في عيدها القومي| المنوفية كما يراها فنانوها: قصائد تتلى وقرى تحكي وثقافة لا تغيب

في عيدها القومي الـ120، يحتفل «باب مصر» مع المنوفية بتاريخها المجيد، ويصغي إلى شهادات من عاشوا في قراها وأحبوها، ومن استلهموا من بيئتها أعمالهم الإبداعية من مسرح وشعر وقصص وروايات. هؤلاء الذين حملوا المنوفية في قلوبهم حتى بعد الرحيل عنها، يؤمنون بأن ثقافتها تنبع من كونها أرضا تنبض بالحكايات.
في كل شبرٍ من أرضها حكاية، وعلى أسطح قراها هناك دائمًا روايات نابضة بالحنين عن بطولاتها وشجاعة أهلها وقوة صبرهم. فالمنوفية لا تسكن الخريطة فقط، بل تسكن القلوب، إذ يرويها أهلها بالذكريات والمواويل الجميلة، في ليالي الحصاد، وتفاصيل المدن، وعلى الأرض التي تحتضن الجميع بحبٍ وإخلاص.
الحياة في قرى المنوفية
تحدث الكاتب قطب حبيب، رئيس نادي الأدب المركزي بالمنوفية ورئيس نادي أدب قصر ثقافة شبين الكوم، عن حبه لقريته وقرى محافظته. فقد عشق “القرية الفرعونية” بمركز أشمون منذ انتقاله إليها في المرحلة الابتدائية. وأكثر ما لفت انتباهه فيها هو بساطتها وطبيعتها المختلفة.
وأكد أنه شهد تحول القرية من جمودها وجهلها إلى رونق مختلف بفضل احتضانها للمهاجرين من مدن القناة خلال فترة التهجير من 1967 إلى 1973. وقد تجلى ذلك في الحياة اليومية، إذ اندمجت ثقافة أهالي بورسعيد- بما في ذلك من الصيد الانفتاح- مع خصوبة أرض أشمون وثقافة الزراعة.
احتضان المهاجرين
أشار حبيب في حديثه لـ«باب مصر – بحري» إلى أن هذه التجربة أثّرت في نشأته وطباعه، وعززت حبه للمنوفية. حيث ألف رواية «في قريتي مهاجرين» التي لاقت حفاوة واستقبالًا من الجمهور خاصةً من بورسعيد، وفيها عبر عن طبيعة الحياة بعد انتقال المهاجرين إلى قريته. وكيف اختلفت العادات مع الحفاظ على طابع أهل الأرض.
واستعرض أيضا مظاهر الحياة الريفية في قريته، معتبرا أن ريف المنوفية أكثر ثراء من مدنها، ولها طابع تراثي مميز من العادات والتقاليد الأصيلة التي بالطبع اختلفت الآن. ولكنها لا زالت تحتفظ ببعض الأصالة، وما تحتفظ به الآن من صفات متوارثة مثل الكرم والشجاعة والبسالة في المواجهة والمصادقة والوفاء.
واسترجع ذكرى حادثة دنشواي التي سمعها مرارا في طفولته. مؤكدا أن تكرار الرواية أضاف لكل مرة خيطا جديدا حتى اكتملت لديه الحكاية التي تكشف بسالة فلاحي المنوفية.
مادة الإبداع في براح المنوفية
أما الشاعر أحمد عايد، فاسترجع ذكريات طفولته في قرية “ميت الكرام” بمركز تلا، والتي أثرت في شخصيته وساهمت في ولعه بالشعر منذ صغره. فهو ولد في بيت أجداده لأمه وبين أخواله، إذ كان والده كثير السفر للعمل في البحر. ما أتاح له فرصة التلاقي العميق مع الأرض في صورتها البكر.
وصف عايد بيت طفولته قائلًا: «كان أول بيت في القرية، يشبه السرايات، له بوابة حديدية، وفيها ممر يستظل بتكعيبة عنب. وعلى الجانبين توجد أشجار فواكه، ومن فوق سطحه أرى القرية كاملة في ضوء النهار. وفي المساء على وقع حكايات أخوالي، كما توجد تفريعة من الترعة قريبة منه».
تشكيل الفكر والوجدان
يؤكد عايد أن هذا البراح هو ما غذى روحه الشاعرة، فقد شكلت المساحة والهدوء والأفق والصمت وتيرة الحياة البطيئة أساسا لتأملاته وأفكاره. وهو ما لم يجده لاحقا في القرى الأخرى. وأشار في حديثه لـ«باب مصر» إلى أنه انتقل لاحقا إلى مدينة السويس، لكنه لا ينسى صوت الريف المنوفي أبدًا. حيث كانت بداياته التعليمية والثقافية في الكُتَّاب، الذي لم يكن مجرد مكان لتلقي العلم بل لتعلم أصول الأرض وعاداتها.
