عامان على رحيل الخال: مِتونسة بحِس مين يا مصر في غيابي

من إيهاب محمود الحضري

“يا لولا دقة إيديكى ما انطرق بابي
طول عمرى عاري البدن وأنتي جلبابي
يا اللي سهرتي الليالي يونسك صوتي
متونسة بحس مين يا مصر في غيابي” هكذا صدح الخال

اليوم، الحادي والعشرين من أبريل لعام 2017، يكمل عبد الرحمن الأبنودي عامه الثاني  على رحيله، لا أحد يعرف هل لا يزال مسكونًا بالشعر، مهمومًا بمصر كعادته، أم شغلته العمة يامنه.
أبوه، الذي كان يعمل مأذونًا شرعيًا بإحدى قرى محافظة قنا، كان يكتب الشعر الفصيح، فلم يكن غريبًا أن يخرج من صلبه شاعرًا، لكن الابن تمرد على شعر أبيه، لتجذبه القصيدة العامية.
كان الأبنودي يشعر بسعادة عندما يلقي قصائده على “المصطبة” في قرية أبنود، فيجد الجالسين ينصتون في اهتمام، ويبتسمون فور انتهائه، هنا وجد الأبنودي ضالته، وعرف الطريق التي سيسلك.
براءة صفحة وجهه عبقرية
الروائي الراحل خيري شلبي في حديثه عن الأبنودي في مجلة الإذاعة والتلفزيون قال “براءة صفحة وجهه عبقرية، إنها براءة السهل الممتنع، يظنها الرائي سذاجة، ويظنها غفلًا من المعرفة والتجربة والمكايدة، وهي في الواقع اكتسبت هذه المسحة الموهوبة من فرط ما ورثته من معارف وتجارب ومكابدات، أصبحت كجراب الحاوي تظنه فارغًا وهو الذي يتمخض عن كل عجيب مثير”.
لسنوات، ظلت المقارنات تعقد بين الأبنودي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وفؤاد قاعود وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم، كل واحد منهم يمثل هرمًا في العامية المصرية، غير أن كثيرًا من الآراء ذهبت إلى أن الخال يمثل نفسه، هو مدرسة شعرية قائمة بذاتها، متفردة لا شيء مثلها.
الأبنودي المولود بالشعر
يفسر ذلك خيري شلبي: “…أما عبد الرحمن فإنه ابن مصر كلها، ولا نلمس فيه أي ملمح من شاعر بعينه من الشعراء السابقين عليه… إن الشاعر الأبنودي لم يتعلم الشعر من أحد، ولم يدرسه على أحد، إنما هو مولود به”.
الأبنودي المولود في عام 1938، ارتحل إلى القاهرة تاركًا وراءه قريته أبنود التي شهدت سنوات طفولته وصباه، ذهب إلى القاهرة بحثًا عن فرصته، التي ما إن التقط أول خيطها حتى تمسك بها ولم يدعها تفلت من يديه.
في العام 1964 خروج أول ديوان للأبنودي “الأرض والعيال” بمقدمة للشاعر والناقد سيد خميس، الذي لعب دورًا كبيرًا في حياة الأبنودي الشاعر، كما كانت له أيادٍ بيضاء كذلك على سيد حجاب الذي نشر له ديوانه الأول “صياد وجنية” بعد سنتين.
لم يكن غريبًا أن يكون عصر الرئيس جمال عبد الناصر شاهدًا على بداية العلاقة بين الأبنودي والاعتقال، إذ اعتقل للمرة الأولى عام 1966، واستمر لأربعة شهور لا ير وجه الشارع.
استمر الأبنودي في معتقله إلى أن وجه عبد الناصر دعوة إلى المفكر الكبير جان بول سارتر ليزور مصر، وافق سارتر شريطة الإفراج عن جميع المثقفين، واستجاب عبد الناصر، وبطبيعة الحال كان الأبنودي واحدًا ممن استقبلهم الشارع.
كان الخال شاهدًا على ستة رؤساء لمصر، أولهم جمال عبدالناصر، كما مر بالسادات واعترض على سياساته، وعاش عصر مبارك وشهد تحولاته الكبيرة، إلى أن استيقظ صبيحة الخامس والعشرين من يناير على ميدان التحرير يرفل في ثوب جديد مزدان بشباب أنصت جيدًا إلى فيكتور هوجو وهو يقول: “حرروا الحرية، والحرية تقوم بالباقي” فاندفعوا إلى ميدان التحرير يؤدون مهمتهم.
صدح صوت الأبنودي بعدة قصائد عن الثورة، أشهرها قصيدته “الميدان” التي كتبها قبل سقوط نظام الرئيس الأسبق مبارك، وتحديدًا مساء السادس من فبراير لعام 2011:
“أيادي مصرية سمرا.. ليها في التمييز
ممدودة وسط الزئير.. بتكسر البراويز
سطوع لصوت الجموع.. شوف مصر تحت الشمس
آن الأوان ترحلي.. يا دولة العواجيز”
غير أن الخال كان يملك نظرة أشمل من نظرة شاب ثائر، تدفعه الحماسة نحو أفعال غير مأمونة عواقبها في القريب العاجل.
كتب الأبنودي في يوليو من نفس العام قصيدته “لسه النظام ما سقطش” يقول:
“نفس الوجوه القدام لسه محاصرانا
متربصة بالأمل وبدم شهدانا
وبيلعبوا ف كل حين ميت لعبة تعبانة
ما هو اللي خد ع الخداع يحيا يموت: غادر
ثورتنا إعجاز وتعجيزها من النادر
لا حيطفوا نارها ولا صوت بحرها الهادر
وانا زي شعبي الأصيل الملهم الصابر
على قد ما بابان هزيل على قد مانا قادر
شايل في صدري الوطن وف قلبي مفتاحه
الثورة ما همدش لسه صوتها جوانا”
عندما أنهى المجلس العسكري، بعد عام ونصف، المرحلة الانتقالية وتسلم الرئيس الأسبق محمد مرسي حكم مصر، بدأ الخال يكتب مربعات تهاجم جماعة الإخوان، كان ينشر المربعات بانتظام في جريدة التحرير، إلى أن جمعها وصدرت في كتاب “مربعات الأبنودي”.
مربعان الأبنودي قدّم لها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل ليصف الأبنودي بقوله: “لا يحتاج عبد الرحمن الأبنودي إلى من يحلل الإنسان فيه، فالخلاصة في شأن الأبنودي أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر مرتحلًا إلى الشمال حاملًا معه خصب النهر العظيم ينثره حيث يصل، ويحول الطمى بالفن إلى زهر وورد، وإلى شوك أحيانًا”.
هذا هو عبد الرحمن الأبنودي الذي توفي عصر الثلاثاء الحادي والعشرين من أبريل لعام 2015، بعد أن ضعفت رئته من فرط التدخين الذي طالما حذره منه الأطباء، غير أن الخال (العنيد) لم يستجب، وانسحب حاملًا أغراضه، تاركًا خلفه سبعة وسبعين عامًا في دنيا البشر.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر