حوار| د. شوكت المصري: الثقافة درع الهوية.. وبيوتها نقطة الانطلاق التي لا بديل عنها

نسجت المنوفية ملامح ثقافتها الخاصة منذ زمن بعيد، ففتحت ذراعيها للفن والحكايات والشعر والعلوم دون أن يعترضها أحد، مثلما فتحت الأرض فيها قلبها للزراعات الخصبة والفنون الشعبية والتراثية المختلفة، وتشابكت مع العاصمة في تناغم ساحر وجذاب.
الدكتور شوكت المصري، أستاذ مساعد النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون بالقاهرة، ومثقف فاعل وأحد رموز المشهد الثقافي في مصر، لم يكن يوما ابنًا للمنوفية بالميلاد فقط، بل صار ابنها بالاختيار والتكوين الثقافي، منذ سنواته الأولى في كلية الآداب بشبين الكوم. وجد في قصر الثقافة بيتًا ثانيًا له، وفي نوادي الأدب وطنًا مصغرًا. تنقل بين الصوت والنص في إبداعه، حتى صار واحدًا من الأسماء التي تراهن على أن الثقافة ما زالت قادرة على إنقاذ الروح.
وفي حواره لـ«باب مصر»، يفتح شوكت المصري دفتر ذكرياته، ويحدثنا عن علاقته بالمنوفية، وتكوينه الثقافي الأول، وسر الحنين الذي يجعل من الثقافة ضرورة لا ترفًا.
-
متى بدأت علاقتك بالمشهد الثقافي في المنوفية؟
بدأت علاقتي بالمنوفية من الجامعة، من السنة الأولى بالكلية؛ لأنني من قبل كنت أعيش مع والدي ووالدتي. وحصلت على الثانوية العامة من السعودية فمكثت طفولتي هناك. لكن الاتصال بالوسط الثقافي بالمنوفية بدأ مع المرحلة الجامعية، وكانت زياراتي أو تعارفي مع المشهد الثقافي الموجود في المحافظة مع السنة الجامعية الأولى. حيث اتصلت بالمشهد الثقافي المصري عمومًا والموجود في المحافظة خصوصًا من خلال نادي أدب شبين الكوم في قصر ثقافة شبين الكوم.
-
تعرفت في هذه البدايات على شخصيات ثقافية بارزة.. مَن يلفت نظرك منهم؟
نعم، تعرفت على مجموعة من الأسماء الذين أصبحوا أعلامًا فيما بعد؛ مثل الدكتور أحمد نصار، وهو واحد من الناس المهمين جدًا في العمل السياسي والاجتماعي، وكذلك هيثم الحاج علي، كان لا يزال معيدًا في كلية الآداب بحلوان، والشاعر وسام جلال الدويك، ومحمد دغيدي، والشاعر أحمد الصعيدي، وعبد الرحمن البجاوي، وغيرهم كثير.
-
ما الدور الذي لعبته بيوت الثقافة في صقل وعيك الثقافي؟
كانت أنشطة نادي الأدب وقصر الثقافة هي الأساس الرئيسي في الاتصال بالوسط الأدبي على مستوى المحافظة. وبدأت أتحرك إلى نوادي الأدب الفرعية بعدها: كنادي أدب وبيت ثقافة سرس الليان، وبيت ثقافة منوف، وبيت ثقافة قويسنا في بعض الفعاليات وغيرها من الأنشطة المختلفة. فبدأ هذا التعارف من خلال القصر في الجزء الأدبي.

-
حدثنا عن علاقتك بالموسيقى خلال دراستك؟
في قصر شبين، بدأت أعزف على العود وأنا في السنة الأولى بكلية الآداب قسم اللغة العربية. فمن العزف على العود في فرقة الجامعة، إلى الفرقة القومية للموسيقى العربية، التي كان فيها أكابر الفنانين مثل المايسترو مدحت العالم، وسعيد الرباط، ومحمد عامر، وربيع عازف الناي. ومن خلال المشاركات في الفرقة القومية للموسيقى العربية، حصلنا على مراكز أولى على مستوى الجمهورية ثلاث مرات. ومثلت مصر في الخارج في العزف على العود ضمن فعاليات قصور الثقافة. هذه كانت بداية علاقاتي التي تمت داخل القصر.
