سمر دويدار: الفلسطينيون ليسوا أرقاما.. و«حكايات فلسطينية» هي الدليل

ذاكرة بخط اليد.. رسائل من فلسطين البعيدة

وراء كل شهيد ومصاب فلسطيني، قصة لم تروها نشرات الأخبار، وأحلام لم تُمنح فرصة أن ترى النور. وغالبًا ما يُحصى الضحايا كأرقام، دون الالتفات إلى حياتهم التي انطفأت قبل أن تكتمل. من هنا، ولدت مبادرة «حكايات فلسطينية» للباحثة المصرية من أصول فلسطينية، سمر دويدار، التي اختارت أن تسلك طريقًا مختلفًا: لا توثق الحدث، بل توثق الإنسان، حياته، وأحلامه البسيطة.

جاءت بداية المشروع من صدفة مؤثرة، حين عثرت على أرشيف جدها: مئات الصور والرسائل التي فتحت أمامها نافذة على حياة فلسطينية كاملة، لم تُدوَّن في كتب التاريخ. ومن هذا الكنز الشخصي، تحول مشروعها الأدبي إلى عمل توثيقي واسع يعيد رسم الذاكرة الفلسطينية من الداخل، من خلال تفاصيل الحياة اليومية.

في هذا الحوار مع «باب مصر»، تكشف دويدار كيف تحول الأرشيف العائلي إلى مبادرة إنسانية تروي حقيقة الماضي ومأساة الحاضر في غزة، بلغة أصحابها الأصليين.

حكايات فلسطينية

في عام 2019، بدأت الباحثة المصرية سمر دويدار مشروع روايتها المستندة إلى شهادات نساء فلسطينيات في الشتات. نساء لا يعرفن بعضهن البعض، لكن ما جمعهن – كما تقول – هو خروج عائلاتهن من فلسطين عام 1948، وما تبعه من تشرد ومعاناة في المنفى.

لم تكتب سمر، التي وُلدت لأب مصري وأم فلسطينية، رواية تقليدية، بل انطلقت من بحث ميداني في التأريخ الشفهي. لكن التفاصيل الإنسانية الغنية التي حملتها هذه الشهادات دفعتها لتحويل المشروع إلى رواية.

وانغمست في بحث اجتماعي دقيق: “كنت أبحث عن كل شيء: كيف كانت النساء يسرحن شعورهن؟ ماذا كن يرتدين؟ كيف يتنقلن؟ كيف يتكلمن؟”، كما تقول.

ولأنها تكتب عن مدن لم تطأها قدماها، أدركت أن التفاصيل الصغيرة قادرة على أن تمنح النص مصداقيته. خلال هذا الانغماس في البحث، قدّمت لها والدتها صندوقًا قديمًا لم تكن تعرف بوجوده. كان كنزًا أرشيفيًّا: أكثر من 350 رسالة ووثيقة، و600 صورة عائلية تخص جدها الفلسطيني، تغطي الفترة ما بين 1926 و1966.

من البداية

هكذا وُلد مشروع “حكايات فلسطينية”، مشروع تأريخ شفهي عائلي بدأته سمر في سبتمبر 2019، ولا يزال مستمرا حتى اليوم. تقول لـ”باب مصر”: “مبادرة حكايات فلسطينية لا تكتفي برواية الحكايات، بل تمنحها طبقة إنسانية للقراءة كأدب، وللتوثيق كتاريخ”.

لكن لم تكن تتوقع أن يتحول مسار الكتابة إلى مشروع توثيقي واسع. الرواية التي شرعت في كتابتها توقفت، بعدما وجدت نفسها غارقة في أرشيف عائلي مذهل عثرت عليه صدفة، داخل صندوق قديم سلمته لها والدتها.

في هذا الصندوق، مئات الصور والخطابات بخط جدها الفلسطيني الذي هاجر إلى مصر عام 1947 بسبب انتداب عمله، ولم يعلم أنه لن يعوده إلى بلاده مجددا بسبب ما شهدته فلسطين من احتلال إسرائيلي. كان هذا الصندوق أشبه بكنز، أعاد بصر الباحثة المصرية إلى حياة الفلسطينيين التي لم يتحدث عنها أحد.

