سميحة أيوب سيدة خطابات التحرر الوطني على المسرح

في الفرنسية تعبيران بليغان ينطبقان على سيدة المسرح العربي سميحة أيوب: أنها “وحش المسرح” وأنها “وحش مقدس”. معنى التعبير الأول أنها تتألق متى وجدت نفسها على خشبة مسرح، أو في موقع الأداء أمام جمهور في أي مكان وكل زمان، بحيث “تأكل الجو” على خشبة المسرح، كما نقول بالعامية. ولم تفارقها هذه الهالة لا في المسرح ولا في الإذاعة ولا في التلفزيون. ومعنى التعبير الثاني أنها تتمتع برمزية عالية تضعها في منزلة أقرب إلى مكانة ربات العصور القديمة اللاتي تقدم لهن الجماهير فروض الولاء، وعلامات المحبة والإكبار، بل والقرابين. ويتأكد المرء أن تلك العبارة تليق بسميحة أيوب عندما يسترجع أدوارها الفارقة على خشبة المسرح عبر خمسة عقود على الأقل، أي ما يقارب مجمل النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

تنتمي سميحة أيوب إلى أجيال من الفنانين المصريين حملوا ألقاباً تؤكد ريادة وفرادة مصر في عالم الإنتاج الثقافي والدرامي باللغة العربية، لاسيما فيما بعد الحرب العالمية الثانية وفي مرحلة التحرر الوطني، حين استقر إطلاق لقب “سيدة الغناء العربي” على أم كلثوم، ولقب “سيدة الشاشة العربية” على فاتن حمامة، ولاحقاً أُطلِقَ لقب “فنان الشعب” على محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي. وأظن أنه قياساً على اللقبين النسائيين “سيدة كذا وكذا…”، قد شرع النقاد والصحفيون في الإشارة إلى سميحة أيوب باعتبارها “سيدة المسرح العربي”، بحيث تتأكد ريادة مصر السياسية في الساحة الإقليمية والدولية، وريادتها الثقافية في الغناء والسينما والمسرح.

***

بدأت سميحة أيوب في التألق غداة الحرب العالمية الثانية، لاسيما عندما انضمت إلى جولة مع الفرقة المصرية الحديثة يقودها يوسف وهبي، الذي كان يقوم بالبطولة والإخراج. وقد نشر المؤرخ الثقافي شهدي عطية على موقع “باب مصر” في 24 مارس 2025 موضوعاً يعيد فيه زيارة شهادة صحفية كتبتها سميحة أيوب في منتصف الستينات، ونشرت في مجلة صباح الخير. حكت سميحة أيوب أنها كانت في جولة مسرحية عام 1955 في المغرب العربي وفرنسا، وأنها قد نجحت في دور البطولة النسائية أمام يوسف وهبي في مسرحية “راسبوتين”، عندما أدت دور الإمبراطورة.

فيما يلي، أستعرض بعض أدوارها المسرحية الفارقة التي تؤكد فكرتي عن سميحة أيوب باعتبارها الوجه والجسد المسرحي الذي مثل خطابات متعددة في إطار منظومات خطاب دولة التحرر الوطني في اطوارها المختلفة، في ملفات وقضايا عديدة، بعضها يخص سجال أجنحة النظام المختلفة، بعضها يتعلق بالدعاية الموجهة على المجتمع المصري، وبعضها يتعلق بإيصال صوت مصر على العالم الخارجي، في شكل رسائل فنية رمزية.