-
متى تكونت علاقتك مع مبدعي المنوفية؟
في نفس التوقيت تقريبًا، كانت علاقتنا بمبدعي المحافظة الأكبر. وتحديدًا الشاعر محمد عفيفي مطر، ثم الشاعر فتحي عبد الله، وكلاهما كانا يأتيان إلى القرية كل فترة. فكنا ننظم لقاءات للجلوس إليهم والحديث معهم، أنا والشاعر عادل سميح، والروائي والشاعر صبحي موسى.
وهذه اللقاءات كونت المعارف الأولى التي ظلت مستمرة في علاقتي بمحافظة المنوفية على مستوى المؤسسات والمواقع الثقافية الموجودة في المحافظة. كان هناك أيضًا الاستعارة من مكتبة القصر، وحضور نوادي الأدب، ومناقشة الأعمال القصصية، تعرفت على الشريف رزق، والناقد والشاعر الدكتور عادل بدر، وهيثم شرابي أيضًا كان كاتب قصة مهم.
وعلى الجانب الآخر، تمثلت علاقتي بالمنوفية في كلية الآداب بالجامعة التي قضيت فيها ثماني سنوات لأنني أكملت دراستي العليا. وهذه أيضًا كانت مرحلة مهمة، وكانت متبادلة مع القصر. إذ كانت بينهما تبادلات وتقاطعات من خلال الأساتذة، مثل الدكتور عيد بلبع والدكتور محمد فكري الجزار، والدكتور بسيم عبد العظيم، والدكتور أسامة موسى.
-
اشرح لنا ارتباطك الشخصي بالمكان وإبداعك فيه؟
بلا شك، كان هناك جزء كبير جدًا من العلاقة بالمكان، وارتباطي به، فجمعتني بالمنوفية علاقة كان فيها التكوين للمَعارف الأولى. نشرنا وشاركنا في مجلة اسمها «تواصل»، كما أسسنا مجلة كلية الآداب، أو جريدة كلية الآداب أيام الدكتور فتحي مصيلحي. وكانت هذه هي الأشياء الأولى التي حققنا فيها تواصلا إبداعيا بالمنوفية.
-
كيف أكسبت علاقتك بالقاهرة بعدًا ثقافيًا أوسع؟
من المنوفية انطلقنا إلى القاهرة، لحضور جلسات أتيليه القاهرة، ومقهى زهرة البستان الذي كان كل يوم ثلاثاء. يتواجد فيه أعلام ومبدعين كبار منهم محمد مستجاب، وخيري شلبي، ويوسف القعيد، ومحمد سليمان وفريد أبو سعدة.
كانت جلساتهم ممتعة، ومعظم الكتاب كانوا يتواجدون في وسط البلد أو في زهرة البستان وأتيليه القاهرة يوم الثلاثاء. ينهون جلستهم في «الزهرة». ثم يكملونها في الأتيليه، فكان هذا طوال الوقت هو الحكاية الأساسية التي جعلتني أتوسع في علاقاتي ومعارفي الثقافية بالعاصمة.
-
ما الذي يميز المنوفية كمكان جغرافي وثقافي؟
من وجهة نظري، هناك مجموعة سمات في المنوفية عمومًا كمكان جغرافي ومحافظة ليست موجودة في أي محافظة أخرى، فمثلًا ضيق المساحة يجعل العلاقات أكثر اقترابًا، فالقرى ليس بينها فواصل، وبالتالي لا توجد مسافات فاصلة بين الناس، فالمرء يشعر أن المحافظة كلها متصلة ببعضها، فيما عدا منطقة السادات طبعًا، لأنها مضافة على المحافظة وفيها ظهير صحراوي، لكن المنوفية محافظة أكثر حميمية.
-
برأيك.. كيف تنعكس طبيعة الأرض والزراعة على الشخصية الثقافية في المحافظة؟
طبيعة الأرض وارتباط المحافظة بالزراعة أو الفلاحة يعكس فكرة أن الإنسان يأخذ من أخلاقيات أو من جينات الفلاحين التي يتوارثها من جدوده، فكرة أن يرمي البذرة ويجلس بجانبها، ثم يسقيها، ثم تكبر ويخاف عليها، وينتظر الثمار بعد أشهر، هذه الطبيعة تختلف عن طبيعة محافظات أخرى قائمة مثلًا على الصيد، أو حركة التجارة أو الزراعات الشجرية الموسمية.
