها الـ150جنيها، وجميع مواقع بني سويف التي يتم غلقها لا تتعدي القيمة الإيجارية لها جميعًا 1100 جنيه.

بيت ثقافة إهناسيا تحديدا مستأجر من الوحدة المحلية منذ عام 1983 بقيمة 250 جنيها فقط. وقد أبدى عدد من الرواد والموظفين استعدادهم لتحمل الإيجار من جيوبهم الخاصة حفاظا على المكان”.

وأوضح سليمان أن البيت يخدم 40 قرية تابعة للمركز، ولا يوجد بديل ثقافي آخر، مثله مثل بيت ثقافة سمسطا، الذي سيتم غلقه أيضا. وأشار إلى أن الموقع يتميز بوقوعه وسط المدينة، ما يسهل الوصول إليه. ويضم نادي أدب من أقدم الأندية في الجمهورية، بالإضافة إلى فريق مسرحي يعمل بنظام الشرائح المسرحية منذ عام 1986. كما احتضن العديد من الفعاليات، أبرزها مهرجان ” الفلاح الفصيح الأدبي” ومسابقات وندوات للأطفال.

فهل يعقل أن تُغلق مدينة مثل إهناسيا، التي كانت يوما عاصمة مصر في الأسرتين التاسعة والعاشرة، والتي خرج منها أول أديب مصري -الفلاح الفصيح- نافذتها الثقافية الوحيدة؟

لا ثقافة بدون مكتبات

لم يقتصر قرار إغلاق المواقع الثقافية المؤجرة على بيوت الثقافة فقط، بل شمل أيضًا المكتبات الثقافية، ومنها مكتبة ببا بمحافظة بني سويف. وفي تعليقه على القرار، قال الشاعر شريف شجاع، عضو الأمانة العامة لأدباء مصر ومدير فرقة ببا المسرحية:

“حرام مكتبة تم تجديدها منذ عام فقط، وصرف عليها 500 ألف جنيه، يتم إغلاقها! لا يوجد منطق في العالم يبرر إغلاق موقع تم تجديده مؤخرا بهذا المبلغ ولم يفتتح حتى الآن! كيف تغلق مكتبة هي الوحيدة في المركز؟ إذ لا توجد مكتبة داخل قصر ثقافة ببا، فهو مجرد دار عرض للسينما والمسرح. هل يمكن تبرير ذلك بالتوفير؟ هذا القرار لا يمكن وصفه إلا بأنه إهدار للمال العام!”.

ويتابع شجاع: “كانت تقام بالمكتبة أنشطة متنوعة: معارض تشكيلية، ندوات أدبية، ورش فنية، وكانت مقرا إداريا للعاملين بالقصر، نظرا لعدم توافر مكاتب لهم، بالإضافة إلى أنها كانت المقر الدائم لاجتماعات فريق المسرح وقراءة العروض المسرحية وبروفات “الترابيزة”. من هذه المكتبة خرجت أسماء مهمة في الأدب والإبداع. أتذكر أنه في 2018 قام الأدباء بطلاء المكتبة وتجديد مرافقها من نفقتهم الخاصة”.

ويضيف: “لم يتوقف النشاط الثقافي يوما في مكتبة ببا. كانت حاضنة لندوات ثقافية، ومحاضرات، وأمسيات، وورش، واستضافت كبار المبدعين، كما فاز عدد من روادها بجوائز مرموقة. فهل يعقل أن يكون هناك قصر ثقافة بلا مكتبة؟!”.

سوهاج والخريطة الثقافية

تكرر المشهد في سوهاج، حيث تم تجديد بيت ثقافة المراغة بمنحة قدرها 200 ألف جنيه من البنك الدولي، دون أن تتحمل الهيئة أي تكلفة. ورغم ذلك، أدرج البيت ضمن خطة الإغلاق.

يوسف عبدالحميد، مدير البيت سابقًا، قال: “بيت ثقافة المراغة هو الموقع الوحيد الذي تم تجديده دون أي تمويل من الوزارة، فقد حصلت على المنحة شخصيا عبر مبادرة فردية، ولم أتلق أي تقدير أو حتى شكر. يبرر المسؤولون القرار بأن المواقع المؤجرة صغيرة ولا تقدم خدمات ثقافية، رغم أن بعضها يضم أندية أدب فاعلة”.

وتابع: “محافظة سوهاج تضم 19 موقعا ثقافيا: 4 قصور ثقافة (أحدها معطل منذ 4 سنوات بسبب الترميم)، و15 موقعا بين بيوت ومكتبات، أغلبها مؤجرة، منها 8 مواقع مهددة بالإغلاق، رغم وجود أنشطة فاعلة بها!”.

“سياسات غبية” تضر بالثقافة

يرى د. أحمد صلاح كامل، شاعر ومؤلف مسرحي، أن القرار يتناقض مع المبادرات الوطنية الكبرى: “مبادرتا (بناء الإنسان) و(حياة كريمة) تسعيان للنهوض بالمجتمع. والدولة تحرص على امتلاك أدوات القوة الناعمة، وعلى رأسها الثقافة. فكيف تتماشى هذه الأهداف مع سياسات غبية، كإغلاق 39 موقعا ثقافيا في إقليم غرب ووسط الدلتا؟ في كل موقع منها مكتبة عامة، ونشاط أدبي وثقافي يحارب التطرف، فهل يدرك الوزير مغبة هذا القرار؟”.

ويضيف: “حتى لو كان التبرير تقليص الإنفاق، فإيجارات هذه المواقع لا تساوي شيئا مقارنة بمصاريف ديوان الوزارة. فكيف تتحقق العدالة الثقافية إذا كانت الوزارة تغلق مواقع هي الوحيدة في مناطق محرومة؟! نحن نسلم الأرض طواعية للفكر المتطرف، وحينها سندرك متأخرين أننا وفرنا “الملاليم” وخسرنا الوطن”.

مصيبة على مصر: طعن قضائي مرتقب

في تحرك قانوني، أعلن الكاتب المسرحي والشاعر  أشرف أبو جليل، وكيل وزارة الثقافة الأسبق، عن استعداده تقديم مذكرة طعن أمام المحكمة الإدارية ضد القرار. وقال في تصريح خاص لـ«باب مصر»: “أعمل حاليا بالتعاون مع محام متخصص على تقديم الطعن. مستندا إلى التمييز غير الدستوري الذي يمارسه القرار، والذي يحرم أطفال القرى من حقهم في الثقافة. بل تستثنى قصور المدن”.

وحول حيثيات الطعن، قال: “القرار يخالف الدستور الذي يساوي بين المواطنين في الخدمات. فبينما تحافظ المدن على قصورها، تغلق المكتبات وبيوت الثقافة الصغيرة في القرى. كما يتناقض القرار مع قانون إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي من أهم أهدافها نشر الوعي والثقافة في ربوع المحافظة”.

مبالغ رمزية

وأضاف أبو جليل: “عدد المواقع التي سيتم غلقها 120 موقعا. وهناك أمر هام لم يلتفت إليه أحد، وهو أن كل موقع من تلك المواقع تم إنشاؤه بموافقة  رسمية من الهيئة، بعد تقدم الأهالي بطلبات مدعومة من نواب البرلمان. وكان لكل موقع حيثيات واضحة لافتتاحه، بناء على ما يقدمه من خدمات ثقافية لعدد كبير من المواطنين”.

وتابع: “لم يفتتح أي موقع ثقافي إلا بعد المرور بمراحل إدارية تشمل موافقة مدير الفرع. ثم مدير الإقليم، ثم مجلس إدارة الهيئة، وأخيرا وزير الثقافة نفسه. وعلى مدى 30 عاما، تم إنشاء المكتبات وبيوت الثقافة بعد توقيع وموافقة أكثر من 100 مدير عام، وأكثر من 60 رئيس إدارة مركزية، و20 مديرا للهيئة، و10 وزراء ثقافة. فهل كان كل هؤلاء مخطئين حين وافقوا على تلك الإنشاءات؟”.

ترشيد أعمى للإنفاق

أسامة سند، شاعر وعضو نادي أدب الفيوم، اعتبر قرار إغلاق المواقع الثقافية المؤجرة “ترشيدا أعمى للإنفاق” في قطاع يعاني أصلا من ضعف التمويل. قال: “ميزانية وزارة الثقافة لا ترتقي إلى المستوى المأمول، ولا حتى إلى نصفه. لسنا بحاجة إلى ترشيد الإنفاق بشكل جائر على حقوق الموهوبين والمبدعين”.

وأضاف: “نحن بحاجة إلى المزيد من المواقع الثقافية، لا إلى تقليصها. وإذا كانت الهيئة تبرر قرارها بأن بعض المواقع غير نشطة، فإن ذلك يعني فشلها في تنشيطها وجذب الجمهور إليها. بدلا من غلقها، كان من الأجدر البحث في أسباب ضعف النشاط والعمل على تطويره”.

رد الهيئة العامة لقصور الثقافة

حاول «باب مصر» التواصل مع المسؤولين في الهيئة العامة لقصور الثقافة للتعليق، دون جدوى. إلا أن ردودا غير رسمية أشارت إلى أن موقف الهيئة لا يخرج عن ما ورد في بيانها الرسمي المنشور على صفحتها على “فيسبوك” بتاريخ 9 مايو الجاري. وجاء في البيان أن ما حدث هو “إعادة تنظيم” للمواقع الثقافية بهدف تقديم خدمة ثقافية أكثر كفاءة. ومواكبة العصر من خلال التوسع في الخدمات الرقمية والمكتبات والمسارح المتنقلة.

وأكدت الهيئة أنها تسعى لتفعيل دورها الثقافي في جميع أقاليم مصر. مشيرة إلى أن المواقع الصغيرة المستأجرة لا توفر خدمة لائقة. ولا يمكن تقديم الثقافة من خلالها بالكفاءة المطلوبة. وتابعت: “نعمل على استحداث بدائل ثقافة فعالة تواكب تطلعات المواطن. من خلال الوسائل الحديثة والمتنقلة”.

اقرأ أيضا:

«أنا وبناتي».. معرض للنحات جمال عبدالناصر وابنتيه

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.