واختتم حديثه قائلًا: «لا شك عندي أن ثقافة أخوالي وحبهم للأدب والثقافة والتطور وأكثر ساعد في تكوين الشاعر داخلي. وأن اللغة، التي سمعتها من القرآن في الكتاب وأشعار وخطب أخوالي، منحت للغتي أصالة. وفي روحي وقصائدي، مساحات كبيرة تنتمي للطفل الذي وُلد ونشأ في قرية ميت الكرام. قبل أن ينتقل إلى محافظة السويس حيث استقر».

ثقافة أصيلة وحكايات لم تندثر
فسر الشاعر أحمد الصعيدي حالة العشق التي تعتريه عند الحديث عن بلدته «الماي» التابعة لمركز شبين الكوم. تلك القرية التي اشتهرت بـ«فن العديد». وهو طقس جنائزي كانت تستأجر فيه المعددات، ويقترب من عرض مسرحي متكامل العناصر. حيث النص والإيقاعات والملابس والإضاءة والمكياج.
ومن أبرز ذكرياته عن هذا الفن ما قاله: « كانت المعددة تجلس على ركبتيها، ترتدي هدمتها السوداء بالمقلوب، وتمسك طرفي طرحتها السوداء المشدودة على رقبتها. وقد دهنت وجهها بطين النيلة المأخوذ من طمي الترعة. وعلى الشجرة فوقها يتطوح الكلوب القديم نتيجة هواء الشتاء، فتروح وتجيء الإضاءة في صورة مفزعة. ومن حولها النساء يجلسن في دائرة ويكررن الفعل».
وأكد الصعيدي أن هذه النشأة كان لها الأثر الكبير على عالمه الشعري والمسرحي. كما كانت ليالي الحصاد والغناء والحوادث الطريفة، وأغاني جمع القطن والياسمين وليالي المنشدين والراوي الشعبي وحكاياتها عن “موال زهران” و”حادثة دنشواي”. والتي ظل يردد بدايتها:«دنشواي حمامة بترفرف.. الإنجليز قطعوها بالحتة». لقد كانت المنوفية والموروث الثقافي بها وما زالت تمثل رقمًا كبيرًا في حياته الأدبية والفنية والعملية.
في مدن المنوفية شيءٌ لا يموت
يعشق المخرج المسرحي أحمد عباس مدينة شبين الكوم، ويعبر عن هذا الحب في كل محفل. فهو لا يفوته أن هذه المدينة هي التي خرجت عظماء سجلوا بصماتهم في التاريخ المصري. يحبها للحد الذي جعله يخرج لها فيلمًا مثل فيه مع حفيده.
يروي في الفيلم قصة عشقه لهذه المدينة، وتحولاتها من الطابع القديم للحديث. مع تركيزه على أن تطويرها وحداثتها لا تنفي احتضانها للكثير من ذكرياته البسيطة مع أسرته، والتي أثرت حياته الإخراجية والإبداعية. وقال لـ«باب مصر»: “مسرح القصر كان شاهدًا على العديد من مسرحياته التي ركزت على إبراز الهوية الوطنية للمنوفية. والتأكيد على أصالة أهلها وتمركز الزراعة في صورتها النقية والخصبة فيها”. مشيرًا إلى أنه برغم عدم عودة المدينة إلى «أيام زمان» لكنها لا زالت جميلة جدًا.
ويختتم عباس رؤيته قائلًا: «في شبين الكوم روح حلوة تدفعك للعودة مجددًا إليها كلما خرجت منها. تخبرك وقتها أنها جميلة وقادرة على إبهارك، وندائها لك من أجل وجودك. وهو ما يدعوه كل مرة للعودة إليها، وكأنه يعتبرها مدينته الفاضلة».
الموروثات الثقافية كعلامة على الهوية
أما الروائي والقاصّ حسين منصور، فيرى أن نشأة الإنسان لها أثر كبير في تكوينه. ويصف المنوفية بأنها مكان حي، وأهلها بحكم نشاطهم الزراعي يملكون مقومات البيئة الملهمة. حيث تتراكم الحكايات والمواويل وأمثال الأجداد.