والمنوفية من النوع الذي يتميز بفكرة علاقة الإنسان بطبيعة الزراعة وجيناتها، خصوبة الأرض، النيل ومساحته في المحافظة، حجمه الصغير في المحافظة وتفرعه لفروع كثيرة جدًا. ووجود جزر كثيرة صغيرة داخل المحافظة نفسها. فطبيعة البلد نفسها مهمة.
كما أن المنوفية محافظة متاخمة للعاصمة. وبالتالي القاهرة ليست مهجرًا بالنسبة للمنايفة؛ فالقاهرة فعل يومي، الناس تتحرك منها إلى القاهرة بسهولة. لكن محافظات أخرى لا تستطيع فعل ذلك. وهذا الاقتراب جعل سكان المنوفية كثيري التحرك إلى العاصمة. وجعلهم ليسوا بعيدين عن المشهد الثقافي وغيره في العاصمة، إنه مشهد واحد، أو امتداد.
-
في ظل الحديث عن أزمة إغلاق بيوت الثقافة.. ما رؤيتك للمستقبل الثقافي في مصر وأهمية إعادة فتح هذه البيوت؟
غلق بيوت الثقافة مرفوض شكلًا وموضوعًا، والتراجع عنه حتمية. وبيوت الثقافة ومكتباتها تؤدي دورًا رئيسيًا وجوهريًا حتى وهي خاوية على عروشها. والحتمية تقول إن فتحها وتطويرها ضرورة. وفي رأيي أن هذا الموضوع منتهٍ. لا تراجع عنه بالنسبة لنا نحن. لأننا لو أغلقناها الآن وأردنا فتحها ثانية، ستتكبد الدولة ملايين الجنيهات. وسنخسر رافدًا رئيسيًا من روافد الثقافة في المدن والقرى والمحافظات.
ودائمًا ما أردد: الثقافة ليست فقط في دار الأوبرا. الثقافة في طنطا وقنا وشبرا. إنها ليست جزيرة الزمالك فقط بما تحتويه من مواقع ثقافية. فبيوت الثقافة تقدم دورًا كبيرًا؛ بيت الثقافة الذي يعمل يقوم بفعاليات داخل البيت وخارج البيت. هو ليس مجرد مكان مساحته 60 مترًا. إنه نقطة انطلاق وتجمع وتحرك، ليس هناك بديل ولا يمكن طرح الإغلاق كحل. البديل هو تشغيل البيوت والقصور، بكامل طاقتها وزيادة مخصصاتها المالية. ليس البديل «الغلق والحديث عن خسارة مادية»، الثقافة الحقيقية لا مكان فيها للخسارة والمكسب المالي المباشر.
-
في ضوء الحديث عن فجوة بين الوزارة والمثقفين.. ما الحلول التي تراها؟
الحلول موجودة وكثيرة ويعرفها أهل الحل والعقد. مثلًا هناك خطة تم اقتراحها أيام رئاسة الدكتور سيد خطاب لقصور الثقافة وقام عليها مجموعة من المثقفين. وهناك ما تم طرحه في مؤتمر عقده الدكتور جابر عصفور. وأيضًا ما قُدم من خطط لوزراء سابقين، مثل الخطة التي قدمها الأستاذ أحمد فوزي للدكتور نيفين الكيلاني عن قصر الثقافة الاستثماري. 600 فكرة موجودة في الأدراج قابلة للتنفيذ، تحتاج إلى أشخاص تريد أن تعمل.
والأمر لا يحتاج حوارًا جديدًا ولا محاولات للالتفاف. في رأيي أن بيوت الثقافة لا يمكن إغلاقها، وهذا ما تعهد به الوزير أمام البرلمان. والمقرات لا تعمل نظرًا لأن السياسات التي وضعتها الوزارة سيئة. ولأن توزيع المجهود على البيوت والمواقع فيه خلل. العجز موجود أيضًا في التربية والتعليم وقطاعات أخرى كالصحة والأوقاف. فهل أغلقت الدولة المدارس والمؤسسات والمستشفيات؟ أرى أن الثقافة ضرورة كالماء والهواء وهي الدرع الواقي للمجتمع وهويته.
اقرأ أيضا:
هل تُعوّض بدائل قرى الغربية غياب بيوت الثقافة المهددة بالإغلاق؟