د. محمد الكحلاوي: آثارنا الإسلامية «مهانة»

تصريحات الأمين العام للآثار بعيدة عن الحقيقة.. ولو استمر هذا الوضع فلن يكون هناك أثر واحد خلال50 عامًا

الدكتور محمد الكحلاوي ضمير ثقافي، بوصلة ضرورية نلجأ إليها لمعرفة رأيه فيما يحدث في مجال الآثار. ليس فقط بحكم مناصبه المتعددة كأستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، أو كعضو اللجنة العليا للتخطيط التابعة لمجلس الوزراء، أو رئيس المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب. ولكن أيضا بحكم المعارك العديدة التي خاضها على مدى أكثر من ربع قرن دفاعا عن التراث الثقافي المتعدد الذي تحتضنه القاهرة. وامتد ليشمل دفاعه عن الآثار العربية التي كانت مهددة في أوقات سابقة، وهو ما دفعه لتأسيس اتحاد الأثريين العرب.

د. الكحلاوي ومعه عشاق لتراث القاهرة يرون أن المدينة الأهم في العالم الإسلامي تشهد اليوم تحولات لم تشهدها -ربما- منذ أكثر من ألف عام. باتت مهددة بشكل لم تشهده منذ أن قرر جوهر الصقلي تأسيسها. عن هذه التحولات والحلول المطروحة وضعنا العديد من التساؤلات التي تشغل بال أغلب المهتمين بالتراث والآثار داخل مصر أمام الكحلاوي في هذا الحوار:

 في البداية.. كيف استقبلت تشكيل لجنة لمناقشة وضع الجبانات؟

رأيي أن التعتيم على اللجنة يؤكد أن هناك جريمة. فقد جرى الإعلان عن أسماء المشاركين فيها بعد تشكيلها. ولو كانت هناك شفافية كاملة لكان من المفترض الإعلان عن أسماء أعضائها منذ البداية. وحتى يتأكد الجميع أن أعضاءها من ذوي الاختصاص، فكان لابد أن يكون نصف أعضائها من المتخصصين في الآثار. لكن ما حدث كان العكس تمامًا، فلم نجد أثريا واحد بداخلها. وهذا التخبط في تشكيل اللجنة يتعارض مع ما أمر به السيد رئيس الجمهورية والذي أوصى بالاستعانة بالأثريين والمتخصصين وهذا الأمر لم يحدث.

الأمر الثاني لابد من مساءلة ومحاكمة من أعطى الأمر بهدم التراث المصري، دون الرجوع للمتخصصين. فلولا تدخل رئيس الجمهورية لاستمر هذا العبث بتراث مصر، فهناك للأسف تطاول يحدث على التاريخ المصري عن طريق هدمه. وكان من الضروري الرجوع إلى المتخصصين لا الموظفين الموجودين داخل وزارة الآثار. لأنهم أول من ضحوا بتراث الجبانات التي سجلوها بأنفسهم ضمن حدود اليونسكو؛ لذلك أطالب بمحاكمة كل من تطاولوا على تراث مصر. أما بخصوص التعتيم على ما توصلت إليه اللجنة من قرارات فهو أيضًا جريمة، لأنه من حق الشعب المصري أن يعرف ما يحدث في تراثه، فهو ليس ملكًا لفرد أو جهة، لكنه ملك لجميع أفراد الشعب المصري.

 إذن ما الخطوة التي يجب أن تُنفذ خلال الفترة القادمة؟

من الضروري إعادة ترميم وبناء جميع المقابر التي هدمت خلال الفترة الماضية. وأن تعاد إلى ما كانت عليه، كما أنه من الضروري وقف فكرة تنفيذ الحدائق المزمع إنشاؤها في حيز المقابر لأنها ستضيف مياه جديدة وستتسرب إلى داخل المقابر الموجودة حاليًا. لذلك فالأمر سيعرض المقابر الموجودة حاليًا للخطر الشديد والهدم خلال السنوات المقبلة.

ولكن كيف تنظر لما يحدث داخل القاهرة التاريخية بشكل عام؟

ما يحدث داخل القاهرة التاريخية هي مخالفات خطيرة قد تمحو ذاكرة مصر التاريخية والحضارية. فما تم تنفيذه داخل جبانات القاهرة –على سبيل المثال- خلال السنوات الأخيرة، كان سببه الاختناق المروري، والرغبة في التحديث. وهذه المشروعات بالمناسبة نحن نقبلها، لكننا نرفضها إذا كانت على حساب مقدرات مصر التراثية، والتاريخية.