انغمست في أرشيف جدها، لتخطر لها فكرة جمع أرشيفها العائلي، لعائلتها في الشتات. وسرعان ما تطورت الفكرة الطموحة لإعادة تشكيل الذاكرة الفلسطينية، لا من خلال كتب التاريخ الرسمية، بل من خلال أصوات الناس، صورهم، رسائلهم، وتفاصيل حياتهم الصغيرة التي لم ترو من قبل.

اللجوء الأول من غزة إلى القدس عام 1916

خطاب من علي شعث لزوجته سميحة، بتاريخ 07/09/1956.

بحسب موقع حكايات فلسطينية:

عمان في 7/9/1956

أوتيل فيلادلفيا

الغالية سميحة،

كنت أسير البارحة في شارع عمان الرئيسي، وإذا بشيخ متهدم يوقفني مسلماً بحرارة، ويقول بلهجة “خليلية” مباركة: (سلامات.. أنت هانا..) وهات يا بوس… وهات يا عناق…

إنه محمد أسعد مرقة، زميلي في الدراسة أيام كنا أطفالاً في مدرسةِ الخليل سنة 1916. لقد كنا قعيدي حصيرة واحدة مع رشاد الشوا، إذ لم يكن في الصف مقعد واحد… تذكرت في لحظة شجرة الكينا الفارعة التي كنت وإياه نجلس مستظلينها في “فسحة الغذاء”، نتقاسم معاً “كردوشاً” من الذرة وبصلة وبضع بندورات وكثيراً من الزعتر أو الدّقة، لنزداد حفظاً لدروسنا وإتقاناً لتجويدنا القرآن الكريم.

ذكرت كل هذا في لحظات، كما ذكرت براعته في صيد العصافير بمقلاعه، ومهارته في “سرقة” التين من حديقة آل طهبوب المجاورة لبيتنا… يا رعى الله تلك الأيام… أيام دُولِتنا العلية.

كنا وقتذاك في صميم الحرب العالمية الأولى. حطم الإنكليز غزة بضربهم إياها بالقنابل من البحر، ضرباً لا هوادة فيه، اضطر سكان هذه المدينة المسكينة إلى الفرار “والنفاد” بجلدهم، هائمين على وجوههم، تاركين بيوتهم وما يملكون، بسبب النار والدمار لا يلوون على شيء. وبهذا، كان أهل غزة أول من عرف التشرد وخبر الهجرة، كما كانوا أول لاجئين في فلسطين. لقد هربنا إلى بئر السبع، ثم لحقنا الإنكليز فهربنا إلى الخليل، ومنها إلى القدس، حتى دخلت دولة تركيا واحتل الإنكليز بلادنا، ليبدأوا سلسلة طويلة جديدة من العذاب والآلام والاستعباد والتشرد…

سرت قليلاً وزميل الصبا “مَرَقة”، ثم افترقنا على موعدٍ في الخليل إن شاء الله.

زوجك علي شعث

أرشيف يُعيد للفلسطينيين حكاياتهم

تقول سمر، التي أدارت مشروعات لتقديم الإرشاد والدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين من الحروب والكوارث في مصر ولبنان وفلسطين: “أجلت الرواية لأنني شعرت أن ما بين يدي من رسائل حقيقية، أقوى بكثير من أي كتاب تاريخي أو معلومة منتشرة على وسائل التواصل. هذه شهادة مباشرة من أناس عاشوا الحدث، وكتبوا عنه لزوجاتهم وأبنائهم وأصدقائهم. شيء صادق للغاية، وقريب من القلب، ويمنحني – ولغيري – نظرة حقيقية لفلسطين التي لم أزرها”.

أكثر من 350 رسالة، ووثائق وصور تعود إلى جدها الفلسطيني، شكلت نواة مشروعها التوثيقي. بدأت سمر بأرشفة هذا الأرشيف الشخصي، ثم تحول إلى معارض متنقلة في مصر، أمريكا، إنجلترا، الأردن، وكان آخرها في تركيا.

في تلك الفترة، خطرت لها فكرة إنشاء موقع إلكتروني يجمع فيه أقاربها – المنتشرين في دول الشتات – هذا التاريخ، ليبقى حيًّا ومتداولًا بينهم، لكن مع تفشي جائحة كورونا عام 2020، أخذ المشروع بُعدًا آخر.

الحفاظ على الرواية الفلسطينية

ترى سمر دويدار أن القضية لم تعد تخص أرشيف عائلة واحدة فقط، بل قضية شعب بأكمله. لقد أدركت أن هناك آلاف العائلات الفلسطينية التي فقدت أرشيفها، أو لم تجد من يوثق روايتها. وهكذا قررت أن يكون موقع “حكايات فلسطينية” منصة مفتوحة لأي فلسطيني – خاصة من لم يزر فلسطين أبدًا – لبناء أرشيفه الشخصي، واستعادة ذاكرته.

تقول سمر: “القضية لم تعد فقط عن الشهيد أو المناضل أو من يُوصف بالإرهابي، بل عن الإنسان الفلسطيني العادي الذي لا يتحدث عنه أحد. الأرشيف العائلي يرد الاعتبار للناس كأفراد، كأمهات وآباء وأبناء”.

تهدف المبادرة إلى إعادة الفلسطينيين إلى الواجهة كبشر عاشوا لهم حكاياتهم، آمالهم وخساراتهم، وليسوا مجرد “أرقام” قتلى ومصابين. وتسعى للحفاظ على الرواية الفلسطينية الخاصة، في مواجهة السرديات العالمية التي تحصر الفلسطيني في قوالب جاهزة.

وتؤمن دويدار بأن الحفاظ على الذاكرة، خاصة في ظل التهجير وتشتت الأجيال الثالثة والرابعة خارج فلسطين، أمر ضروري لبقاء القضية حيّة. تقول: “الحكايات الشخصية تعيد فتح الحوار بين العائلات الفلسطينية المختلفة والمشتتة، وتمنح الشباب المولودين في الخارج همزة وصل مع ماضيهم، ومع وطن قد لا يكونوا رأوه، لكن يمكنهم رصد ملامحه في صورة، أو في سطر مكتوب كُتب بخط جد لم يعرفوه، لكنه عاش في فلسطين”.

فلسطين بين الرواية التاريخية والعائلية

ترى الباحثة سمر دويدار أن العلاقة بين الرواية الرسمية للتاريخ والتاريخ الشفهي ليست صراعًا، بل تكاملا. فكلٌّ منهما يلعب دورًا في تشكيل فهم أعمق للحقيقة.

وتوضح: “المؤرخ الذي يسرد وقائع تاريخية ينتظر نهاية الحرب ليحلل ما حدث ويضع رؤيته، لكن هذه الرؤية لا تعني بالضرورة أنها خاطئة أو موضوعية، وقد لا يكون عاش الحدث أصلًا. أما الرواية العائلية، فهي صوت من قلب الأزمة، تحكي كيف مر بها الناس”.

ويجمع مشروع “حكايات فلسطينية” بين السرد الإنساني والتوثيق العائلي، مؤكدا أهمية التعددية في الرواية الفلسطينية، وضرورة أن تُروى بصوت أصحابها، دون تدخل أو رقابة.

وتقوم المبادرة على أرشيف اجتماعي مستقل، لا يخضع لأي سلطة تُقرر ما يجب أن يُنشر أو يُحذف. وتضيف سمر: “الموقع مفتوح أمام كل فلسطيني يريد رفع أرشيفه العائلي، ويختار بنفسه ما يود مشاركته. المعيار الوحيد هو الصدق والدقة، ليكون هذا الأرشيف مصدرًا موثوقًا للباحثين ومرآة لواقع عائلات حقيقية”.