صوت المرأة الجريئة والجسد المناضل

وفي العام 1955 نفسه الذي قامت فيه بدور بطولة مهم أمام “فنان الشعب” يوسف وهبي، صارت سميحة أيوب نجمة إذاعية بعد نجاحها في بطولة مسلسل “سمارة” الإذاعي، الذي حظي بجماهيرية عالية. تأكدت صورة سميحة أيوب كنجمة تقدم أدواراً جريئة أدوار الفتاة القوية التي لا تهاب الرجال، الجريئة التي لا تخجل ان تأخذ ما تشتهي ومن تشتهي. هذا ما وضعها بالضرورة في خانة أدوار الشر، لأن تحرر الفتاة الزائد في مقاييس الخمسينات الجندرية والأخلاقية، لم يكن يصنف درامياً إلا في خانة الانحراف عن الطريق القويم، أو الابتعاد عن السلوك الأمثل. ربما -للمفارقة- كانت مساحة الأدوار القوية الجريئة أكثر رحابة على خشبة المسرح. لم تكن سميحة أيوب نجمة سينما، وإن تميزت في أدوار ثانية على الشاشة، لكنها تفوقت كنجمة دراما إذاعية ومسرحية وتلفزيونية. ويظل دورها كسنيدة شريرة تتآمر مع الشريرة تحية كاريوكا ضد ليلى مراد في فيلم “شاطئ الغرام” (1950) من أجمل وأقوى أدوارها.

***

تأكد مقام سميحة أيوب كبطلة أولى على خشبة المسرح -على أقل تقدير- منذ أن قامت ببطولة مسرحية “المومس الفاضلة”، من تأليف الفيلسوف الفرنسي الوجودي اليساري الأشهر جان بول سارتر، على خشبة المسرح القومي في نهاية عام 1958. كان مسرح الدولة في ذلك العصر يتبنى أعمال كتاب مثل سارتر، الذي اشتهر بمواقفه المعادية للاستعمار، والملحدة، والداعمة للاشتراكية واليسار بشكل عام، والذي فاز بجائزة نوب للآداب لكنه اعتذر عن عدم قبولها لأنه رأى أن الجائزة تستخدم سياسياً لدعم كتاب مؤيدين للولايات المتحدة في صراعها مع الخطاب الاشتراكي للاتحاد السوفييتي، أثناء الحرب الباردة بين القطبين الدوليين. وفي نهاية الخمسينات وبداية الستينات، في أوج مرحلة التحرر الوطني، لم يكن مسرح الدولة يرى غضاضة في إنتاج مسرحية بعنوان “المومس الفاضلة”. ولم نسمع عن سميحة أيوب أنها ترددت في أداء شخصية تحمل هذا الوسم.

كانت مسرحية فارقة تحكي عن امرأة تخفي رجلا أفريقيا أمريكياً، يتهم ظلما باغتصاب امرأة بيضاء، وترفض تلك المرأة التي تعمل غانية أن تخضع لضغوط السياسيين لتشهد زوراً، إذ يحاول الساسة البيض أن يوظفوها لحماية رجل أبيض قتل رجلا أفريقيا أمريكيا آخر بحجة أنه مغتصب. غداة الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المسرحية -التي عرضت للمرة الأولى في فرنسا عام 1946- مساهمة اليسار الأوروبي في دعم الأمريكان السود، أثناء نضالهم ضد التعصب العنصري الأبيض في الولايات المتحدة. وبعد ما يزيد عن عشر سنوات من صدور المسرحية، صارت “المومس الفاضلة” على خشبة المسرح المصري علامة ثقافية على تواصل البلاد مع كافة الاتجاهات المعادية للعنصرية وللاستعمار في العالم أجمع. وكانت سميحة أيوب وجه تلك العلامة.

الجسد الليبرالي والتحرري

بعد أعوام قليلة، قامت سميحة أيوب بدور البطولة النسائية في مسرحية توفيق الحكيم “السلطان الحائر” التي نشرت عام 1960، والتي تشير إلى حيرة السلطان، بين نصيحة وزيره بأن يتولى الحكم بالقوة رغم أنه مملوك لم يعتق رسمياً، إذ مات أستاذه السلطان السابق قبل أن يعتقه، وبين نصيحة قاضي قضاته الذي أفتى بأن يباع السلطان، ثم بأن يعتقه مشتريه، ليصح وضع السلطان القانوني كرجل حر، يستطيع تولي عرش البلاد بصورة شرعية. هنا أيضاً كان اسم الشخصية التي جسدتها سميحة أيوب “الغانية”، وهي السيدة المطلقة صاحبة الصالون الثقافي والفني، التي تشتري السلطان وتعتقه كي يصح توليه السلطنة رسمياً. تتمثل المفارقة في مسرحية الحكيم في أن من يقبل شراء السلطان وعتقه ليس إلا سيدة، وهي امرأة على هامش المجتمع لأن أهل المدينة يظنونها غانية، ثم يتضح بالطبع أن هذا محض سوء تفاهم، وأنها فقط صاحبة صالون مفتوح للفنانين والفنانات، والمثقفين والمثقفات.

هنا مثلت سميحة أيوب دوراً رمزياً، قد نفسره بأنه تجسيد لمصر، أو لفكرة التحرر متجسدة في المرأة المتحررة المستقلة. لكنه دور في مسرحية كانت توجه نقداً قوياً للاتجاه السلطوي في دولة التحرر، وإن كانت تنتصر للاتجاه المعتد بسيادة القانون في إطار الدولة نفسها. فالصراع في المسرحية كان بين السيف والقانون، وبين قائد الجيوش الوزير وقاضي القضاة. ينتصر السلطان للقانون، وإن فهم الناس الإشارة إلى انتقاد ميل الزعيم عبد الناصر إلى استخدام القوة، أو القوانين الاستثنائية في إدارته للبلاد. لكن يظل جسد سميحة أيوب واجهة لخطاب في إطار دولة التحرر، يتبناه يسار النظام هذه المرة.

***

عام 1967 قام الفيلسوف الفرنسي سارتر بزيارة لمصر. وتحية للمثقف الملتزم نصير الشعوب المناضلة من أجل التحرر، ورغبة في اجتذاب تأييده للمواقف المصرية، لاسيما في مواجهة العدوانية والغطرسة التي تبديها دولة الاحتلال، قدم المسرح القومي مسرحية “الذباب” من تأليف سارتر وبطولة سميحة أيوب. انتشرت صورة شهيرة لسارتر وهي يهنئ نجمة المسرح الكبيرة بعد مشاهدته للعرض شهيرة، وهو يشد على يد سميحة أيوب مشيداً بأدائها التمثيلي. هنا أيضاً كان جسد سميحة أيوب علامة تشير إلى خطاب التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار.

سميحة ايوب بجوار سارتر وسيمون وتوفيق الحكيم
سميحة ايوب بجوار سارتر وسيمون وتوفيق الحكيم

عرضت المسرحية للمرة الأولى في باريس عام 1943 في ذروة الاحتلال النازي لفرنسا، وتحكي قصة ألكترا وأخيها أورست، الذين انتقما لاغتيال أبيهما الملك الشرعي أجامنون، بقتل الملك الغاصب الذي جلس على العرش بعد اغتياله أجامنون. فسر النقاد والمؤرخون المسرحية بوصفها تمجيداً للمقاومة ضد الاحتلال، وتحية لمن يقومون بعمليات اغتيال لرموز الاحتلال في إطار المقاومة. عندما قدمت سميحة أيوب دور إلكترا عام 1967، في زمن تصاعدت فيه أعمال المقاومة الفلسطينية ضد سلطات الاحتلال ورموزه، كانت بذلك تجسد إشارة دولة التحرر المصرية إلى التوازي بين نضال المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، ونضال المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

سميحة أيوب والدبلوماسية الثقافية

يمكن اعتبار سميحة أيوب فاعلاً نشيطاً، طلبت منه دولة التحرر الوطني أن يلعب دوراً في إطار الدبلوماسية الثقافية لبلاد، في أطوار متعددة. في الستينات، كانت سميحة أيوب أحد وجوه ريادة مصر الثقافية، والمساهمة في تذكير العالم باندراج خطاب التحرر الإقليمي في إطار خطابات تحررية، مناهضة للعنصرية والاستعمار، تنطلق من الغرب، ولا تقتصر على الشرق الأوسط. لكن بعد أقل من عشر سنوات من عرض “الذباب”، تعود النجمة لتمارس الدبلوماسية الثقافية أو المسرحية في عهد السادات، عام 1976. ضمن جهود الانفتاح على الغرب بعد نصر أكتوبر 1973، استدعت دولة التحرر سميحة أيوب مرة أخرى. كان المطلوب ان تبدأ “تدفئة” العلاقات بين مصر والغرب، بعد فتورها منذ وقفت الدول الغربية إلى جانب إسرائيل في حرب 1967. وبدأت خطوات التدفئة بزيارة الرئيس الأمريكي نيكسون إلى مصر عام 1974، ثم زيارة الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان إلى القاهرة في ديسمبر عام 1975.

في العام التالي، أرسل الرئيس السادات مومياء الملك رمسيس الثاني إلى باريس ليتم ترميمها وإزالة الفطريات التي كانت قد بدأت تهاجمها. وتمثل هذه اللفتة حركة دبلوماسية ثقافية غاية في الذكاء، لمست وترا حساساً في المجتمع الفرنسي الذي يعتبر علم المصريات اختراعا فرنسياً، ويذكر بفخر دور العالم الفرنسي شمبليون في تتويج جهود فك شفرة النقوش الهيروغليفية. بالتوازي مع إرسال فرعون مصر الأسطوري إلى فرنسا، فتحت دولة التحرر خطاً آخر من خطوط الدبلوماسية الثقافية مع فرنسا. أوفدت القاهرة إلى باريس فرقة المسرح القومي لعرض نسخة مترجمة إلى العربية من مسرحية “فيدرا” من تأليف الكاتب المسرحي الكلاسيكي، الفرنسي راسين، بعد اتفاق شفوي مبدئي بين السادات وديستان وسميحة أيوب، التي كانت مدعوة على عشاء يجمع الزعيمين بصفتها مديرة المسرح القومي ووجهاً نسائياً ثقافياً مشرقاً.

***

حكت سميحة أيوب ذكرياتها عن استمرار عرض “فيدرا” بالعربية في باريس على مدار أسبوعين في أكثر من حوار تلفزيوني، وعن نجاح العرض، رغم أنه يقدم مسرحية من كلاسيكيات المسرح الفرنسي، وبلغة لا يفهمها إلا أقلية باريسية، من أبناء الجالية العربية. يلفت النظر أن سميحة أيوب في دور “فيدرا” تقدم وجهاً مغايراً، متوافقاً مع التوجهات الجديدة بعد حرب 1973. فلم تعد المومس الفاضلة التي تنتقد نظام الفصل العنصري الأمريكي وإمبريالية واشنطن. بل هي تقدم فناً نخبوياً، بعيداً بقدر ما عن فكرة الفن الملتزم (بقضايا المجتمع، وهي الفكرة اللصيقة بخطاب سارتر الثقافي). تقدم أيوب هنا فناً يغوص في ماضٍ كلاسيكي نخبوي، في قصة لا سياسية، تدور حول عشق امرأة لابن زوجها، ولوعة غرامها، وعبء شعورها بالذنب، وسقوطها الأخلاقي.

لكن تظل سميحة أيوب صانعة مسرح أصيلة متمرسة، لا تكتفي بخدمة أيديولوجية معينة، وإن كانت واعية بأنها تخدم دولة التحرر الوطني، على تنوع الخطابات السياسية التي تتركز عند أدائها في هذه الحقبة او تلك. كانت سيدة المسرح العربي علماً رسمياً من أعلام المسرح، ولهذا لطالما استخدمتها دولة التحرر الوطني في إنجاز الدبلوماسية الثقافية.

وبعيداً عن الفاعلية السياسية لدور سميحة أيوب، يبقى لها صوتها ذو المساحة العريضة الذي يسمح بأداء طبقات عالية كأنها سوبرانو، وطبقات قرارية كأنها ألتو، وصورة جسدها الراسخ، المتشكل دوماً على هيئة تماثيل تملأ مسرحنا وخيالنا وذاكرتنا السمعية البصرية.

اقرا أيضا:

«الميلودراما والحداثة»: علمنة الأساطير في الخطابات العامة والسينما

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.