نقاشات حادة في بريطانيا لإعادة المومياوات المصرية.. لماذا تغيب مصر عن المشهد؟

تشهد المملكة المتحدة، منذ أكثر من شهرين، نقاشات متصاعدة داخل الأوساط السياسية والثقافية تطالب بإعادة الرفات البشرية والمومياوات المصرية المعروضة في المتاحف البريطانية إلى موطنها الأصلي.

تأتي هذه الدعوات ضمن توجه نحو تبني نهج أخلاقي يحترم كرامة الموتى، ويعالج إرثًا من النهب الاستعماري، بمشاركة فاعلة من جمعيات إفريقية ومنظمات مدنية. ورغم حساسية القضية وارتباطها المباشر بالهوية المصرية، يبرز سؤال ملحّ: لماذا يغيب الصوت الرسمي أو الشعبي المصري عن هذه النقاشات البرلمانية التي تُعيد فتح ملف استرداد المومياوات؟

غياب الصوت المصري

عن غياب الصوت المصري عن هذه النقاشات، ترى الباحثة د. هبة عبدالجواد، المشرف الأول على قسم الأنثروبولوجيا بمتحف وحدائق هورنيمان في لندن، ومؤسسة مبادرة “آثارنا المتغربة”، أن هذا الغياب غير مبرر ويجب تداركه.

وتوضح في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»، أنها نشرت في عام 2023 بحثًا تناول هذه الإشكالية تحديدًا. مشيرة إلى أن أحد أبرز دوافعه كان غياب موقف رسمي أو مشاركة واضحة من الجانب المصري في القرارات البريطانية المتعلقة بإعادة المومياوات والرفات إلى موطنها الأصلي.

وتقول الباحثة: “من المهم أن يشارك المصريون في صياغة هذه القرارات، لا أن تُتخذ بشكل منفرد داخل المؤسسات البريطانية”. وتؤكد أنها تعمل حاليًا على هذه القضية من خلال مسارين متوازيين. الأول: بحثي وأكاديمي، والثاني: عملي داخل المؤسسة المتحفية التي تعمل بها. وتضيف: “أجريت مؤخرًا تعديلاً على السياسات الداخلية للمتحف الذي أعمل فيه. بما يخص التعامل مع الرفات الآدمية، بحيث تكون أكثر احترامًا وشفافية، وتتضمن إشراك المجتمعات الأصلية المعنية. وفي مقدمتها المجتمع المصري”.

نقد للنهج الاستشراقي في المتاحف

يقابل هذا الجهد عمل أكاديمي شاركت فيه د. عبدالجواد إلى جانب الباحثة البريطانية أليس ستيفنسون. من خلال فصل مشترك بعنوان: “بقايا المصريين المحنطة: مجتمعات النسب والممارسة”. نُشر ضمن دليل روتليدج للمتحف والتراث والموت (2024). يتناول الفصل رؤية غير تقليدية لكيفية التعامل مع المومياوات المصرية في المتاحف الغربية. مع التركيز على أهمية الاستماع إلى الأصوات المصرية التي كثيرًا ما تم تجاهلها.

ينطلق الفصل من فرضية أن المصريين المعاصرين ليسوا مجرد جمهور خارجي يراقب تراثه من بعيد. بل يشكّلون ما تصفه الباحثتان بـ”مجتمعات النسب”. وهي مجتمعات ترتبط بالرفات المعروضة بصلات جينية وثقافية وجغرافية، بل وحتى روحية. وبالتالي، فإن من غير المنطقي الاستمرار في التعامل مع المومياوات كمجرد أدوات للعرض أو الدراسة. دون الأخذ برأي من يُفترض أنهم ورثة هؤلاء الأجداد.

ينتقد البحث الأساليب الحالية التي تتبعها بعض المتاحف الكبرى في أوروبا، مثل المتحف البريطاني ومتحف مانشستر، في عرض المومياوات. ولا يدعو البحث إلى حلول جاهزة أو قرارات أحادية الجانب. بل يطالب بمساحة حوار مستمر تبنى على مبدأ “التعاطف الاستراتيجي” – أي إدراك أن هذه البقايا تعني الكثير لأناس ما زالوا يرون في أصحابها جزءًا من ذاكرتهم وهويتهم. ويشمل ذلك إعادة النظر في اللغة المستخدمة عند وصف هذه الرفات، وتغيير طريقة عرضها.

مومياوات مصر والامتلاك الثقافي!

الأمر نفسه كان موضع اهتمام الباحثة البريطانية د. أنجيلا ستين التي تساءلت عن سبب استمرار وجود الجثث المصرية القديمة خلف زجاج المتاحف الأوروبية. وناقشت هذه القضية في عدد من الندوات باريس إلى إنجلترا.

ووثقت أهمية إعادة المومياوات المصرية إلى موطنها الأصلي في كتابها “محنطة: قصص المومياوات المصرية في المتاحف”، الصادر عن جامعة مانشستر. وتساءلت الباحثة، المتخصصة في أخلاقيات المتاحف، عن سبب عدم مطالبة مصر بها. مشيرة إلى أن هذا الإرث المحنّط “يعكس أكثر مما نعتقد عن رؤيتنا للآخر، ولأنفسنا، ولتاريخنا”.

وقالت إن المومياوات المصرية، التي دُفنت في المقابر كتعبير عن التقديس والخلود، أصبحت في بعض الأحيان مواد تعليمية، أو حتى معروضات ترفيهية. وأوضحت أن المتاحف الأوروبية، رغم مكانتها العلمية، لم تنفصل يومًا عن أصولها الاستعمارية. التي جعلت من نقل الجثث والتحف نوعًا من “الامتلاك الثقافي” باسم الحضارة.

كتاب قصص المومياوات المصرية في المتاحف لأنجيلا ستين
كتاب قصص المومياوات المصرية في المتاحف لأنجيلا ستين
تراث مسلوب 

تناولت ورقة بحثية أخرى القضية نفسها، تحت عنوان «إصلاح الظلم التاريخي: إعادة رفات الشعوب الأصلية من خلال العدالة الانتقالية». ونُشرت بواسطة مطبعة جامعة كامبريدج.

تتناول الورقة قضية البقايا البشرية والمومياوات المصرية التي استولى عليها الأوروبيون خلال الحقبة الاستعمارية. مركّزة على ما تمثّله هذه الرفات من إرث مادي وغير مادي. وعلى التحديات الأخلاقية والقانونية المرتبطة بإعادتها. وتُعرّف المقالة الرفات البشرية على أنها جزء فريد من التراث الثقافي للشعوب الأصلية. ليس فقط بسبب طبيعتها المادية، بل لأنها تمثل الروح الجمعية والمقدسات المرتبطة بهوية المجتمع.

وتوضح أن إزالة هذه الرفات من أوطانها الأصلية خلقت شكلين من التراث: التراث المادي، المتمثل في عرض الرفات أو تخزينها في متاحف الدول الاستعمارية السابقة، والتراث غير المادي، المتمثل في ذاكرة المجتمعات التي عاشت الاستعمار وما خلفه من ألم وخسارة.

وبحسب البحث، ورغم أن بعض المعاهدات الدولية، مثل “إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية” لعام 2007، تعترف بحق الشعوب في استعادة رفات أسلافها. فإن الإطار القانوني الحالي لا يزال ضعيفًا. وفي حين تُدرج بعض الوثائق، مثل “مدونة أخلاقيات المتاحف” الرفات ضمن “المواد الحساسة ثقافيًا”. لكن اتفاقيات أخرى، مثل اتفاقية اليونسكو لعام 1970، تفشل في معالجة القضية. لأنها لا تعتبر الرفات البشرية من الملكيات الثقافية في مفهومها التقليدي.

الاتجار بالبشر.. بعد الموت

نشر الموقع الرسمي لمجلس النواب البريطاني كواليس الجلسة المنعقدة في مارس الماضي، والتي ناقشت  قضية الاتجار بأجزاء الجسد البشري. واحتفاظ المتاحف البريطانية بها – بما في ذلك المومياوات المصرية ورفات الشعوب الأصلية.

تحوّلت جلسة مجلس اللوردات الأخيرة إلى ما يشبه محكمة ضمير حيّة، حيث استعرض أعضاء المجلس واقعًا صادمًا حول كيفية تعامل بريطانيا – عبر المتاحف والأسواق – مع رفات بشرية مأخوذة من المستعمرات السابقة. وعلى رأسها مصر والهند وأستراليا وشعوب جزر المحيط الهادئ.

وكان من أبرز المدافعين عن القضية اللورد بول بواتينج، أول وزير أسود في تاريخ بريطانيا، والذي حول الجلسة إلى وقفة ضمير جماعية أمام إرث استعماري لا تزال آثاره تملأ المتاحف البريطانية. واصفا هذه الممارسات بأنها “إهانة لإنسانيتنا المشتركة”.

ووجّه بواتينج سؤالًا مباشرًا إلى الحكومة حول تقييمها لممارسات بيع، عرض، واحتفاظ المتاحف البريطانية ببقايا بشرية تعود لشعوب أصيلة، سواء في المزادات العلنية أو ضمن مجموعات عامة.

وبحسب النص الرسمي للجلسة، شمل حديثه قضايا أوسع، مثل المومياوات المصرية التي لا تزال تُعرض في المتاحف البريطانية – ومنها المتحف البريطاني – دون استشارة أو موافقة من الدولة الأم أو أحفاد المتوفين. ورأى أن هذه الممارسات تعكس نظرة استعمارية قديمة لا تزال حاضرة في أسلوب تعامل المتاحف مع “الجسد غير الأوروبي”.

تحرك حكومي وتشريعي

طالب بواتينج الحكومة البريطانية الجديدة باتخاذ إجراءات واضحة لإعادة الرفات البشرية إلى مجتمعاتها الأصلية. مؤكدًا أن هناك عراقيل تشريعية يجب إزالتها فورًا. ودعا إلى:

  • إنشاء قاعدة بيانات وطنية لحصر جميع الرفات البشرية في المجموعات العامة.
  • إعادة النظر في توجيهات المتاحف بشأن عرض الأجساد البشرية والتصرف بها.
  •  تشكيل فريق من الخبراء لمساعدة الحكومة على العمل بشكل أخلاقي.

وانتقد المتحف البريطاني، قائلا إن أمناء المتاحف يجب أن يتوقفوا عن “الاختباء وراء القوانين الغامضة”. مطالبا بخطوات جادة لتحقيق العدالة والكرامة، مؤكدا أن “رفات البشر ليست ممتلكات”.

سرقة الموتى ليست تراثا!

شهد المجلس نقاشًا حادًا، تضمن اتهامات صريحة للمتحف البريطاني وسوق المزادات العالمية بممارسة “سرقة بحق الأموات”، وتحويلهم إلى سلع قابلة للبيع والاقتناء. وأشار بواتينج إلى أن سرقة الموتى ليست تراثا، وأنه يجب وضع سياسات متحفية واضحة تتيح الإرجاع التلقائي للرفات بمجرد تقديم طلب رسمي من المجتمع المتضرر.

من جهتها، قدّمت البارونة سو بلاك، أستاذة علم التشريح والأنثروبولوجيا الشرعية، مداخلة كشفت فيها هشاشة الوضع القانوني للرفات البشرية في بريطانيا، واصفه إياه بـ”الثغرة كارثية التي يتم استغلالها تجاريًا بلا ضمير”. وأشارت إلى أن كثيرا من المومياوات والرفات في بريطانيا مصدرها نبش القبور أو التجارة في الدول الفقيرة، لاسيما عندما كانت بريطانيا جزءا من شبكة عالمية لاستيراد الهياكل العظمية الطبية، استمرت حتى عام 1985. ثم تحولت إلى سوق سوداء ومتاجر خاصة.

قضية أخلاقية

أوضحت بلاك التناقض القانوني في بريطانيا، حيث توجد قوانين لحماية العاج، لكن لا يوجد أي قانون يمنع بيع المومياوات أو عظام الأطفال. واقترحت إصدار عفو عام عن المواد المحفوظة حالياً في المجموعات الخاصة، مع ضرورة وضع إطار قانوني يجرم بيع رفات أي إنسان، بغض النظر عن عمرها أو مصدرها.