الزوجان إبراهيم موسى ميخائيل و عزيزة خليل ميخائيل خلال فترة خطوبتهم في رام الله عام 1932 عائلة ميخائيل موقع حكايات فلسطينية
الزوجان إبراهيم موسى ميخائيل و عزيزة خليل ميخائيل خلال فترة خطوبتهم في رام الله عام 1932 عائلة ميخائيل موقع حكايات فلسطينية
الشتات ودمار الأرشيفات

تواجه المبادرة تحديات كبيرة في جمع الأرشيفات، أبرزها النزوح المتكرر لعائلات الشتات الفلسطيني، وغياب الوعي بدور الأرشيفات العائلية كأداة مقاومة.

وتقول دويدار: “نجري لقاءات توعية للتأكيد على أهمية الأرشيف العائلي في مقاومة المحو المتعمد للذاكرة الفلسطينية. كما نستعين بالموقع ومنصات التواصل الاجتماعي لخلق توعية بقيمة الأرشيفات”.

وتضيف: “الشتات وتكرار التنقل دمّرا الكثير من الأرشيفات. ولهذا نحن بحاجة إلى نَفَس طويل وتواصل إنساني مباشر مع العائلات. ومن يناير إلى يونيو 2025، استطعنا الوصول إلى أرشيف 22 عائلة، ونطمح لتوثيق أرشيف 75 عائلة بنهاية العام”. من بين العائلات المُسجلة: شعث، الريس، جرَّاح، الحصري، أبو رمضان، جودة، الغضية، الحسيني، ميخائيل، كنعان، الخالص” وغيرهم.

شهادات من غزة

لم يقتصر المشروع على حكايات الماضي، بل تطوّر لتوثيق الحاضر، خصوصا ما يحدث في غزة. تقول سمر: “منذ أكتوبر 2023، صار توثيق ما يجري أمرًا مصيريًّا. ما يحدث اليوم يُعيد إلى الأذهان نكبة عام 1948، لكن الفرق أننا نمتلك أدوات جديدة للتوثيق، وتحدث الإبادة أمام أعيننا”.

وهكذا وُلد قسم جديد في المشروع يوثّق شهادات ومشاركات الفلسطينيين داخل غزة، عبر منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وترى سمر أن هذا يعد شكلا جديدا من الأرشيف، واقعي، مباشر، وبلغة الناس أنفسهم.

تؤكد أن هدفها ليس تكرار ما تنقله وسائل الإعلام من أخبار، بل التفاصيل الإنسانية اليومية، التي تشكل الحياة وسط الحرب. ومن خلال “حكايات فلسطينية”، استطاع فريق المتطوعين جمع أكثر من 3000 شهادة من داخل غزة منذ بداية الحرب في 2023. وقد تمت أرشفة 600 شهادة منها بشكل موثق، ونشر منها 260 شهادة منها على الموقع، ضمن قاعدة بيانات تم تشكيلها لتكون مرجعًا مفتوحًا وموثوقًا للباحثين عن الرواية الفلسطينية الحقيقية.

بطاقة صحفي مدير تحرير جريدة أخبار فلسطين، محمد زكي آل رضوان عائلة آل رضوان موقع حكايات فلسطينية
بطاقة صحفي مدير تحرير جريدة أخبار فلسطين، محمد زكي آل رضوان عائلة آل رضوان موقع حكايات فلسطينية
نظرة الغرب

لم يقتصر العمل على الداخل الفلسطيني، بل تجاوزه إلى الجمهور العالمي، وتقول سمر إن التفاعل مع المعارض الخارجية كان لافتا، خاصة من غير الفلسطينيين.

تحكي عن معرض أرشيفي نظم في بريطانيا، حضره جمهور من التيارات اليسارية والاشتراكية، جميعهم بريطانيون، كثير منهم شعر بالخجل من التاريخ الاستعماري لبلادهم، ودور بريطانيا في تسليم فلسطين للاحتلال. من بين الحضور، كانت المؤرخة البريطانية جوليا بوش. أستاذة التاريخ وعضو في متحف فلسطين بمدينة بريستول. تأثرت جوليا بعمق، وقالت لسمر: للمرة الأولى أرى حياة الفلسطينيين العادية، الإنسانية، بتفاصيلها، بعيدًا عن الصور النمطية في الإعلام.

وكان من أبرز المعروضات رسالة كتبها جد سمر بلغة دافئة وصف رحلته إلى مصر عام 1947 لحضور افتتاح أول فرع للبنك العربي في الإسكندرية، برفقة العائلة، في رحلة كان يأمل أن تنتهي بعودتهم إلى فلسطين. ورسالة أخرى كتبها تصف زيارته للقدس عام 1952 لأول مرة بعد الاحتلال.

من الأرشيف العائلي إلى الذاكرة الجمعية

تأثرت المؤرخة البريطانية جوليا بشدة عندما زارت معرض “حكايات فلسطينية”، وقالت إن هذه الشهادات تمثل أول “مصدر أولي” على لسان الجانب الآخر من القضية – الفلسطينيين. وأشارت إلى أنها لطالما قرأت الروايات اليهودية حول الهولوكوست والاضطهاد النازي، لكن لم تتوفر لها فرصة مماثلة للاطلاع على روايات الفلسطينيين بهذا القرب والصدق.

علقت سمر على هذه اللحظة: “كان هذا ثالث معرض أقدّمه، وكنت لا أزال أختبر مدى تأثير الحكايات على الجمهور. لكن تعليق جوليا نقلني من الشعور بأن هذا مجرد أرشيف عائلي إلى إدراك أن ما نملكه هو تاريخ حيّ، يجب أن يتاح للجميع. بالتأكيد هناك آخرون لديهم قصص تستحق التوثيق والاحتفاء”.

في المعرض الأخير، الذي أقيم في تركيا، أصرّت دويدار على تقديمه باللغتين العربية والإنجليزية. “العربية هي اللغة الأصلية للحكاية، وكان من المهم جدًا أن تعرض بها. ترجمنا كل شيء بشكل تطوعي، بمساعدة فاطمة القلعي وشيرين البنهاوي. قدمنا خلال المعرض أرشيف 6 عائلات فلسطينية بلغة أصحاب الحكايات”.

شراكات مستقبلية

تؤمن دويدار بأن العمل التوثيقي لا يمكن أن يتم في عزلة. وبدأت محاولاتها للتواصل مع المؤسسات المهتمة بالأرشفة والذاكرة الفلسطينية، بهدف بناء شبكة تعاون متكاملة.

لم تتحقق الشراكات بعد، وتتابع: “كل مؤسسة لها خطتها وأولوياتها، لذا التعاون غالبًا يكون من خلال ندوات مشتركة، أو المشاركة في معارض، أو ورش عمل. لكننا نعمل على توسيع التشبيك مع المؤسسات العاملة في نفس المجال، لأن هذا النوع من العمل يحتاج إلى تكامل، وليس تنافسا”.

وتشير إلى دور مؤسسات رائدة مثل: متحف فلسطين، الذي يركّز على أرشفة وثائق كبار العائلات الفلسطينية وأصحاب الأدوار البارزة في التاريخ الفلسطيني، وكذلك مؤسسة خزائن في القدس، التي توثق كل ما هو مطبوع، من تذاكر سينما ورحلات إلى بطاقات المناسبات، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم، مع تخصيص مساحة صغيرة للأرشيف العائلي.

لكن ما يميز مشروع “حكايات فلسطينية”، كما تقول، هو تركيزه على التاريخ الاجتماعي والأرشيف العائلي: “من يأتي للمعرض أو يشارك في فعالياتنا هو من يبحث عن الإنسان الفلسطيني، لا عن الموقف السياسي”.

الشيخ جواد في حفل ختم القبر المقدس يوم سبت النور بتاريخ 5 مايو 1956عائلة جودة آل غضبة الحسيني- موقع حكايات فلسطينية
الشيخ جواد في حفل ختم القبر المقدس يوم سبت النور بتاريخ 5 مايو 1956عائلة جودة آل غضبة الحسيني- موقع حكايات فلسطينية
تجنب الصراعات السياسة

ترفض دويدار إدخال البعد السياسي في المشروع، سواء في الكتابة أو التوثيق، رغم أن لديها آراء شخصية كأي فرد. وتردف: “لا نكتب عن الخلافات بين فتح وحماس، ولا عن الصراعات السياسية الداخلية، لأن الهدف هو الإنسان الفلسطيني، وتوثيق ذاكرته اليومية والعائلية والشخصية. السياسة ليست غائبة عن حياتنا، لكنها ليست محور ما نوثقه”.