ويضيف أن تراث المنوفية كان له أثر واضح على كتابته القصصية. خاصةً الكتابات البكر؛ حيث ترد الأساطير وحكايات عن الجنيات وعرائس البحر. كما استلهم التراث الفرعوني لإنتاج قصص معاصرة تعبر عن رؤيته للواقع. واختتم حديثه قائلا: “المنوفية اختارت تاريخ حادثة دنشواي كيوم قومي لها. وهو اختيار موفق، ولو لم تختره، لاختارت تاريخ مقاومة أهالي قرية «غمرين» للحملة الفرنسية. حيث تصدى الأهالي لها معبرين عن رفضهم الاحتلال والاستضعاف ونهب أقوات الناس.
الحب والحرب في المنوفية
يقول الشاعر أحمد مرسال لـ«باب مصر – بحري» إن المنوفية تجلت في إبداعه العاميّ. فهي تبقى مكثفةً في قريته “شرانيس” بكل مفرداتها، مشيرا إلى أن تلك القرية الرائعة ما زالت باقيةً فيه، والحنين إليها لم ينقطع، فهي تختزل معاني الطفولة وخصوبة الذاكرة.
ويؤكد مرسال أنه “منوفيته” تتجلى أيضا في مدينة “قويسنا”، مدينة الحلم لكل طفل للالتحاق بالتعليم الإعدادي بها. كما تبرز المنوفية في قيادتها لانتصاراتنا المدوية والعظيمة في السادس من أكتوبر، ويصفها بأنها أرض الزعماء والرؤساء. ويضيف أن المنوفية هي مجاذيبب سيدي خميس، واحتضانات سيدي الخضري في “شرانيس”. كما تتجذر في ذاكرته منذ نضالاتها المبكرة، وخاصة في 13 يونيو 1906م، حينما هبت قرية دنشواي ضد المحتل الإنجليزي.
ويختتم حديثه مؤكدا أن المنوفية باقية، وبقاؤها جزء من بقاء مصر بكل مفاخرها الثقافية، التي كانت ميراث أبيه الذي ورثه عنه. هذا الميراث الذي ظهر في قصيدته الأخيرة «حتى إذا بلغت الحلقوم»، والتي كتبها بعد ما شهده هذا العام من قرارات مؤلمة بإغلاق بعض بيوت ومكتبات وقصور الثقافة. معتبرا إياها هجمة على روح مصر الثقافية.

المنوفية.. ذاكرة وطن
في الثالث عشر يونيو من كل عام يحل العيد القومي للمحافظة، إذ لا يكون يومًا عابرًا على أهل المحافظة، فهم يحتفون بشجاعتهم في الوقوف أمام الإنجليز في معركة دنشواي عام 1906، حيث أدت الاشتباكات بين الضباط الإنجليز والفلاحين المصريين في دنشواي إلى مقتل عدد من المصريين بالنار، ما أدى إلى رد فعل أصعب من الإنجليز وتطور الأمر.
وفي النهاية، تم عزل اللورد كرومر، صاحب السلطة البريطاني في مصر. وكتب الفلاحون في المنوفية سطور كرامة وعزة في سجلاتهم. وأصبحت المحافظة تحتفل به كل عام وقد تركت علامة على هذه الحادثة أيضًا في شعارها على هيئة نار من الجانبين.
خريطة ثقافية مميزة
المنوفية من المحافظات التي تنبض فيها الثقافة من كل حقل وبيت. في قراها ومدنها تنتشر الحكايات الشعبية، وتروى الأساطير، وتحفظ الحرف، ويورث الغناء والفلكلور الشعبي. وتتميز المحافظة بخريطة ثقافية متنوعة، حيث ينفرد كل مركز بطابع خاص.
فمركزي منوف والباجور يتميزان بالصناعات الحرفية مثل الفخار والأشغال اليدوية والبيوت التراثية القديمة. وينفرد الباجوز بصناعة الأثاث الخشبي وزوايا المساجد. بينما يمتاز مركزي الشهداء وأشمون بالطابع الثقافي الديني القوي، الذي يضم عددًا من الأضرحة والمقامات الصوفية الشعبية. بالإضافة إلى التراث القروي والحكايات الشعبية.
وتتركز الصناعات في مركزي قويسنا والسادات. حيث يتوسعان في الثقافة الصناعية باستمرار، مما يضيف لهم طابعًا تراثيًا بيئًيا مختلفًا وخاصًا. كما تنتشر في السادات عدة مراكز ثقافية ومكتبات تخدم محبي الثقافة. وتتمحور ثقافة مركزي بركة السبع وتلا في إحياء التراث الشعبي الفلاحي الأصيل، ويعرفان بمهرجانات الحصاد والاحتمالات الزراعية التقليدية في المواسم. وهما مسقط رأس بعض مشاهير الفن الشعبي. كما هناك جمعيات أهلية تهتم بإحياء الفن الشعبي الأصيل.
ويهتم مركز سرس الليان بالأنشطة الثقافية المختلفة للأطفال والنشء. وتعقد فيه مسابقات أدبية كثيرة وفعاليات أدبية مستمرة بشكل دوري. فهو صغير في المساحة لكنه نشط ثقافيًا، ويوجد به قصر ثقافة. أما الحياة الثقافية الأصيلة فتتمركز في شبين الكوم. وهو مركز تجمع بين أهله والثقافات المتطورة مع دمجها بالتاريخ الأصلي للمدينة. ويوجد به قصر ثقافة بالإضافة إلى مكتبة مصر العامة، وهو العاصمة الإدارية والثقافية للمنوفية.
رموز مبدعة
في كل زاوية من المنوفية حكاية مختلفة تستحق أن تروى، وتفاصيل يكتبونها دومًا بإصرارهم على احتلال المراكز الأولى وأفضلها. فكانت قصور الثقافة علامة على هذا التنوع الثقافي، بشهادة مثقفيها وفنانيها في كل المحافل. فقصور الثقافة هناك تعلم الأطفال كيف يحرسون التراث وينمّون أنفسهم باستمرار.
في عيدها القومي، لا تحتفل المنوفية بانتصاراتها السياسية فقط، بل تحتفي بتخريج مثقفين وأدباء وشعراء تحيي ذكراهم. فقد خرّجت رجال دولة ورؤساء مثل الرئيس محمد أنور السادات والرئيس حسني مبارك، وعلماء مثل الطبيب والأديب الدكتور مصطفى محمود، والشاعر إبراهيم عبد القادر المازني.
كما خرجت عددًا من قراء القرآن الكريم منهم الشيح محمود علي البنا، والشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ شعبان الصياد. وممثلون وفنانون منهم ممدوح عبد العليم، وماجدة الخطيب، وسعيد صالح، وفاروق الفيشاوي، وتوفيق الدقن وصلاح ذو الفقار.
تراث تاريخي مختلف
تحتل المنوفية مكانة تاريخية عميقة أكسبتها شهرة تراثية. حيث اشتهرت في العصور الفرعونية باسم “باثنون”، وضمت مناطق أثرية كثيرة منها قويسنا وأشمون التي استخرج من باطنها تماثيل بأسماء ملوك محليين. كما تشتهر الكنائس والمساجد في عصور الدولة الإسلامية، والعائلة النقدية التي سكنت أرضها. مما جسد ملتقى للثقافات والأديان.
وفي مشهد ثقافي حي، تقع في المنوفية عدة قصور ثقافة، منها قصر ثقافة شبين الكوم والباجور ودنشواي والسادات وسرس الليان. وأيضًا متاحف مختلفة مثل متحف السادات بميت الكوم الذي يحمل مقتنيات الرئيس الراحل، ومتحف دنشواي وهو عبارة عن ذاكرة بصرية للأحداث الواقعة في دنشواي.
تستضيف هذه القصور والمتاحف أمسيات شعرية وأدبية، وحلقات نقاشية ومؤتمرات تراثية احتفاءً بالعيد القومي للمنوفية. هذا إلى جانب العروض المسرحية وعروض الفلكلور الشعبي الفلاحي الأصيل الذي تختص به المحافظة.
توثيق القرى الفرعونية والرومانية
كما تسعى المؤسسات الثقافية المحلية إلى تأسيس ورش تدريبية للأفراد من نسج السجاد الحريري والتطعيم بالصدف وتعليم الكروشية والتطريز. وتحمل قصور ثقافة الطفل هذه المسؤولية على عاتقها حتى لا ينسى تراث الأرض وهويتها. وفي جامعة المنوفية هناك عدة جهود لتوثيق القرى الفرعونية والرومانية بالمنوفية. كما تعد فيها دفاتر بحثية مكثفة من أجل نقل إرث المحافظة إلى الأجيال وحفظه.
في النهاية؛ تستحضر المنوفية الروح الأصيلة للشعب المصري،.فعلى ضفاف النيل نشأت الحكايات وتجلت الأمنيات، وهي اليوم تحفظ التراث بكل ما أوتيت من قوة. صمود أهلها يتمركز حوله ازدهار الأرض نفسها. فتكون تراثًا دلتاويًا مختلفًا بجمع بين الحرف اليدوية والبيوت الزراعية وتجارب الموسيقى والسعر والغناء. إضافة إلى مواقع الموالد والطقوس الشعبية في الأعراس.