في السياق نفسه، تحدثت البارونة ناتالي بينيت، مشيرة إلى أن قضية الرفات البشرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالماضي الاستعماري غير المُحاسب، وقالت: “رغم أن النقاش لم يركّز على المومياوات المصرية بشكل مباشر، إلا أن هذه الأخيرة تمثل جزءا أساسيا من القضية، فهي رفات بشرية مقدسة من حضارات قديمة، لا يجوز عرضها كما لو كانت تحفا بلا هوية”.

إهانة المومياوات المصرية

أشارت المجموعة البرلمانية إلى مثال صادم من التاريخ، هو استخدام مومياوات المصريين القدماء في الطب وصناعة الطلاء خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إذ كان هناك لون شهير يعرف باسم “البني الموميائي”، مصنوع من مسحوق المومياوات.

ورغم مرور الزمن، لا يزال هذا الاستغلال قائما بأشكال أكثر”حداثة”، واستعرضت المجموعة حالة متحف تشاو تشاك وينغ بجامعة سيدني، الذي قرر العام الماضي إزالة مكونات بشرية مصرية محنطة من العرض العام، من بينها يد محفوظة في علبة بسكويت، وجزء من رأس ملفوف بضماد.

تجارة مربحة على حساب الموتى

من جانبه، تناول إيرل إفينجهام واقعة حديثة تعود إلى أكتوبر 2024، حين اضطرت دار مزادات في أوكسفوردشاير إلى سحب رفات بشرية من المزاد بعد اعتراضات قوية من السكان الأصليين وخبراء المتاحف.

وطالب بدعم سياسات إعادة المومياوات والرفات إلى موطنها، داعيا إلى حصر شامل لجميع القطع البشرية في المتاحف والمزادات. كما شددت مداخلات أخرى على ضرورة الموازنة بين الاعتبارات الأخلاقية والدور التعليمي للمؤسسات الثقافية، وفي مقدمتها المتاحف البريطانية.

دفاع ضمني.. وفتح جراح الاستعمار

أشار أحد المتحدثين إلى أن المتاحف- مثل المتحف البريطاني- يحتفظ بالرفات من أجل تثقيف الأجيال حول الحضارات القديمة. وأوضح أن المتحف البريطاني يحتفظ بأكثر من 6000 عينة من الرفات البشرية. تشمل هياكل عظمية، ومومياوات، جثث مستنقعات، وحتى أدوات صنعت من أجزاء بشرية، يتعرف الزوّار من خلالها على التاريخ المصري القديم. وفي دفاع ضمني عن الاستمرار في عرض بعض المومياوات، أشير إلى أن إزالتها من المتاحف دون فهم السياق الثقافي والتاريخي، قد يفقد الزوّار أداة تعليمية مهمة.

بدورها، أكدت البارونة تويكروس، وكيلة وزارة الدولة لشؤون الثقافة والإعلام والرياضة، أن القانون يسمح للمتاحف الوطنية بإزالة الرفات البشرية من مجموعاتها، خاصة إذا كانت تعود لأشخاص توفوا منذ أقل من ألف عام.

تطور دولي.. فرنسا تعيد الجماجم

تزامنت هذه المناقشات البريطانية مع إعلان الحكومة الفرنسية، في إبريل 2025، عن إعادة جماجم الملك تويرا وثلاثة من محاربي شعب ساكالافا إلى مدغشقر. في خطوة وصفت بأنها تاريخية باتجاه تصحيح ممارسات الماضي الاستعماري.

وبحسب صحيفة “ذي آرت نيوز بيبر” قال رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، إن إعادة الرفات البشري يعكس رغبة فرنسا في مواجهة ماضيها الاستعماري بشجاعة ومسؤولية. مضيفًا أن “الاعتراف بالتاريخ هو بداية للمصالحة، لا نهايتها”.

اقرأ أيضا

«عرضها أمر مسئ»: هل تعود المومياوات المصرية من بريطانيا؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.