«الأرغول».. محاولات لإحياء تراث آلة الريف المصري

قد يبدو أن أشهر موقف يتذكره الجمهور لآلة الأرغول هو لحظة الدخول التأسيسي لشخصية “مسعود”، التي جسدها الفنان الراحل سمير غانم في مسرحية “المتزوجون”، حين ظهر وهو يعزف على آلة نفخ طويلة في زفاف صديقه “حنفي” (جورج سيدهم)، ثم يتضح لاحقا أن العريس هو مسعود نفسه.
إلا أن شهرة الأرغول أعمق من هذا المشهد المسرحي، إذ كانت آلة النفخ الأساسية في أداء مواويل المطرب الشعبي محمد طه (1922-1996)، كما ارتبطت بالغناء الريفي في الحقول بين القرويين.
الأرغول.. مبادرة “صوت الأصيل“
يحاول العازف أمين شاهين، حاليا بدء مرحلة ثانية من مشروعه “صوت الأصيل”. لتدريب الصغار على العزف على الأرغول وتأسيس فرقة فنية منهم. وذلك بعدما أنهى المرحلة الأولي بدعم من مشروع “خارج حدود العاصمة” لمعهد جوته القاهرة في نوفمبر الماضي.
ويقول شاهين لـ”باب مصر – بحري”: “نجتمع أسبوعيا يوم الجمعة للتدريب والعزف على الأرغول. ضمن المرحلة الثانية من مشروع “صوت الأصيل”، كي يستمر الأطفال في التعلم. والمشاركة في عروض الفرقة الفنية على المسارح في الحفلات الرسمية”.
ويصف أنه نشأ في بيئة فنية بقرية شطانون التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية. حيث كان والده عازفا على آلة “الكولة”، وأعمامه من عازفي الأرغول. وبدأ هو نفسه تعلم الكولة في سن السابعة بعدما أغوته من مشاهدة عزف أبيه في الحفلات. ثم انتقل لتعلم الأرغول في مرحلة لاحقة. حتى انضم إلى فرقة النيل للفنون الشعبية كعازف على هذه الآلة وهو في الثامنة عشرة.
في عام 2022، أطلق شاهين مشروع “صوت الأصيل” لتعليم فنون العزف على الآلات الشعبية المصرية القديمة. وتحديدا آلة الأرغول، في محاولة للحفاظ عليها من الاندثار. نظرا لقلة عدد عازفيها وصانعيها، وتقدم أعمار العازفين الحاليين.
الأرغول.. تراث الريف المصري
في كتابه “في الريف المصري” الصادر عام 1928، وصف الكاتب مصطفى علي الهلباوي موسيقى الريف بقوله: “في الريف حياة اللهو بسيطة لا تزال على مسحة البداوة الريفية لا تحركها بواعث الحياة. بل هادئة ناعسة حاملة في الماضي. فلا يعرف الفلاحون من أدوات الموسيقى إلا الأرغول والمزمار البلدي والسلامية. وقد يكون لهذه الموسيقى الريفية جمال”.
ويضيف: “الأرغول والسلامية هما كل ما يعرفه الفلاح من آلات الموسيقى. وكثيرا ما يحمل أرغوله ومزماره ويترنم به في الغيطان والحقول الساكنة الحالمة. ليرفه عن نفسه عناء العمل، وليُهدهِد به أغنامه”.
وبينما كانت هذه الآلات منتشرة بين الفلاحين قديما. تشير مبادرة “صوت الأصيل” إلى أن الأرغول لم يعد آلة يومية في الريف المصري، ما ينذر بانقراضه من التراث الحي.

كيف يٌصنع الأرغول؟
بحسب “أطلس المأثورات الشعبية” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يصنع الأرغول من قصب الغاب. ويتكون من قصبتين متساويتين في الاتساع، متلاصقتان ومتوازيتان، إحداهما أطول من الأخرى. يمكن تزويد القصبة الطويلة بوصلات إضافية. أما القصيرة فقد فتح على جدارها ستة ثقوب في خط مستقيم.
وفي مقدمة كل من القصبتين (من أعلى) ركبت ريشة مفردة مجهزة من قصب الغاب. تحدثان الصوت إذا وضعهما العازف في فمه ونفخ، ويصدر عن القصبة الطويلة في الأرغول نغمة واحدة تصاحب على نحو دائم الألحان. التي تصدر عن القصبة القصيرة المثقبة.
ويتوار الأرغول في أحجام متباينة داخل مصر، يصل طول أصغرها إلى 50 سم. بينما يصل طول أكبر الأراغيل حجما إلى 210 سم، وهذا الحجم الكبير يندر وجوده اليوم. إذ يكتفي العازفون المحترفون المعاصرون باستخدام الأحجام الصغيرة من الأرغول.
وهي النسخة المماثلة لآلة الأرغول، وتوجد في أحجام ومقاسات مماثلة لأحجامه ومقاساته. لكن القرمة- مع ذلك- تصنع من قصبتين متساويتين في الطول والاتساع وتُجهَّز بدون الجزء الزائد في القصبة الطويلة المستخدمة في الأرغول. وكذلك لا يركب في القرمة وصلات إضافية في القصبة الخالية من الثقوب.
أقدم الآلات الموسيقية
في كتابها “الأدب الشعبي”، وصفت الدكتورة أماني الجندي الأرغول بأنه من أقدم الآلات الموسيقية التي عرفها المصريون. وأبناء الريف يطربون له لنغماته القوية التي توافق مزاجهم. وكان الفتيان في الريف يصنعونه من عيدان البرسيم الغليظة، أو عيدان حطب جوفاء. فإذا كبروا وقويت أفواههم صنعوه من الغاب. ثم يطلقون أنغامه وراء أغنامهم، أو ماشيتهم السارحة على جسور الترع بين الحقول.
وتسهب الجندي في الشرح وتقول: “يغني الفنانون الشعبيون الموال على الأرغول. ويسميه الباحثون في تاريخ الأدب المواليا، ويرجعه بعضهم إلى جارية للبرامكة. كانت تنوح عليهم بعد نكبتهم، وترثيهم وهي تصيح في آخره «واموالياه»، فأُثر ذلك عنها وأسموه المواليا”.
مستقبل الأرغول
يقول أمين شاهين: “استمر في المرحلة الأولى من مشروع “صوت الأصيل” نحو 20 عازفا من الأطفال من عمر 10-18 عاما. نصفهم تقريبا من يحضر التدريب الأسبوعي حاليا. ومنهم من يشارك مع فرقة فنية تحمل نفس الاسم في أداء المنوفية والقاهرة، وفعاليات وزارة الثقافة. ما يمهد لأن يكون للآلة عازفين جدد”.
ويتابع: “الجهد للحفاظ على تراث الأرغول صعبا على مبادرة فرد أو فرقة واحدة، ويحتاج إلى دعم مؤسسي. لذا لجأت لمنح الإدارة الثقافية بمعهد جوته وحصلت على منحة. وأسعى حاليا للمرحلة الثانية للمشروع ودعم جديد”.
أرغول حداثي
يرتبط صوت آلة الأرغول بالغناء الشعبي للموال في ريف وصعيد مصر. سواء بمواويل محمد طه المسجلة في الإذاعة المصرية. إلا أن هذا الارتباط فتح المجال ليكون صلة بين تجارب لإعادة توزيع الأغاني بصورة حداثية بدأت بعدما أغرم الموسيقي الفرنسي جيروم إيتنجر، مؤسس فرقة “المشروع المصري”. وأنتج أغنيات صوفي وتراثية ومزجها بموسيقى إلكترونية. ثم يصدح صوت الأرغول في الموسيقى التصويرية لفيلم “الفيل الأزرق” ومسلسل “فارس القمر” على شبكة نتفليكس.
اقرأ أيضا:
معرض فني يوثق أول طابع بريد للكشافة المصرية في المتحف القومي للحضارة
«أم الخلول».. أكلة شعبية تحولت إلى تراث يُغنّى
هنا عاش أيقونة البوب الفرنسي كلود فرانسوا.. الغريب الذي صار «ابن الإسماعيلية»