البعض يرى أن هناك ردود رسمية تصدر عن وزارة الآثار في مثل هذه المواقف تقول إن ما يحدث لا يمس المباني الأثرية بأي شكل من الأشكال.. هل تتفق مع وجهة نظرهم؟

لا أتفق أبدًا معها.. ما يحدث من اعتداءات تحت اسم «مشروعات» يحدث على مواقع أثرية بنسبة 100% ومن يدعي غير ذلك فهو يساعد ويؤكد على مشروعية ضياع ذاكرة هذه الأمة الإسلامية. فمنطقة الجبانات تحديدًا هي أقدم منطقة إسلامية داخل إفريقيا بأكملها، وهي تبدأ من غرب النيل، وحتى الشرق ناحية المقطم، وجنوبًا عند حصن بابليون. أما الجانب الرابع فهو الامتداد العمراني لمصر الإسلامية. إذن فنحن أمام منطقة محددة شهدت الفتح الإسلامي لمصر، وشهدت أول وجود لدولة إسلامية داخل إفريقيا، وهي مصر. وهي منطقة محددة بحدود جغرافية واضحة، أما الخط الشرقي لها فهي قرافة القاهرة. وقد اتفق المؤرخون أن صحابة النبي والتابعين دفنوا جميعًا شرق جامع عمرو بن العاص؛ أي منطقة القرافة الصغرى والكبرى الآن، وهذا النطاق الجغرافي معروف للجميع.

إذن فالموقع أثري بحكم التاريخ، وأيضًا بحكم قانون الآثار. فعندما سجلت آثار القاهرة الإسلامية في اليونسكو سجلت هذه المنطقة ضمن نطاقها؛ وبعدها تخلت نفس الجهة -الآثار- عن أثرية المقابر الموجودة داخل المنطقة. لذلك فهذا التخلي هو تقاعس واضح، وترك للمسؤولية، ويجب محاسبتهم على الأمر، لأن كل ما على هذا الموقع اكتسب صفة الأثر. وهذه مشكلتي الرئيسية معهم، فالموقع له حماية بحكم القانون. أما الشق الثاني فما حدث من عمليات تجريف لهذه المنطقة مرفوض وفقًا للقانون والدستور، وأيضًا قانون الآثار، ومواثيق اليونسكو. لذلك يجب أن يفتح تحقيق ومساءلة للمتسببين في عدم تسجيل هذه المقابر ضمن عداد الآثار. فهناك قرار وزاري منذ عام 2015 يوصي بحتمية تسجيل المدافن، لكن القرار لم يفعل، حتى تلك اللحظة.

**

أما رؤيتي كأثري فأنا في غاية الحزن، والألم، والبؤس على ما حدث، فنحن ندافع عن حقيقة واضحة وضوح الشمس. لكن البعض ينكرونها، لحماية مصالحهم الشخصية، وحماية كراسيهم الوظيفية، جميع القضايا التي حملت رؤية ضد المشروعات الحكومية على المواقع الأثرية، لم تبدأ من جانب وزارة الآثار. لكنها بدأت من جانبنا نحن كمتخصصين وعلماء للآثار. وبالمناسبة لن تجد موظفًا يمكنه أن يقف أمام رئيسه في الجهة الحكومية. ففي قضية باب العزب، أرادوا وقتها تغيير خرائط القاهرة التاريخية لإخراج المنطقة المحاطة بباب العزب للسماح ببناء أبراج، ونحن تصدينا لهذا المخطط في هذا التوقيت، ومنعنا المشروع بشكل كامل، لأن المنطقة أثرية وتقع ضمن حدود حرم قلعة صلاح الدين.

