«القضية 68»: هل يمكننا تخطي الهزيمة؟

كان 1968 عام الاحتجاجات، مظاهرات الطلبة والعمال ضد أحكام الطيران المخففة في فبراير، واعتصام طلبة جامعة الإسكندرية وما تلاه من عنف في فض ذلك الاعتصام في نوفمبر، ومحاولات إعادة النظر من السلطة بطرح تعديل المسار في بيان 30 مارس. وقد بدأت المؤسسة العامة للسينما إنتاجها لهذا الموسم بفيلم «القضية 68» المأخوذ عن مسرحية القضية للكاتب لطفي الخولي؛ التي سبق أن قدمت على المسرح القومي في 2 مايو 1962 من إخراج عبد الرحيم الزرقاني، وسجل التليفزيون العرض المسرحي من إخراج محمود مرسي.
وبعد هزيمة يونيو، كتب لطفي الخولي عن مسرحيته «القضية»- التي قُدمت لأكثر من موسم مسرحي- القصة والحوار لفيلم تمت تسميته «القضية 68»، وكتب السيناريو صلاح أبو سيف، وعلي عيسى، ووفية خيري، وإخراج صلاح أبو سيف.
وإذا كانت المسرحية تناولت قضية الصراع بين تياري الإصلاح والثورية، فإن مضمون الفيلم ليس عن ذلك الصراع، وإنما ضرورة الثورة والتطلع للبناء بعد الهدم من أجل الاستمرار.
***
تدور الأحداث في حي شعبي، وتحديدا في أحد بيوته، حيث بنيت بأعلاه حجرة تجتمع فيها لجنة الحي برئاسة صاحب البيت “منجد عبد السلام”، الرجل المثقف الذي نشأ مؤمنا بأن القانون هو وسيلة تحقيق العدالة. فالحل الوحيد، من وجهة نظر منجد، وحسبما رأى من أبيه القاضي «المنصف» هو الإصلاح بالقانون بالمحكمة. يقول: «المحكمة هي العدل المصفي، هي كلمة الله على الأرض، تجازى أهل الخير، وتعاقب أهل الشر، وترجع الحال لأصله، وتربي الخلق على الحق».
ولكن منجد لم يدرك أن القوانين ليست أزلية، وأنها لا تعدو أن تكون نتاجا للمجتمع في إحدى مراحل تطوره، وأنها غالبا ما تتخلف عن اللحاق بحركة النمو الاقتصادي والاجتماعي، لم يدرك منجد ذلك، ومن هنا كانت المأساة، إذ أدى اعتقاده هذا إلى مهادنة قوى التخلف المستشرية في اللجنة، تلك القوى التي سارعت بتعيين أحد أفرادها رئيسا للجنة بدلا منه في أول فرصة أتيحت لها.
ورغم عقلية منجد الإصلاحية وإيمانه بالقانون، إلا أنه لم يكن يهزأ بالثورة الممثلة في الشباب من أعضاء اللجنة، الذين نبهوه منذ البداية إلى وجود شرخ واضح في جدار الحجرة التي تضمهم، ولكن دون جدوى. لم يستطع منجد أن يؤمن بوسيلة أخرى غير ترميم الشرخ وانتظار الإصلاح، حتى تهدم البيت وحدث الانهيار.
***
ترجع الاختلافات بين الفيلم المسرحية لوجود مسافة زمنية بين تاريخ عرض كل منهما، فالمسرحية تقف بأحداثها عند يناير عام 1952، مع نهاية التجربة السياسية والاجتماعية الأنضج في التاريخ المصري الحديث، بفترة حكم حزب الوفد في أخر تجربة حزبية ناجحة في مصر، قبل أن يحدث التحول الذي أحدثته حركة يوليو 1952. بينما يتعرض الفيلم لمجتمع 1968 ومصر في زمن ما بعد النكسة، وإعادة طرح القضية مرة أخرى بعد أن عجز النظام عن إدراك الشرخ الذي استشرى.
لذلك، فإن الشرخ الذي كان يهدد البيت في زمن المسرحية قد اتسع وازدادت خطورته حتى تهدم البيت في الفيلم كاملا. وبالرغم من النهاية الآملة التي قدمها الفيلم، فإنه أيضا يرثى المجهولين الذين ماتوا تحت أنقاض البيت المهدم. ولكن مضمون الفيلم التراجيدي، حيث العدالة فيه لم تأخذ مجراها، وجثث عديدة لا زالت تحت الأنقاض، لم تكن بالاتساق الكافي مع الإطار الكاريكاتوري الذي استخدمه صلاح أبو سيف في الطرح السينمائي للقضية.
يهدف الفيلم – شأنه شأن المسرحية – إلى التأكيد على أن التغيير الجذري هو الوسيلة الوحيدة لتلافي النكبات. وقد أدرك الأستاذ منجد هذه الحقيقة في المسرحية بوقت مناسب قبل حدوث المأساة، أما في الفيلم، فإنه قد آمن بذلك بعد انهيار البيت المشروخ، وبعد أن دفع العديد من الأبرياء حياتهم دون ثمن. يقدم الفيلم في بداياته – وبأسلوب هزلي – اجتماع لجنة أهل الحي. وبينما يقف أهل الحي الفقراء بوجوههم المرهقة في انتظار قرارات تنصفهم، يغرق أعضاء اللجنة في جدل حول قضايا لا تخدم أهل الحي.
***
ومنذ البداية تظهر الملامح الدقيقة للأستاذ منجد – رئيس اللجنة- وهو يبدو مترددا، يؤمن بالإصلاح الهادئ، والأخذ بالحلول الوسط، واحترام قدسية القانون مهما كان هذا القانون فاسدا، وهو يطمح إلى إرضاء الجميع لكن طموحه هذا لا يتحقق على الإطلاق.
أبطال الفيلم نماذج مسطحة، شخصيات متنافرة تعوزها الملامح الإنسانية. فعلى اليمين، ثمة مدرس الإنجليزية الذي يعمل على زيادة دخله عن طريق الدروس الخصوصية، وتاجر الأقمشة العصامي الذي نال حظا من الغنى ويسعى إلى رئاسة اللجنة بدلا من الأستاذ منجد، ثم التمرجي اللص الذي يتاجر في الأدوية المسروقة.
ويقدم الفيلم هذه الكتيبة على أنها مركز ثقل الرجعية، ويكون موقعها دائما في مواجهة كتيبة الشباب التقدميين المؤمنين بالتغيير الجذري. ولكن يبدو أن صلاح أبو سيف قد أحس بعدم جدوى الصراع بين الجانبين، فجعل الطابع الكوميدي مسيطرا على اجتماعات اللجنة.

***
أشار لطفي الخولي في مشهد الافتتاح بمسرحيته إلى أن بيت الأستاذ منجد مشروخ، وأن الرجل مكتف بأن الشرخ غير ظاهر، حيث الكتب تخبئه. ثم يعمل على ترميم الشرخ وطلائه من الخارج. وكان دور هذه المعلومة في المسرحية مقصورا على كشف طبيعة الأستاذ منجد الإصلاحية. أما في الفيلم، فقد استغلت استغلالا جيدا، عندما أصبح الشرخ يزداد اتساعا وخطورة بمرور الوقت. وبالرغم من تحذيرات الشباب المتوالية للأستاذ منجد، تجده يتعامى عن الخطر المحدق بالجميع. ويصر على أن البيت سيتماسك عن طريق ترميمه وطلائه.
وقد حاول الفيلم أن يجعل لحادث انهيار البيت دلالة أشمل وأعمق من مجرد انهيار منزل، دلالة تقول إن المصير التعس يتهدد الجميع إذا لم يبادروا بتغيير الفساد تغييرا جذريا. إن انهيار البيت في الفيلم هو النكبة الحقيقية التي دفع ثمنها الجميع.
الفيلم لم يستطع أن يخرج من إطار المسرحية، فالإحساس الذي يتركه الفيلم في ذهن المتفرج هو أن ما يشاهد مجرد مسرحية مصورة. وكان الحوار الخطابي هو الوسيلة الأساسية للتعبير، حتى أن الفيلم قد اشتمل على أجزاء طويلة من الحوار الذي تضمنته المسرحية، مما جعل للصورة مكانا ثانويا، حيث ظلت الكاميرا جامدة، محاصرة معظم أحداث الفيلم.
***
ينتهي الفيلم بإلقاء القبض على منجد، الذي كان ينبغي عليه أن يهدم العمارة، بوصفه رئيس لجنة الحي، وأن يعيد بنائها من جديد، ولكنه انتظر طويلا ولم يتخذ القرارات المناسبة حتى انهارت العمارة على رؤوس ساكنيها. وقد ألقى القبض عليه لأنه تجرأ على عدم احترام أحد رجال الحكومة، والقانون المعووج والذي طالما طالب عبده، الشاب الثوري، بإعادة النظر فيه.
في القضية 68، يتجاوز المخرج مجرد الطرح إلى اتخاذ موقف من سياسة اعتمدت، في سيرها لتغيير المجتمع، على اللعب بكل الأوراق. نجد هذه الفكرة في شخصية منجد، الذي حاول أن يُقرب بين جميع الناس، ولكنه فشل، فسقط في الفخ الذي حاول ألا يقع فيه منذ البدء.
هذه السياسة حاولت ترميم شرخ أحدثته سنوات طوال من رواسب الجهل والجمود والفساد، ولكنها فشلت. فلا يمكن التأكد من سلامة البناء إلا إذا تم التأكد انه تم على أسس صلبة، وإلا فلا يلبث المزيد من التأمل في تاريخ هذا الشرخ أن يصبح انهيارا تاما.
وإذا كان السؤال الذي نستشفه من الفيلم ككل، وهو ما سبب هزيمة يونيو؟ وهل التغيير الجذري هو الطريق الوحيد لتلافي النكبات؟ هذا السؤال، الذي يكاد يكون الفيلم محاولة للإجابة عليه.
اقرأ أيضا:
«50 عاما من البورتريه السينمائي».. معرضان بالقاهرة والإسماعيلية لشيخ المصورين محمد بكر