“شيلنات ورق وبيجامة كاستور”.. ذكريات مبدعي الفيوم عن العيد
لا يأتي العيد دون ملابس جديدة وعمل الكعك والبسكويت ورائحة النشادر والفانيليا في البيوت، والحصول على العيدية، فالعيد يعنى الفرح والبهجة ونزق الطفولة ورعونة الصبا.
ولا يأتي العيد أيضا دون مشاركة الأصدقاء طقوس العيد المعتادة، ولأن استعادة ذكريات هذه الليلة تمنحنا لحظات من سعادة ما كنا نشعر به حينما كنا صغارا ليس على عاتقتنا أي مسؤولية، وعندما كان اللعب والفرح حياتنا، يستعيد معنا مبدعي وفناني الفيوم ذكرياتهم مع العيد.
العيدية والملابس الجديدة
يقول الدكتور أمين الطويل، الناقد الأدبي، عن ذكرياته في ليلة العيد، حينما كنت صبيا يافعا كنت أتسربل بعادات عامة يشترك فيها الصغار وهي التأكد من حصيلتي المحتملة من المال صبيحة هذه اليوم “العيدية” ومعاودة النظر في ملابسي الجديدة لهذا اليوم، وإعداد أجندة المواعيد أو المشاوير وتقليب فقرات العيد في ذاكرتي منذ ليلته.
كما كان لي عادة مخصوصة أتفرد بها بالانطلاق مع مجموعة من العفاريت الآدمية للحقول البعيدة أو أجران الفلاحين النائية والبقاء متشردا عن الأهل في لعب الكرة أو تجهيز وجبات غذائية مشتركة من مصروفنا المحدود حتى موعد صلاة العيد، وبعد أن شببت عن الطوق أتي العيد حاملا نظرتي الباسمة لبناتي ترقبا وسعادة وهن يحتلفن بطقوس العيد اتفاقا أو مخالفة لطقوسي، وكان العيد الأبرز في حياتي كلها منذ عامين حاملا لي رحمة الله بنجاتي من الموت الذي داهمني قبل مجيئه في الثلث الأخير من رمضان.
ماكينة البسكويت
بينما يقول الفنان عصام يوسف، عن ذكريات العيد في الزمن الجميل، اعتقد أنها ذكريات مشتركة مع أغلب أبناء جيلي، مثلا لم تكن كل البيوت تملك ماكينة البسكويت اليدوية ذات الشرائح المتغيرة، لذلك كانت هذه الماكينة تلف وتدور على أغلب بيوت قريتي وعندما يحين الدور على بيتنا كنت أذهب أنا لأخذها مصطحبا معي مايزيد عن عشرين من جيراني، وأعود حاملا الماكينة والشرائح التي تعطي شكلا مميزا للبسكويت، وأنا أتوسط المسيرة وكأني حاملا كأس أوروبا للأندية، وطبعا ينتظرنى على باب المنزل العديد من النساء ليطمأنوا على سلامة الماكينة ومحتوياتها.
وتنتهي مهمتي وتبدأ مهمة البنات في السيطرة على “الطبلية” التي يتوسطها العجين، وبعد أن ننتهي من الكعك والبسكويت نبدأ في البحث عن ملابس العيد، وبعدها نفكر في الأهم على الإطلاق وهو العيدية التي قد لاتتعدى القرشين صاغ، بالإضافة إلى عيدية الأقارب.
والطريف أن العيدية كانت مشروطه بالاستحمام، كنا نستحم طبعا في الأيام العادية ولكن حموم العيد كان مختلفا.
بيجامة قبة الضابط
أما القاص والكاتب عويس معوض، فيكشف عن أن البيجامة الكاستور كانت هي قمة الفرح، ويقول: زمان كنا ليلة العيد ونحن صغار، كانت كسوة العيد عبارة عن بيجامه من القماش الكاستور، وهو نسيج يتكون من خيوط قطنية، يتم تفصيلها عند خياطة، ولكى تكون بدلة “شيك” كنا نطلب أن تكون مثل بدلة الضابط، وكانت قمة الفرح هي في ارتداء تلك البيجامة، التي كنا نفرح بها كثيرا ولا نشعر أبدا بدونية لأن أغلب أطفال الحي كان يرتدي البيجامة.
والمدهش أننا أحيانا كنا نسهر عند الخياطة حتى الصباح، وكنا نقضى وقتا قصيرا في المنتزهات، لأننا سننام بعدها لأننا سهرنا الليل كاملا، وفى أحد الأعياد استأجرت دراجة للتنزه بها، والمفاجأة أن البنطلون تمزق إثر سقوطي من على الدراجة، وظللت باقى أيام العيد بملابسي القديمة يغيظنى أصحابي ببيجامة قبة الضابط.
الشلنات والبرايز الورق
أما الشاعر محمد حسنى إبراهيم، فيتناول تطور ذكري ليلة العيد مع تقدم العمر، فيقول: “ليلة العيد تعنى البيجامة الجديدة، والشلنات والبرايز الورق اللي لسة جديدة من البنك، يعني البلالين والزمامير، وقبلها كنا نتخانق على اللى يدور ماكينة البسكويت بحجة أن تدويرها يحتاج لعضلات فتكون مهمة للصبيان، بينما البنات لهن نقش الكعك، ثم نوزع الأطباق على الجيران”.
وظللنا نكبر ويكبر معانا الأمل والحب فى ليالى العيد تكبر معانا الأحلام “يعني البيجامة بقت قميص وبنطلون، والفلوس بدل البرايز والشلنات بقت جنيهات وخمسات وعشرات جنيهات، والبلالين بقت مسدسات حرب إيطاليا وبمب والمراجيح في منطقة المطافى وباب الوداع على كوبري مسجد قايتباي”.
ويتابع: “كبرنا كمان بقى الخروج مع الأصحاب فى عين السيلين وبحيرة قارون، وتأجير الدراجات، ثم نذهب لملاهي السندباد، وكبرنا فجأة وأصبحنا نعطي عيدية ونلف على البيوت اللى فيها أحبابنا ونوزع العيدية وهي دي الحياة، وأقول:
العيد سنابل حُب لـ قلوبنا
والفرحة تملى العين وف دروبنا
تلاقي كل العيال بتنام عشان تحلم
تلبس هدوم العيد منسوجة من توبنا
جدتى العجوز
تؤكد الشاعرة مروة عادل، أن الليلة ليست أشبه بالبارحة، وتقول تلك الليلة تحفر شيئ ما فى ذاكرتى فهناك بعض الذكريات التى لاتنسى وتحتل مكانا بالقلب كأننا نعيش تفاصيلها كل يوم، “جدتي العجوز” التي تشبه الزمن، الزمن الذى لم يصاب بالشيخوخة، كانت تجمعنا أنا وجميع أحفادها فى ساحة المنزل الكبير تحضر بعض الأدوات لصنع الكعك، وكنت أشاركها أنا وأخوتى وبعض الأصدقاء من حارتنا القديمة، أتذكر أن بيوتنا لم تكن منفصلة كانت أيادى النسوة من جيراننا تنقش الكعك، وعلى وجوههن ترسم الابتسامات والأمنيات التى يفصحن عنها ويرغبن تحقيقها، لتحل أعياد أخرى وتصبح كل ليلة هي “ليلة عيد”.
ثم بعد أن نفرغ من عمل “الحلوى” كنت أتوجه إلى غرفتى الصغيرة وعالمى الخاص، حيث كنت أقوم باخفاء دميتى الجديدة التى كنت أتحدث معها عن انتظاري لقدوم العيد، وارتدى ملابسى الجديدة وحذائى الذى أضعه أسفل سريرى، ولعبي الجديدة التى كانت بمثابة ممتلكاتى التى جمعتها طيلة عمرى الذي لم يكن يتجاوز العاشرة.
وكنت أقوم بنفخ البلالين، وأنا أردد مع والدتى بعض الأغنيات “يا ليلة العيد”، ولم أكن أعرف التقويم جيدا ولا أجيد قراءة ساعة الحائط لكن تلك الكلمات التى صنعت بهجتها حنجرة الست “أم كلثوم” هى التى كانت تمثل صوت المنبه الذى يجعل طفلة فى عمرى تحضر أشيائها وترتبها ليلا للاحتفال بالعيد الذى يشبه كعك جدتى وفستانى القصير الملون وجدائل شعرى وبالونتى وحارتنا الواسعة التى لم تفصل بيوتها الجدران.