بعد رفعه من القائمة الحمراء|«أبو مينا».. قديس أحبه الجميع وأهملته «الآثار» لعقود!

لقرابة ربع قرن، ظل موقع دير «أبو مينا» بالإسكندرية حبيس القائمة الحمراء لمنظمة اليونسكو، إذ كان وجوده فيها أمرا مألوفا لدى خبراء التراث العالمي. وقد أدرج الموقع على قائمة التراث العالمي منذ عام 1979. لكن، ورغم تجاهل الوزارة إدراج مواقع تراثية أخرى كتراث عالمي، شرعت مؤخرا في اتخاذ خطوات لـ”درء الخطر” عن دير أبو مينا، بدأتها عام 2019.
وخلال الأسبوع الماضي، احتفت «الآثار»عبر موقعها الرسمي بنجاحها في رفع الموقع أخيرًا من قائمة التراث المهدد بالخطر لدى منظمة اليونسكو. إلا أن الوزارة، وكعادتها، لم تقدم في بيانها أي شرح للخطوات العملية الخاصة بإدارة الموقع وتأهيله. ولم تشر إلى لضمانات التي ستضعها لتفادي تكرار مشكلة تسرب المياه الجوفية، التي أثرت بشكل كبير على الموقع الأثري. إذ اكتفى الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في البيان بالإشارة إلى تدعيم العناصر الأثرية بالموقع وإنشاء نظام مراقبة لضبط مستوى المياه الجوفية.
ما بعد رفع الحظر: أسئلة بلا إجابة
سألنا بعض المتخصصين: كيف يمكن إدارة موقع «أبو مينا» الأثري بالإسكندرية بعد رفعه من قائمة التراث المهدد؟ أوضح مصدر مطلع، رفض ذكر اسمه، أن الموقع لا يزال يعاني حتى اللحظة.
قال: “الموقع يعاني من ناحية الحفاظ عليه. فقبر القديس مينا حالته متداعية ويحتاج لمزيد من عمليات الترميم. وهذا ينطبق أيضًا على المعمودية، والكنيسة شبه الدائرية. وما تبقى من المرمر والأعمدة الرخامية”.
وأكد أن ما جرى في الموقع كان عمليات شفط للمياه وتهيئة الموقع نسبيًا. لكنه لا يزال يحتاج لكثير من العمل: “البئر المدفون داخله القديس مينا معرض للانهيار. لكن المهم أن الملف الذي قدم لليونسكو في هذه المرة جرى كتابته بشكل جيد، لكنه مجرد مُسكنات وليس علاجًا كاملًا للأزمة. فمشكلة الموقع لم تحل حتى اللحظة. لأنه من السهل استخدام وسائل شفط للمياه الجوفية للمواقع الأثرية. لكن المشكلة الحقيقية هي صعوبة ترميم وتقوية الجدران. وكذلك سقف القبر الأثري المتهدم. والمشكلة الأكبر أن الموقع حتى الآن لم يتم وضع خطة له قابلة للتحقيق في القريب العاجل تتعلق بإدارته. حيث يحتاج لخدمات كاملة بهدف خدمة السياح وبشكل يليق بالموقع المسجل على قائمة اليونسكو”.
خطوات درء الخطورة
على النقيض، لا يتفق عاطف الدباح، مدير المكتب الفني السابق للأمين العام للمجلس الأعلى للآثار والمشرف الأثري السابق على مشروع دير أبو مينا، مع هذه الرؤية. إذ روى لنّا تفاصيل ما تم داخل الموقع الذي تم تكليفه بالعمل عليه منذ عام 2020 وحتى عام 2022.
يقول: «المشروع لسنوات طويلة ظل حبيس الأدراج عبر المراسلات المكتبية. لم يكن هناك تحرك على الأرض. لكن الخطوات الحقيقية لدرء الخطورة عن الموقع بدأت عام 2019 من جانب قطاع المشروعات. وتم التشغيل التجريبي للموقع سنة 2021. وعندما جرى تكليفي للعمل على الموقع. بدأت رحلة البحث في أسباب تدهور الموقع طيلة هذه السنوات».
تأثير زراعة البنجر
يستطرد الدباح: “وجدت، مثلًا، أن الموقع تأثر بسبب زراعة البنجر في المنطقة المحيطة. وساعد ذلك في وصول المياه للموقع وأثرت عليه بصورة كبيرة. وهذه أحد أبرز أسباب وضع الموقع على قائمة التراث المهدد بالخطر من جانب اليونسكو. حيث تسببت المياه في تلف أجزاء من قبر القديس مينا. لذلك عملنا على خفض منسوبها، بجانب عمل سور حول الموقع لمنع أي تعديات. وجرى اعتماد القيمة المالية من جانب الوزارة. وحدث تعاون مع وزارتي الزراعة والري لإنجاز المشروع. وبدأنا عملية حفر الآبار حول الموقع لاستيعاب كمية المياه بدلًا من وصولها لموقع الدير”.