لكن الوضع اختلف عن الماضي.. منذ سنوات كان المسؤولون في الآثار يسمحون بمناقشة وجهات النظر المختلفة ويتراجعون في كثير من الأحيان عن مواقفهم.. كيف ترى موقف الآثار حاليًا؟

ما يقوم به الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري حاليًا، بإدعائه أن منطقة القرافة غير مسجلة كأثر، أمر بعيد عن الحقيقة. وهي تصريحات من «العيب» أن تخرج منه لكونه أمين عام على الآثار في المقام الأول، وهو بتصريحاته تلك يحيد عن الحقيقة، من خلال هذه المواقف التي ينكر فيها أثرية هذه المواقع. وهو بذلك لا يقوم بدوره كـ«موظف»؛ لذلك أنا أتحفظ على مواقفه بشكل كامل، فنحن ليس بيننا أي خلاف شخصي، لكن أنا هنا أتحدث عن واقع آثار يحاول البعض شرعنة هدمها. هؤلاء للأسف يحاولون تلميع أنفسهم على حساب الآثار والتراث، فهم لم ينزلوا أو يعاينوا هذه المواقع التي جرى هدمها، وهم غير مهتمين أصلًا بمواقع الآثار الإسلامية.

مقابر القاهرة التاريخية.. تصوير: كريم بدر
مقابر القاهرة التاريخية.. تصوير: كريم بدر

لذلك أؤكد أن ما يحدث هو خلل إداري مكتمل الأركان، وللأسف كثير من هؤلاء الموظفين «يلمعون» أنفسهم على حساب هذا التراث، والثمن في النهاية أننا نفقد أشياء لن تعوض أبدًا. وللأسف الشديد فأغلب هؤلاء الموظفين كانوا طلاب عندنا. ونحن لم نبخل عنهم أبدًا بأي معلومة بل بالعكس كنا صادقين معهم، لكنهم للأسف حادوا عن الحقيقة في النهاية. فهذه هي المأساة من وجهة نظري وهو أمر يدعوني للحزن. فنحن عندما نقول لهم الآن أن ما يفعلوه يمثل تهديدًا لآثار وتراث مصر، لا يصدقوننا ويتبعون أهواء رؤساءهم، ويكذبوننا، وكأنهم معهم الحقيقة كاملة.

كثيرون يعتبرون أن موقف الوزارة من الآثار الإسلامية هو التهميش دائمًا.. هل ترى ذلك أيضا؟

هذا السؤال جيد لأنه يحيلنا لتساؤل مهم.. هل رؤية الوزارة للآثار الإسلامية هي رؤية سوية؟ الإجابة لا.. فالوزارة ترى أن الآثار الإسلامية عبء عليها. لأنها بالنسبة إليهم لا تجذب الكثير من السياحة الخارجية، أو حتى الداخلية، لذلك فالرؤية واضحة. وهذه الصورة تنعكس على ما يقوم به الأمين العام بشكل مستمر. وحرصه الدائم على التواجد في منطقة الأهرامات وغيرها من المواقع الأثرية للإعلان عن كشوفات جديدة. لكن بالنسبة للآثار الإسلامية فالأمر مختلف فالبئر الذي تم اكتشافه في منطقة السيدة عائشة، لم يقم الوزير ولا الأمين العام بالذهاب لتفقد الموقع. فهم أساسًا لا يهتمون بالأمر، والآثار الإسلامية لا تشغلهم، وهذه هي المشكلة الأساسية.

إذن كيف يمكن استغلال ما نملكه من آثار إسلامية بدلاً من خيار الهدم؟

الأمر يمكن النظر إليه من خلال الدول المجاورة لمصر فتركيا على سبيل المثال، لا تمتلك سوى الآثار الإسلامية، والتي لا تضاهي قيمة ما تملكه مصر من آثار إسلامية. لكن تركيا في المقابل استطاعت بفضل ما تملكه من آثار إسلامية جذب حوالي 35 مليون سائحا بشكل سنوي. ونفس الأمر ينطبق على الهند، فهي دولة بوذية إلى حد كبير، لكن أعظم أثر لديها هو «تاج محل»، وهو أثر إسلامي، يأتي إليه الملايين سنويًا لمشاهدته. كذلك إسبانيا فهي من أكثر الدول الجاذبة للسياح في العالم بمعدل يقترب من الـ65 مليون سائحا، فهؤلاء جميعًا يتجهون لجنوب الأراضي الإسبانية. وهذا الجنوب يضم بداخله مناطق أندلسية، وقرطبة، وغرناطة، وملقا؛ إذن فالآثار الإسلامية هي مورد رئيسي للسياحة في العالم كله، لكن نحن في مصر رغم امتلاكنا لرصيد أثري كبير من الآثار الإسلامية إلا أننا نتركها مهملة.