وتضيف أن طبيعة الجمهور الذي يتفاعل مع المشروع متنوّعة: منهم الباحثون، الفنانون، الفلسطينيون في الشتات، وغير الفلسطينيين المهتمين بالتاريخ الإنساني للقضية.

وترى أن قوة المشروع تكمن في هذا المدخل الإنساني، الذي تتعمّد أن يكون جسرا للوصول إلى الآخر، خاصة الجمهور الغربي. “استلهمت كثيرا من التجربة الصهيونية في توظيف الدعاية عبر الفن والسينما والتوثيق الإنساني”.

وتردف: “زرت معرض الهولوكوست في واشنطن، ولفت نظري كيف ركزوا على الجانب الإنساني، وجعلوا المتلقي يتعاطف معهم من خلال الصور، الرسائل، الأعمال الفنية، لا الخطاب السياسي المباشر. وهذا ما أراه في ’حكايات فلسطينية‘: نحن نروي قصصًا حقيقية”.

ردود فعل من العالم

قبل خمس سنوات، قدّمت سمر فيلمًا وثائقيًا قصيرًا عن حياة جدها الفلسطيني “علي رشيد شعث”، مستندًا إلى رسائله وصوره وأرشيفه الشخصي. وكانت تعتبر تأثرها الشديد بالفيلم أمرًا طبيعيًا، باعتباره جدها، لكن ما لم تكن تتوقعه هو حجم التفاعل الذي لقيه الفيلم من جمهور لا يعرف لا فلسطين ولا جدها.

تقول سمر: “في كل مرة أشاهد الفيلم، أشعر وكأني أراه لأول مرة. كنت أظن أن هذا التأثر سببه صلتي الشخصية به. لكن حين عرضت الفيلم أمام جمهور غير عربي، من بينهم فتاة يابانية، وأوروبي، واثنان من تركيا، اكتشفت أن التأثير يتجاوز حدود اللغة والجغرافيا”.

وبعد انتهاء العرض، فوجئت بردود فعل عاطفية قوية. أبرزها كان تعليق الفتاة اليابانية التي قالت: “بلدي بعيد تمامًا عن هذا الصراع، لكن الفيلم لمس شيئًا في داخلي… عن الفقد، والوطن، والحنين”. ورغم أن أحداث الفيلم توثق فترة من حياة الجد تعود إلى عام 1952، إلا أن المشاعر التي حملها كانت حية وقادرة على الوصول لأي شخص”.

ليسوا أرقاما

تقول دويدار: “الناس مش أرقام، ومهمتي في ’حكايات فلسطينية‘ هي استعادة وجوههم، أصواتهم، وذاكرتهم”، مشيرة إلى أن مشروعها بالكامل ما يزال قائمًا على الجهد التطوعي”.

وتتابع: “منذ انطلاق المبادرة، تطوّع معنا أكثر من 70 شخصًا على مدار خمس سنوات، ما بين باحثين، مصممين، مترجمين، وموثقين. حتى افتتاح الموقع في 2023 تم بدعم رمزي كبير من شخصيات مؤثرة، مثل الدكتور عماد أبو غازي”.

وترى أن عام 2025 هو عام مفصلي في مسار المشروع، إذ تطمح إلى الانتقال من العمل التطوعي إلى التأسيس الرسمي. والبحث عن دعم ثقافي ومؤسساتي يضمن استمرارية الأرشفة، خاصة في ظل الحاجة الملحة لحفظ الروايات الفلسطينية التي غالبًا ما يتم تهميشها أو فقدانها.

اقرأ أيضا:

هروب تاجر آثار باع قطعا مصرية منهوبة بـ50 مليون يورو.. هل تُغلق القضية؟| مستندات

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.