وأشار إلى أن فريق العمل من الأثريين توجهوا لمدة أسبوعين لاستكمال ترميم الموقع. ووجدوا حينها أن مدخل الدير سيء لا يليق بمستوى منطقة أثرية تمثل الحج الثاني للمسيحيين في العالم. لذلك عملوا على تمهيد مدخل الدير. مع تدعيم الحوائط وأسواره وكذلك قبر القديس مارمينا. حيث لاحظوا انهيار جزئي بسيط للقبر؛ لذلك بدأوا عملية تدعيمه.
ظروف صعبة
يكمل الدباح: “عملنا أيضًا على تدعيم وترميم الجدران الداخلية. وكشفنا عن الأرضية الرخامية للمعمودية الموجودة داخل الدير، وقمنا بعملية «رص» للجزء الرخامي الخاص بالأعمدة. لم نكلف الوزارة شيئًا خلال هذه الفترة. إذ قمنا بإعادة استخدام الحجارة القديمة داخل الموقع، وكنا نرسلها للقاهرة وتحديدًا الفسطاط لإعادة نحتها؛ ومن ثم إرسالها لموقع الدير. وقد انتهينا بالكامل من المشروع في عام 2022. والدليل هو افتتاحه من جانب الوزير خالد العناني عام 2022 بعد ثلاث تجارب كاملة لخفض منسوب المياه داخل الموقع. وقد توقف الأمر على زيارات اليونسكو واللجان الفنية للمعاينة وهو ما تم بالفعل مؤخرًا”.
ويختتم حديثه: “لولا تعاون قطاعات الآثار المختلفة، سواء في إدارة المنظمات، أو إدارة الشدات المعدنية. وكذلك مرممين وآثاريين المنطقة ورجال الإدارة الهندسية أيضًا، لما نجح المشروع في الخروج إلى النور طيلة هذه السنوات”. وينهي الدباح حديثه قائلا: “لم ننتظر عائدا ماديا، لكننا نحتاج لتقدير معنوي لأننا عملنا في ظروف صعبة جدًا وبمجهودات ذاتية. وننتظر تكريمنا من جانب قداسة البابا تواضروس”.

استغلال الحدث
من جانبه، يرى الدكتور إبراهيم ساويرس، أستاذ اللغة القبطية بجامعة سوهاج، أن رفع الدير من قائمة التراث المهدد بالخطر خطوة إيجابية ينبغي البناء عليها في المستقبل.
ويقول: “من الضروري زيادة عدد المواقع المصرية المسجلة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. لذلك، من المهم وضع المواقع الدينية في مصر القديمة على لائحة اليونسكو. ما دمنا قادرين بالفعل على صياغة رؤيتنا بالإنجليزية وتقديمها لليونسكو. أيضًا علينا استغلال الحدث عبر التقدم بملفات لتسجيل مواقع أخرى على قائمة اليونسكو” .
وعن أهمية دير أبو مينا الأثرية، أشار إلى أن شهرة المكان تعود إلى سببين: الأول، أن تاريخ تشييد المباني الأولى داخل المكان تسبق فترة انقسام الكنيسة في مجمع خلقيدونية. وبالتالي ظل المكان محل زيارة المسيحيين من داخل وخارج ومصر. وبعد الانقسام ظل لفترة أيضًا يجمع المسيحيين المنقسمين لاهوتيًا لكنهم مجتمعين على محبة القديس مينا، قديس المكان. والسبب الثاني، هو مارمينا نفسه، الذي توجد عنه قصص معجزات لا حصر لها أجراها لزوار المنطقة. حتى بني هناك مكان للاستشفاء. اختلط فيه ما هو استشفاء معجزة ببركة القديس أو معالجة حقيقة جرت هناك.
أهمية دير أبو مينا
كما أشار إلى أن “قوارير القديس مينا”- التي كان الزوار يحملونها من المكان ممتلئة بالزيت أو الماء المباركين- أصبحت بمثابة سفير دعائي له في كل العالم المسيحي القديم في حوض البحر المتوسط. إذ وصلت محمولة على أيدي محبي القديس إلى أوروبا وشرق المتوسط وكل أنحاء مصر.
