«ابن الطويل».. واستعادة الفسطاط الضائعة

قليلة هي الكتب التي تجبرك على التفاعل معها، تفتح لك أبواب معرفية جديدة، تجبرك على إعادة النظر في مسلماتك، تبهرك بلغتها الساحرة المتينة. من حسن حظك أنك تجد كل هذا عند الباحث التاريخي والشاعر عبدالرحمن الطويل، في كتابه (الفسطاط وأبوابها) والصادر عن دار العين حديثًا. فهنا أنت أمام كتاب مختلف، يصحبك في رحلة عبر 14 قرنا من تاريخ مصر عبر بوابة الفسطاط، التي تعد إحدى ورثة منف، وأصبحت قاعدة البلاد لقرون قبل أن تسلم الراية للقاهرة؛ التي ابتلعت كل المدن من حولها.

يصول ابن الطويل ويجول في كتابه عن الفسطاط التي لا يعرف القارئ غير المتخصص إلا صورة مضببة عنها، ذكرى باهتة ربما تتعلق بلافتة حديقة الفسطاط، أو معلومة مجتزئة في كتاب مدرسي. لكن الوضع ليس أفضل بين المتخصصين فمعلوماتهم كلية عن المدينة التي كانت تقارن ببغداد حاضرة خلافة بني العباس. وهي معلومات ينقصها العمق والتقصي، في ظل تحامي الجميع دراسة النصوص التي تتعلق بالمدينة، وهي المهمة التي تصدى لها عبدالرحمن الطويل بعد طول إهمال للفسطاط وتاريخها، فكان على قدر التحدي.

يقدم صاحب الفسطاط في القسم الأول من كتابه مغامرة مكتوبة بحرفية مؤرخ ولغة أديب شاعر لقصة الفسطاط منذ بدايتها الأولى. ويقدم إشارات ذكية للعلاقة بين موقع مدينة منف الذي أثر في ميلاد حصن بابليون القديم. ثم شقيقه الأحدث والذي نعرفه باسم قصر الشمع، وصولا إلى موقع الفسطاط، لترث الأخيرة مزايا موقع قدره المصريون منذ فجر تاريخهم. ما يجبرنا على إعادة النظر في هذا الإقليم الحضري الذي يظل حتى يوم الناس هذا هو أكثر الأقاليم المصرية كثافة. خصوصا بعد استبحار العمران من القاهرة والجيزة إلى المدن الجديدة والضواحي.

ثلاثية النجم

يعتمد الطويل تقسيمة ثلاثية للتأريخ للمدينة، إذ يشبهها بالنجم في لحظة الميلاد ثم اكتماله وازدهاره، ثم اللحظة التي يهوى فيها. وهنا نشعر بنفس خلدوني في التقسيم الثلاثي لحياة مدينة الفسطاط. إذ عرف الأخير بنظريته الثلاثية عن أطوار الدولة في ما قبل العصر الحديث. لكن الطويل وسع من الفكرة ومدها على استقامتها وتابع في إصرار ثنائية الازدهار والخراب التي عرفتها الفسطاط. حيث أثبت أن هذه الثنائية في كثير من الأحيان تزامنت. وأنه لم يُكتب شهادة وفاتها بعد حريق شاور الشهير في نهاية العصر الفاطمي. إذ استعادت المدينة بعض ألقها وقاومت عوامل الانحلال لقرون.

جانب آخر يكشفه الكتاب وهو العلاقة الندية بين القاهرة والفسطاط، فالأولى ظهرت إلى الوجود في منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. في وقت كانت الثانية في عز مجدها وقد تخطت القرن الثالث من عمرها. فاستأثرت القاهرة لنفسها المكانة السياسية والعسكرية. بينما احتفظت الفسطاط لنفسها بمكانتها التجارية والثقافية والثقل السكاني. ليبدأ الصراع بين الضرتين. والذي انتهى بمحض قرارات فردية لحكام ورجال من العامة عبروا في نهر التاريخ. فكان لهم كلمة الحسم لصالح القاهرة على حساب الفسطاط، التي لازمها سوء حظ جعلها في مهب الريح.

يختم الطويل القسم الأول من كتابه مع إسدال الستار على الفسطاط كمدينة منافسة للقاهرة، بقول: “وهكذا، من مطلع القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، طويت صفحة الفسطاط المدينة، وباتت ضاحية تابعة للقاهرة، وميناء نهريًا ترد إليه تجارات الجنوب فقط. وخلال هذا القرن هلك آخر جيل شهد آخر عصور عزها ومجدها، وتنازلت عن اسم (مصر)، تنازلًا مستحقًا للقاهرة، لتحمل بعده اسمها التقاعدي التشريفي (مصر القديمة)”.

مدينة الفسطاط
مدينة الفسطاط 
مفاتيح المدينة

في القسم الثاني من الكتاب -وهو الأكبر- يستعرض الطويل أبواب مدينة الفسطاط عبر تاريخها الكبير. وهنا نلتقي بجهد خططي على نهج كتاب الخطط الكبار من طراز الكندي والقضاعي وابن المتوج وابن دقماق. فما يقدمه عبد الرحمن الطويل من جهد وتقصي وبحث لإعادة معالم الفسطاط المندثرة وإعادتها إلى الذاكرة التاريخية، أمر يستحق الإعجاب والإشادة. وهو يكشف عن نفس مؤرخ خططي يستعيد تراث فن مصري أصيل هو التأريخ للمدن وتفاصيلها العمرانية، كما يجعل عمله الفذ فهمنا للعاصمة المصرية ككل أعمق.

في حديث المؤلف عن أبواب مدينة الفسطاط تتجلى قدراته البحثية والخططية فهو يقدم لأول مرة أمام المتخصصين وغير المتخصصين مفاتيح المدينة التي يمكن من خلالها تلمس الخطى في أطلال الفسطاط. واستيضاح المعالم المندثرة، واكتشاف الطبقات التاريخية التي راكمتها المدينة خلال رحلتها عبر القرون والعصور، وهو في ذلك يقدم لأول مرة تحليلا معمقا لما جاء في المصادر. بعد أن جمع شذرات المعلومات من هنا وهناك في صبر ودأب، ليتتبع ما جاء عن أبواب المدينة في فتراتها الزمنية المختلفة بين الازدهار والانكسار، بمهارة شديدة لدمج المعطيات الحديثة للمكان مع تاريخه القديم. وهي مغامرة لن أحرقها على قارئ للكتاب، لأنها تستحق أن تخاض.

تنقص الكتاب خريطة كبيرة توضح معالم الفسطاط كما ذكرها الطويل مستخدما كل ما أتيح تحت يده من معلومات وصورا بالقمر الصناعي. وهو أمر يحتاج إلى مجهود منفصل ودعم من مؤسسات رسمية. لأن الأمر لن يقتصر على خريطة واحدة بل مجموعة من الخرائط تعبر عن نمو الفسطاط وصولا إلى ذروة توسعها العمراني. ثم انكماشها واندثارها في النهاية، مع إعطاء صورة حديثة لمصر القديمة، وعليها الأماكن المندثرة. لتكون علامة استدلالية لكل عمليات التنقيب الأثري في المستقبل. وهو أمر سيلعب كتاب (الفسطاط وأبوابها) دور المرشد الأمين لها إذا توفرت النية لذلك.

القاهرة القديمة (الفسطاط)
القاهرة القديمة (الفسطاط)
بداية المجتهد

نجح عبدالرحمن الطويل في بناء رؤية تاريخية متماسكة قدمت بوضوح للقارئ غير المتخصص كل ما يتعلق بتاريخ مدينة الفسطاط الغائبة عن الذاكرة الجمعية للمصريين المعاصرين. بسبب عوامل الاندثار، وغياب الاسم خلف مسمى مصر القديمة. فضلا عن هيمنة القاهرة على سردية العاصمة المصرية، وأهمية الكتاب أنه مبني على قراءة مدققة وصبورة للمصادر التاريخية المراوغة. وبحث مضني على الأرض بين أطلال الفسطاط وعمران مصر القديمة. وكل ذلك مغلف بلغة عربية فحلة تعيد لنا نفس مؤرخي الخطط في الكتابة عن المدينة.

المبشر أن الطويل يعترف أن الكتاب الذي يأتي ليسد ثغرة في الدراسات التاريخية حول مدينة الفسطاط لن يكون نهاية المطاف. فكما سبق وأن شارك بفصل عنها، في الكتاب الجماعي (القاهرة مؤرخة) بتحرير العلامة نزار الصياد جاء كتاب (الفسطاط وأبوابها) كخطوة ثانية أكبر في مشروع يعد الطويل بأن يتابع حلقاته في المستقبل القريب. اعتمادا على المادة المعلوماتية الضخمة التي جمعها على مدار سنوات.

يقول عبدالرحمن الطويل في كتابه: “ولما كانت المادة الخططية الفسطاطية شديدة الضخامة وتحتاج إلى جهد ووقت طويل. وكان الانتزاء عليها كلها مرة واحدة عملًا شديد المخاطرة والمجازفة. فقد فضلنا تقسيمها والابتداء بدراسة خططية مفصلة لأبواب الفسطاط التي وصلتنا عبر المصادر. ونرجو من الله العون والقوة على إخراج أقسامها الأخرى في قابل الأيام”.

***

نحن أمام عمل خطير في بابه، عزيز في فنه، بديع في لغته. يبشر بإحياء الدراسات التاريخية والأثرية والخططية حول المدينة المنسية. ويعطي زخمًا للدراسات الخططية، ويكشف عن ميلاد باحث متمكن الأدوات مخلص لعمله، محب للمدينة التي تخصص في الكتابة عنها. فمنذ عمل المستشرق الفرنسي بول كازانوفا الذي مر عليه أكثر من قرن. لم يتصد أحد لمثل هذا العمل، لكن الطويل مضى بالبحث في الفسطاط خطوات واسعة إلى الأمام. واقترب بشدة من إماطة اللثام عن وجهها المنسي.

اقرأ أيضا:

القباب الفاطمية.. سحر الحكايات في أسوان

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر