مئذنة تحتضر وقبة دُفنت بلا نداء.. هل تُنقذ المنصورة أقدم مساجدها؟

في مدينة لا تلتفت إلا لمن يصرخ، يقف مسجد الملك الصالح أيوب كأنّه حجرٌ ينطق بالتاريخ ويئنّ من الإهمال. مرّت عليه قرون من السجود والدعاء، وشهد قيام المنصورة وامتداد عمرانها، لكنه اليوم يتآكل في صمت. سقطت قبته منذ سنوات دون أن تهتز وزارة، أو يصدر تصريح، أو تتحرك جهة واحدة.

أما مئذنته، فتبقى شامخة، لكنها تواجه خطر الإهمال، وسط قلق الأهالي وخوفهم من أن يلحق بها ما لحق بسقف المسجد. مأساة جديدة تُضاف إلى سجل طويل من التجاهل، حيث تُترك الكنوز التاريخية للموت البطيء دون حساب.

بداية الحكاية.. من زمن الدولة الأيوبية

يرجّح المؤرخون أن المسجد أنشئ عام 616 هجريًا، الموافق 1219 ميلاديًا، خلال عهد السلطان الصالح نجم الدين أيوب، أحد آخر سلاطين الدولة الأيوبية.

ولم يكن البناء مجرد بيتٍ للصلاة، بل كان نواة حضارية وروحية لمدينة لم تكن قد ولدت رسميًا بعد، فالمنصورة لم تؤسس إلا بعد هذا التاريخ بسنوات، عقب معركة فارسكور سنة 1250.

ويعد هذا المسجد الأثر الأيوبي الوحيد الباقي في المدينة، ومن أقدم المساجد الباقية في الدلتا كلها. ورغم هذه القيمة، لم يسجل كأثر إسلامي حتى اليوم، ولم يحظَ بأي حماية أو صيانة جادة، وكأن تاريخه لا يعني شيئًا.

تضرر جدران مسجد الملك الصالح أيوب في المنصورة
تضرر جدران مسجد الملك الصالح أيوب في المنصورة
بناء “معلّق”.. بطراز خاص

المسجد مكون من طابقين، في تصميم معماري نادر يعرف بـ”المسجد المعلّق”. الطابق الأرضي يضم بهوًا وعدة غرف ومداخل رئيسية، وقد اقتُطع جزء من مساحته لصالح محلات تجارية تطوّق المبنى وتشوّه محيطه.

أما الطابق العلوي، الذي يصل إليه المصلون عبر سلم خشبي، فيضم قاعة الصلاة الرئيسية، وسقفًا خشبيًا تراثيًا، ومنبرًا يدوي الصنع، وزخارف أرابيسك تقليدية. كانت القبة تعلو هذا الطابق وتمنحه الهيبة، إلى أن سقطت منذ سنوات، دون أن يحرك ذلك ساكنًا.

مأساة تفجير 2013.. بداية الانهيار

في ديسمبر 2013، هزّ تفجير إرهابي ضخم مديرية أمن الدقهلية الواقعة على بعد أمتار من المسجد. تسبب الانفجار في مقتل وإصابة العشرات، ودمّر واجهات المباني المحيطة، وكان مسجد الملك الصالح أيوب من أكبر المتضررين.

تطايرت النوافذ الملونة، وسقطت الزخارف والنقوش الخشبية، وتشقق السقف العلوي، وتعرضت أجزاء واسعة من المسجد للدمار. وحتى اليوم، ما زال نصف المسجد تقريبًا يعاني من آثار هذا التفجير، دون ترميم حقيقي.

واكتفي بجمع ما أمكن من القطع الساقطة والاحتفاظ بها مؤقتًا داخل مصلى السيدات، انتظارًا لتدخل لم يأتِ بعد، بينما لا يزال المسجد يستخدم كأن شيئًا لم يكن.

الإهمال في مسجد الملك الصالح أيوب في المنصورة
الإهمال في مسجد الملك الصالح أيوب في المنصورة
القبة التي سقطت.. والمئذنة التي تقلقنا

في مشهد يلخص حجم الإهمال، سقطت القبة الرئيسية للمسجد، نتيجة تآكل الأعمدة الداخلية وضعف التسقيف، دون أي تحرك رسمي. مرّ الحدث في صمت، دون بيان أو تدخل من هيئة الآثار، وكأن انهيار أحد أبرز أجزاء المسجد التاريخي أمر لا يستحق التوقف عنده.

أما المئذنة، التي لا تزال قائمة حتى اللحظة، فتثير القلق في نفوس الأهالي والمصلين، خاصة مع غياب أي عمليات صيانة أو متابعة. يخشى كثيرون أن يؤثر الإهمال المستمر على سلامتها، خصوصًا في منطقة مزدحمة بالمحال والمارة.

لا تسجيل.. لا حماية

أكدت النائبة د. ضحى عاصي، عضو لجنة الثقافة بمجلس النواب، أن المسجد، رغم أهميته، لم يسجل كأثر حتى الآن، ولا يدخل ضمن خطة حماية التراث في وزارة الآثار، ما يعني أن عمليات الترميم- إن وجدت- لا تخضع لأي إشراف علمي أو هندسي متخصص، بل تظل محاولات بسيطة غير كافية.

وأشارت إلى أن لجنة من وزارة الآثار عاينت المسجد في عام 2015 ورفضت تسجيله بدعوى تأثر أصالته بترميمات سابقة.

لكن في 21 يوليو 2024، رفعت لجنة أثرية جديدة تقريرًا يفيد بأن المئذنة ما زالت تحتفظ بحجارتها القديمة الأصلية ويمكن تسجيلها كأثر وترميمها وفق المعايير، وهو تطور إيجابي محدود، لكنه لم يترجم حتى اللحظة إلى خطوات عملية.

الإهمال في مسجد الملك الصالح أيوب في المنصورة
الإهمال في مسجد الملك الصالح أيوب في المنصورة
محاولات أهلية.. تصطدم بالتجاهل الرسمي

رغم التجاهل، لم يكن المجتمع المحلي غافلًا عمّا يتعرض له المسجد. فقد بذلت مبادرة “أنقذوا المنصورة”، المهتمة بحماية تراث المدينة، جهودًا كبيرة خلال السنوات الماضية للفت الانتباه إلى خطورة الوضع، عبر توثيق الأضرار، وإطلاق حملات توعية، ورفع مطالبات رسمية بشأن ضرورة إدراج المسجد ضمن قائمة الآثار الإسلامية.

وقد سبق للمبادرة أن تقدّمت بعدة طلبات رسمية إلى وزارة الآثار لضم المسجد إلى قوائم التسجيل، كما رفعت مخاطبات لمحافظة الدقهلية تطالب بعمل تنسيق حضاري للمنطقة المحيطة، خاصة واجهات المحلات الواقعة أسفل المسجد، لما تمثله من تشويه بصري للمبنى التاريخي.

كذلك نسّقت المبادرة مع النائبة ضحى عاصي في تقديم طلب إحاطة رسمي بالبرلمان بشأن ضرورة حماية المسجد. وأكدت النائبة أنها “مكملة في هذا الملف، وستسلك كل السبل القانونية والدستورية المتاحة لتسجيل المسجد كأثر”، مشددة على أن المبنى ليس مجرد تراث محلي، بل جزء من ذاكرة مصر الإسلامية في الدلتا.

تسجيل مسجد الملك الصالح أيوب كأثر

قال د. مهند فودة، منسق مبادرة “أنقذوا المنصورة”: “نتمنى أن تتحرك محافظة الدقهلية وتقوم بعمل تنسيق حضاري لواجهة المسجد، يعيد ترتيب يفط المحلات والواجهات تحت المسجد بشكل يليق بطبيعته التاريخية، وأن يتم تسجيل المئذنة كأثر وترميم المسجد بالاعتماد على الأجزاء الأصلية التي سقطت، وإعادة النظر جديًا في تسجيل المبنى كاملًا”.

كما عبّر د. إيهاب الشربيني، أحد النشطاء المهتمين بالتراث الثقافي والمعماري لمدينة المنصورة، عن غضبه من الإهمال في منشور عبر صفحته الشخصية على فيسبوك، قائلا: “يا ناس يا خلق يا هووو… يرضي ربنا جامع أثري عمره أكتر من 700 سنة يتبهدل البهدلة دي؟.. محدش فكر يتبرع يرممه تحت إشراف كلية الهندسة ولا فنون جميلة؟.. يا ناس دا الجامع موجود وسط محلات أغنى تجار في الدقهلية والوجه البحري ومحدش فكر يتبرع بمليم عشانه؟.. سابوه لحد ما القبة بتاعته وقعت… وهيسيبوه لحد ما المئذنة بتاعته تروح؟!!.. جامع الصالح أيوب… رمز مدينة المنصورة”.

صرخات من الداخل.. بلا مجيب

يؤكد بعض رواد المسجد أن العديد من البلاغات تم تقديمها إلى الجهات الرسمية منذ سنوات، خاصة بعد الانفجار، لكن دون جدوى. لا لجان هندسية، ولا تقارير متابعة، ولا حتى زيارات دورية.

بات المصلون الآن يتحاشون الجلوس تحت السقف، ويتفقدونه قبل الصلاة، وكأنهم يؤدون فروضهم في مبنى مهدد بالسقوط.

رثاء لمسجد حي

مسجد الملك الصالح أيوب لا يحتاج إلى رثاء، بل إلى قرار عاجل. ما زالت جدرانه تحتفظ بصدى دعوات المصلين منذ ثمانية قرون، وما زالت مئذنته قائمة، وإن مالت، شاهدة على تاريخ المدينة وهويتها.

وإنقاذ المسجد ليس ترفًا، بل ضرورة، وفرض عين على من بيده القرار. فهل ننتظر سقوط المئذنة كي نتحرك، كما تحركنا بعد القبة؟ أم نكتب اليوم بداية جديدة لمسجد يستحق الحياة، لا النسيان؟

اقرأ أيضا:

مسرح لا يموت.. «المنصورة» تنقذ إرثها وتعيده دارًا للأوبرا

ملامح العيد تتغير في شوارع المنصورة : الباتيناج يحتل المدينة

حوار| د. مهند فودة: التراث ليس رفاهية.. و«أنقذوا المنصورة» تقاوم النسيان بالتوثيق

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.