ويبدو أن العدد الضخم من الزوار، واهتمام القيادات الدينية والمدنية بالمكان، قد وفر له دخلًا كبيرًا استثمر في أبينة جميلة وخلابة. كانت هي نفسها سبب ازدياد الشهرة حتى اليوم الذي أسس فيه البابا كيرلس السادس بطريرك الإسكندرية الدير الحديث القائم اليوم. وكان البابا كيرلس ذاته أحد محبي الشهيد مار مينا. وقصة الدير القديم تتكرر في الدير الحديث. من حيث الشهرة وملايين الزورار من محبي الشهيد مارمينا، أشهر الشهداء المصريين.
توظيف الموقع
يكمل ساويرس: ينبغي على وزارة الآثار والكنيسة المصرية أن يجلسوا سويًا ويتناقشوا. لأنه من المهم أن يفهم مفتشو الآثار وكذلك الرهبان دورهم منعًا للاصطدام، فالعلاقة بينهما يجب أن تكون تكاملية. وهي علاقة طيبة بطبيعة الحال. لكن من المهم توظيف الموقع الأثري بما يخدم المستفيدين منه. مع تنفيذ ومراعاة شروط الحفاظ والطابع الأثري والتاريخي للمواقع الأثرية القبطية.
وهذا يتطلب أن تكون مهمة مفتشي الآثار هي التوعية ورفع الوعي، واتخاذ قرارات عاجلة لمعالجة الأثر. فالدراسات الحديثة في علوم إدارة المواقع التراثية يمكنها أن تجمع الطرفان في عمل تكاملي يأتي بثماره على المدى البعيد، لتحقيق الفائدة للبلد.

حلول لإدارة الموقع
الدكتور محمد عبد اللطيف، أستاذ الآثار الإسلامية وعميد كلية السياحة والفنادق بجامعة المنصورة، ورئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية الأسبق. يرى ضرورة استغلال التقدم العمراني الذي تقوده الدولة في منطقة الساحل الشمالي لخدمة الموقع. مع ضرورة إعداد برامج سياحية جيدة من جانب وزارة السياحة والآثار عبر غرفة شركات السياحة. ووضع الموقع ضمن برامج السياحة الخاصة بالإسكندرية سواء المحلية أو الدولية.
الأمر الثاني هو ضرورة عمل نشرات دورية ودعائية بشكل موسع عن الموقع بعدة لغات مختلفة. وإعلانها على مواقع الوزارة ومواقع شركات السياحة وكل المواقع المتاحة. ومع الملحقين الثقافيين السياحيين الموجودين لسفاراتنا بالخارج.
الأمر الثالث الذي يطرحه «عبد اللطيف»هو مراجعة شبكة الطرق الموصلة للموقع من كافة الاتجاهات تيسيرًا لوصول مركبات شركات السياحة. مع عمل لوحات إرشادية على الطرق وخاصة طريق مصر إسكندرية الصحراوي. من بعد منطقة وادي النطرون في حالة الذهاب من القاهرة الإسكندرية. وأيضًا من مدخل الإسكندرية في حالة العودة من أو الذهاب من الإسكندرية للقاهرة بمعدل كل ثلاث أو أربع كيلومتر. أي أن يتم وضع لوحة إرشادية مع شرح مبسط في أسطر قليلة عن المكان.
مع ضرورة مراجعة الخدمات في الموقع والمنطقة المحيطة من وجود دورات مياه مناسبة وكافيهات وأماكن تسوق وأماكن تذكارات سياحية. وأخيرًا إعداد مطويات صغيرة بعدة لغات عن الموقع توزع مجانًا للزائرين.
علاج مشكلات الموقع
عن استدامة الموقع، يشدد عبداللطيف على أهمية الحفاظ على الموقع وعلاج مشكلات المياه الجوفية بشكل كامل. من خلال فريق عمل متخصص يضم مهندسين، ومرممين، وأثريين، وفنيين تكون مهمتهم هي المتابعة والمراجعة المستمرة للأجهزة التي تعمل على رفع المياه أو خفض منسوب المياه الجوفية. ويقترح إعطاء تقرير دوري عنها لا يتجاوز فترة الـ15 يومًا. أي تقريرين شهريًا، ورفع هذه التقارير لرئيس القطاع والأمين العام للمجلس الأعلى للآثار.
اقرأ أيضا:
هل تضع «اليونسكو» دير سانت كاترين ضمن مواقع التراث المعرض للخطر؟
بعد أزمة دير سانت كاترين.. هل خسر «خالد العناني» معركة اليونسكو؟