«العيدية».. عملة الفرحة في التراث المصري

ما سر تلك الورقة النقدية الصغيرة التي تُعطى للأطفال صباح العيد، فتُشعل في قلوبهم بهجة لا توصف؟ وكيف تحولت من عادة بسيطة إلى طقس اجتماعي متأصل في الوجدان والهوية المصرية؟ وما الذي يجعل عيد مصر مختلفًا، دافئًا؟
بين أيادٍ صغيرة تمتد بلهفة، وأخرى كبيرة تمنح بسخاء، ولدت «العيدية» في مصر كعهد غير مكتوب توارثه الأجيال، وعملة فرح اختزلت طقوس العيد وروح العطاء، حيث لم تكن يومًا مجرد نقود تهدى للأطفال، بل رمزًا اجتماعيًا تراثيًا يحمل ملامح الهوية المصرية بين طياته، ويعكس مدى عمق الترابط الأسري والاجتماعي، وقوة التواصل الإنساني في أبهى صوره. ومنذ أن بزغت العيدية في صورتها الأولى في مصر، مرت بمراحل عديدة، ورغم تغير أشكالها، إلا أنها احتفظت بجوهرها الأساسي من رسم الابتسامة.
البداية في مصر الفاطمية مع الرسوم
في الوثائق التاريخية وكتب المقريزي، يعود أصل العيدية إلى عهد الدولة الفاطمية، التي امتد حكمها من القرن العاشر حتى منتصف القرن الثاني عشر. وقد برزت كأحد مظاهر احتفالات الدولة بشعبها، وكان يطلق عليها اسم “الرسوم” أو “التوسعة”، وكانت تمنح في العيد لحفظة القرآن الكريم والفقراء، على هيئة دراهم ودنانير فضية وذهبية وثياب جديدة، إذ كان الفاطميون يعيرون المناسبات الدينية اهتمامًا خاصًا، كما حرصوا على تأسيس طقوس تحمل الدفء والعطاء.
كذلك خصصت الدولة مبالغ مالية كبيرة للاحتفال، ففي عام 515هـ، بلغت العيدية المخصصة للشعب المصري ما يقرب 16 ألف دينار، وكانت توزع على الموظفين والأمراء والجنود.
ومع مرور الوقت، ونتيجة لاضطراب الأوضاع السياسية والاقتصادية الناجمة عن الحملات الصليبية، بدأت هذه المظاهر بالتلاشي، حيث توقفت الدولة عن منح العيدية الرسمية، واختفت تمامًا في ظل حكم صلاح الدين الأيوبي، لتتحول العيدية بعدها إلى عادة وتقليد شعبي بين أبناء المجتمع المصري، لا دخل للدولة به.
العيدية المملوكية أو الجامكية
لكن العيدية عادت مرة أخرى كمنحة وهبة رسمية مع تقلد المماليك الحكم، فأصبحت طقسا واحتفالا رسميا متقنا. حيث عاد الذهب والدراهم لينسابوا على جميع فئات الشعب، بداية من السلطان وصولًا إلى الجندي. لكن اختلف اسمها ليصبح “الجامكية”. وتفاوتت قيمتها حسب الرتب، وكانت تُقدَم على أطباق من الذهب والفضة. خلال هذه الحقبة كانت الأعياد تتميز بوفرة العطاء. وبرزت أصوات التكبير بصورة أكبر في أجواء من الفرح.
ومع غزو الدولة العثمانية لمصر، تغيرت العديد من العادات والتقاليد. إلا أن العيدية ظلت ثابتة، لكن تبدلت أشكالها، وظل جوهرها محفوظًا، حتى نهاية عهد العثمانيين التي استقرت فيه العيدية كما نعرفها الآن، وباسمها الحالي. ووصلت ليد الأطفال.
تسميات مختلفة وفكرة واحدة
في تراث كل دولة، اختلف اسم العيدية وتنوع، بين” الحوامة” في السعودية، “الخرجية” في سوريا، و”فلوس العيد” في المغرب. لكن في مصر باسمها الأصلي “العيدية”، المستمد من كلمة “عيد”. والذي يحمل في طياته معنى المحبة والعطاء في لحظات الفرح والاحتفال.
طقوس مصرية وأكلات تراثية
وبالعودة إلى التساؤل: ما الذي يجعل العيد في مصر مختلفًا؟ نجد أن الطقوس المصرية هي الإجابة. حيث لا تزال الأسر المصرية تمارس عادات الأجداد المتوارثة منذ تاريخ حضارة مصر القديمة. مثل زيارة القبور، وارتداء الملابس الجديدة، اقتداء من الملكة نفتس رمز الأناقة والجمال، ثم التجمعات العائلية، وولائم الطعام.
وتُعد المأكولات من العادات المقدسة لدى المصريين في العيد. وقد خصصوا له أكلات بعينها. ففي عيد الأضحى، لا يكتمل الاحتفال دون مائدة “الفتة”، التي تعود جذورها إلى مصر القديمة. وظلت حتى وقتنا الحالي، كما وثقها إدوارد لين بول في كتابه عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم.
ولا يقل “الرقاق” أهمية عنها، وهو ذلك الخبز الرقيق الذي ورثه المصريون عن أجدادهم باسم “البتاو”. وتطورت وصفاته، محشوا باللحم أو الجبن، لينسج في ثوب جديد من الأصالة. كما أصبح الرقاق والسمبوسة في شكلهما المعاصر من معالم مائدة العيد. وهو ما وثقته المصادر التاريخية مثل وصلة الحبيب في وصف الطيبات والطيب، وكنز الفوائد في تنويع الموائد.