والمشكلة من وجهة نظري أن معظم من جاءوا على كرسي الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار كانوا متخصصين في الآثار الفرعونية. لذلك فهم لم يدعموا الآثار الإسلامية بأي شكل من الأشكال، ويلقون دائمًا بمشكلاتها على كاهل المحافظة ووزارة الأوقاف. أرى أن الآثار الإسلامية نُكبت بالمسؤوليات المتعددة التي ألقيت عليها، وذلك تعدد الجهات المتداخلة فيها. فالوزارة بدلًا من أن تسجل الآثار الإسلامية تقوم بشطبها. وهم في المقابل لا يجرؤون على شطب أي أثر فرعوني مهما كان.

**

ووزارة الأوقاف بدورها لا تريد أي أثر، وهذا ما فعلوه في المطرية عندما قامت الآثار برفع تمثال أثري بطريقة مهينة من موقع تابع لوزارة الأوقاف. لذلك نحن أمام كوارث متعددة تقوم بها وزارة الآثار. فقد امتنعت منذ سنوات عن تسجيل الآثار إلا فيما ندر، وامتنعت أيضًا عن ترميم الكثير من الآثار الإسلامية، لهذا فهي تلجأ للشطب في النهاية. ولذلك أرى أن رؤية الوزارة للآثار الإسلامية هي رؤية ليست صحيحة وليست في محلها. وهو ميراث بالمناسبة نعانيه داخل كليات الآثار في مصر، فالعدد الأكبر من الطلبة يتوجهون لدراسة الآثار الفرعونية.

وهذه الرؤية ورثتها الوزارة أيضًا، والتي أصبحت حكرًا على الأساتذة «الفراعنة»؛ لذلك فأقصى ما يصل إليه موظف الآثار الإسلامية هو أن يتولى رئاسة القطاع للأسف، وعندما يصلون إلى مناصبهم يساعدون في عمليات شطب الآثار. وهذا ما قام به ابننا الدكتور أسامة طلعت، لأنه في هذه الحالة تحول لموظف، لكن لو كان بعيدًا عن موقع المسؤولية لجرم ما يحدث من شطب وهدم للآثار الإسلامية. فهذه هي لغة الكراسي، ولغة المناصب التي يقوم بها الموظفون. لذلك أرى أن الآثار الإسلامية مهانة وأغلب ما يحدث لها من ترميم يكون من خلال منح، والأمين العام ينظر لها بنظرة دونية، ولهذا يتبنى شطبها. وأنا أدعوهم جميعًا لدارسة ما حدث في تركيا، والهند، وإسبانيا، والمغرب أيضًا. فنحن نملك الكثير من الآثار الفريدة لكننا لا نملك رؤية صحيحة للأمور.

في النهاية.. هل أنت متفائل بخصوص وضع القاهرة؟

القاهرة لو استمرت على هذا النحو، أقسم بالله فلن يكون هناك أثر إسلامي واحد خلال الـ50 سنة القادمة. لأن التعديات على الآثار وصلت لمرحلة لا يمكن تصورها، فالأثر يتأثر بمحيطه، وهو موجود داخل نسيج عمراني. وهذا المحيط العمراني عندما يتضرر فالأثر سيتأثر بدوره بكل هذه الأمور. لذلك الحل هو ترميم وصيانة الآثار الموجودة داخل القاهرة والاهتمام بمحيطها العمراني، بل وإعادة تأهيلها بأسلوب علمي. وأنا لست متفائلًا للأسف الشديد، فجميع المشروعات التي رفضناها من قبل، يتم تنفيذها الآن للأسف الشديد. كذلك فمواقع الآثار الإسلامية داخل القاهرة وخصوصًا الآثار الموجودة داخل جبانة المماليك آيلة للسقوط. فنحن أمام كارثة حقيقية، لأن كثير من الأعمال التي تجري داخل الجبانات تتم بطريقة عشوائية. فنحن نحتاج خطة عاجلة للترميم الدقيق، وصيانة، وحفظ المناطق الأثرية والتراثية، لأنه لو لم يتم التدخل العاجل فأعتقد أن القاهرة ستفقد الآثار الموجودة بداخلها خلال الـ50 عامًا المقبلة.

اقرأ أيضا:

د.محمد الكحلاوي: وزارة الآثار ليست وزارة للاستثمار

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر